وثائق تكشف كواليس عمليات عقارية غامضة بوسط عين الذئاب بالدار البيضاء
عزيز الحور
إذا سئل أي قاطن بالدار البيضاء، أو حتى مقيم بمدينة سواها، عن أفخم مكان بالعاصمة الاقتصادية فالجواب سيكون «عين الذياب» بكل تأكيد. هنا التراب يوزن بميزان الذهب. كبار المستثمرين في عالم العقار بالمغرب يتسابقون على اقتناء أراض هنا، حتى لو كانت عليها أحياء صفيحية، هؤلاء مستعدون لفعل أي شيء للاستثمار في البقعة الأشهر بالمغرب.
في طريق الركض وراء عقارات عين الذئاب تحدث خلافات حادة بين أطراف العلاقة التجارية. الخلافات تتطور لتصل المحاكم. هنا تظهر معطيات تكشف كثيرا من المستور الذي ظل مخبأ بعناية في رفوف وأدرج مكاتب موثقين.
في التحقيق التالي سنتعقب ملفات عقار ملغزة تتعلق بأراض بعين الذئاب، بالوثائق وشهادات الأطراف المعنية.
أسماء رنانة كانت ترد على مسامعنا كلما مررنا، رفقة مرافقنا، ابن منطقة عين الذئاب، بالقرب من أرض خالية أحيطت بسياج أو بدأت أشغال تجهيزها. يبدو أن كل كبار العقار تمكنوا من الحصول على عقارات هنا، بدءا بالعلمي لزرق، صاحب شركة «أليانس»، الذي اقتنى من الأملاك المخزنية جزءا كبيرا من أرض «الديسة» كما كانت تسمى. كل ذلك مقابل تهيئة حديثة الألعاب «سندباد» كي تفتح من جديد.
لا يظهر لمن لا يعرف خريطة المنطقة سوى كثير من أشجار السدر المتشابكة. خلف هذه الأشجار تتوارى بنايات أقيمت في السنوات الأخيرة؛ فيلات وعمارات سكنية وفندق في طور الإنجاز، وصولا إلى «طريق أزمور»، حيث توجد تجزئة سكنية خاصة بجمعية الأعمال الاجتماعية لموظفي ولاية جهة البيضاء، والتي كانوا حازوا عليها من الأملاك المخزنية مقابل 900 درهم للمتر المربع، واستفاد من بقع فيها كبار موظفي الداخلية.
بين الأسماء التي اختارت التسابق على شراء عقارات في هذا المكان لتحين فرصة بنائها وتحويل استثمار بسيط إلى منجم ذهب زهور القباج، ابنة محمد القباج، أحد رجال الأعمال المعروفين. القباج تسير الآن شركة «صوفت غروب» (Soft group) أحد أكبر الشركات بالمغرب، والتي تضم، إلى جانب شركات عقارية، شركة «ديامونتين» المعروفة في مجال بيع الملابس التقليدية.
شركة «صوفت غروب» أحدثت منذ سنة 1998، عند بداية ثورة العقار بالمغرب. ومنذ مجيء زهور القباج انصرف اهتمام الشركة لتشييد الفيلات على طول الطريق الساحلية المخترقة بتراب جماعة «دار بوعزة»، وأيضا بمنطقة عين الذئاب. لذلك كانت أرض تضم حيا صفيحيا معروفا بـ«دوار أولاد الجمل» مثار اهتمامها. تملكت شركة القباج الأرض في النهاية. فهل مر ذلك بسلام ودون كثير لغط؟
الأمور لم تمر بالشكل المثالي الذي يجب أن تسير عليه. في ملف البيع موثقة اختفت بالولايات المتحدة الأمريكية وبائعون يقولون إنهم لم يروا قط القباج أو اتفقوا معها على بيعها الأرض التي فوتت بألفي درهم للمتر المربع. قيمة العقار المجهز هنا لا تقل عن 15 ألف درهم.
صفقة غير تامة
في وثائق الملف التي نتوفر على نسخة منها لدينا وعدان بالبيع يخصان العقار ذاته «أرض حكيمي وكرمام وولد الجمل». مساحة الأرض تفوق 9 آلاف متر مربع. وعد البيع الأول بين شخصين يدعيان «ك.م» و«ع.ب»، وبين البائعين وهم 10 أشخاص من ذوي حقوق بالعقار، ووعد البيع الثاني بين البائعين أنفسهم وبين زهور القباج بصفتها مسيرة شركة «فياديتشي» (viadici).
وعد البيع الأول سابق على الثاني، وليس في الملف ما يثبت أن الوعد الأول تم فسخه، بل أكثر من ذلك مازال المشتريان الأولان يطالبان بإتمام البيع، فكيف حصلت زهور القباج على العقار إذن؟
لنعد بالقصة من البداية، من اللحظة التي كانت فيها الموثقة التي صارت معروفة بالدار البيضاء تخطط، على ما يظهر من خلال وثائق ملفها المعروض على نظر القضاء، لفعل شيء قبل أن تحزم حقائبها، سرا، وتقرر مغادرة المغرب. بدأ كل شيء يوم 8 أكتوبر 2008. في هذا التاريخ، وكما تفيد وثيقة الوعد بالبيع الأولى، أشرفت الموثقة المذكورة على عقد وعد بالبيع بين البائعين العشرة المالكين على الشياع لعقار عين الذئاب، وبين شخصين هما «ك.م» و«ع.ب».
في وعد البيع المذكور تمت الإشارة إلى أن مساحة العقار، الواقع بتراب مقاطعة آنفا، تبلغ 9699 مترا مربعا. حدد ثمن البيع في ألفي درهم للمتر المربع. القيمة الإجمالية للصفقة بلغ إذن 19 مليونا و398 ألف درهم، أي نحو ملياري سنتيم.
تؤكد رواية البائعين أن عملية إتمام البيع تعثرت بعد ذلك التاريخ. ظل المشتريان، حسبهم، يتملصون من إتمام الصفقة. ظلوا أيضا، كما يؤكدون، يترددون بمكتب الموثقة كي تفعل مسطرة إتمام البيع. كانت الموثقة، كما يقولون، تؤجل الإجراءات في كل مرة بطريقة ملغزة.
استمر الوضع على هذه الحال حتى مطلع سنة 2014، حينها سيكتشف البائعون، كما يقولون، أمرا مثيرا. الاكتشاف تم بعد توصل أحد قاطني البراريك الواقعة بالعقار بإنذار إفراغ. عند الاستفسار تم أن الإفراغ سيكون لصالح شركة اسمها «فياديتشي». مالكتها هي زهور القباج، المالكة لعقارات أخرى قريبة من أرضهم. بينها أرض اقتنتها من أحد أفراد عائلة السقاط. سنعود لتفاصيل العملية بعد قليل. كيف دخلت القباج الصفقة؟
الواضح، حسب وثائق الملف، أن وعدا بالبيع ثانيا قد ظهر. تمت الإشارة إلى أنه سجل يوم 28 دجنبر 2013. مضمونه يشير إلى أن البائعين العشرة المذكورين أشروا على وعد ببيع أرضهم لشركة «فياديتشي» التي تمثلها زهور القباج. وعد البيع الثاني نسخة مطابقة للأول. الثمن ذاته مدرج في الوعد الثاني. لم يضف عليه سوى تحديد شرط تعهد البائعين بإزالة البراريك من العقار، إلى جانب تفصيل حصة كل شخص من ثمن البيع، لكن عند مقارنة الثمن الإجمالي مع مجموع حصص كل بائع يبرز فرقا يفوق نصف مليار سنتيم.
وعدان ولغز
أمامنا الآن وعدان بالبيع. الأول يبيع بموجبه الورثة أرضهم لشخصين ذكرين وفي الثاني يبيعونها للقباج بالثمن نفسه. فأي الوعدين صحيح؟ ما الذي حدث للموثقة حتى سجلت وعدين بالبيع يخصان العقار ذاته؟ أي الأطراف الأربعة على حق وأيهم يكذب؟ هل الموثقة أم شركة «فيادتشي» أم الورثة البائعون أم المشتريان الأوليان؟
على نحو مختصر، يظهر تحقيقنا في الملف، وعبر استقاء وجهات نظر المعنيين به، أن ثمة عدة فرضيات؛ الأولى تشير إلى أنه حينما تأخر المشتريان في إتمام البيع لجأ الورثة البائعون، باتفاق مع الموثقة، لبيع الأرض لشركة القباج التي كانت مستعدة لدفع الثمن فورا، والفرضية الثانية تشير إلى أن الورثة كانوا ينتظرون تسوية البيع مع المشتريين الأوليين قبل أن يفاجؤوا بتغيير الصفحات الأولى من عقد وعد البيع بعد إدراج شركة القباج كمشترية والاحتفاظ بالصفحة التي تضم توقيعاتهم، وبالتالي فهم لا يعلمون بأمر بيع عقارهم للقباج. فأي الفرضيات أصح؟
لا يمكن القطع بجواب. معطيات الملف، كما سنورد، تظهر أن كل الفرضيات ممكنة، لكن القطع بها يفترض جوابا قاطعا من الموثقة نفسها. هاته الأخيرة، وبعد الانتهاء من كل هذه العملية اختفت، وفق ملف قضائي، عن الأنظار. معطيات الملف القضائي تؤكد أنها غادرت التراب الوطني نحو الولايات المتحدة الأمريكية بعدما تراكمت عليها أموال كان يتعين إيداعها في حسابات ذوي حقوق. عددهم يفوق العشرة.
ترك اختفاء الموثقة الباب مفتوحا على كثير من الاحتمالات، لكن ما هو يقيني هو أن الملف سار على النحو التالي: استندت القباج على عقد وعد البيع لتسجيل العقار باسمها. حازت ملكية العقار بعد عرض الملف على القضاء. في الحكم القضائي المدني الابتدائي الذي صدر، بتاريخ 13 أبريل الماضي، بعد مقاضاة أحد البائعين لشركة القباج، وإدخالها بقية البائعين في الدعوى، قضت المحكمة بعدم قبول طلب المدعين بعدما أثاروا كون العملية شابها تدليس. رئيس هيأة الحكم يحمل الكنية ذاتها التي تحملها والدة السقاط، الشاب الذي ذكرنا أنه باع عقارا بالمكان ذاته للقباج شهر غشت الماضي. نحو 9 آلاف متر أيضا، لكن ثمن البيع فاق قيمة بيع أرض الورثة بخمسة أضعاف.
في هذا الحكم كثير من المعطيات المثيرة، أولها أن شركة «فياديتشي» دفعت للبائعين، على الأقل كما هو مدرج في العقد، أزيد من 950 مليون سنتيم كتسبيق دون المرور عبر الموثقة، أي مباشرة ودون إيداع شيكات في حساب الموثقة ومن ثمة تحويلها للبائعين. في العقد ذاته ورد أن شركة القباج دفعت للبائعين أيضا نحو 350 مليون سنتيم دون المرور عبر محاسبة الموثقة.
الأدهى من ذلك كله هو أن أصحاب الأرض أكدوا أنهم لم يسبقوا أن رأوا القباج ولا اتفقوا معها على بيع ولا وقعوا معها على عقد، كما أن العقد حرر بالفرنسية التي لا يجيدها عدد من أصحاب الأرض، ولم تشر الموثقة فيه إلى هوية مترجمين. لكن ما حقيقة ادعاء شركة القباج، كما هو واضح في عقد الموثقة، أنها سلمت البائعين دفعة أولى تقارب مليار سنتيم، أي نصف قيمة البيع؟
في الواقع، وبعد بحثنا في الملف، تبين فعلا أن شركة القباج أودعت شيكات في حساب الموثقة كمقابل على عملية البيع. هذا ما أقرته أيضا محاسبة الشركة التي اتصلنا بها وأكدت أن عملية البيع تمت بشكل قانوني وتم خلالها إيداع مبالغ مالية في حساب الموثقة، مضيفة أيضا أن البائعين قبضوا مستحقاتهم، قبل أن تؤكد أن المسؤول القانوني للشركة سيتصل بنا لإيراد ما يثبت كل ذلك، وهو ما لم يتم لحد الساعة.
البائعون، من جهتهم، ينفون أن يكونوا توصلوا بأي مبلغ ويتشبثون بأنهم لا يمضوا على أي عملية بيع مع القباج، وأن آخر ما ظل معلوما لديهم هو أنهم ملتزمون بوعد بيع مع الشخصين المذكورين. لكن، عند بحثنا في حيثيات الملف ووثائق يظهر أن القباج أودعت، فعلا، شيكات، في حساب الموثقة. مجموع هذه الشيكات يختلف عن قيمة الصفقة، أي أن ثمة هنالك فرضية لجوء إلى «النوار». معطى ردت عليه المحاسبة بكون ما أودع في الشيكات يضم مصاريف التسجيل والتحفيظ والتوثيق أيضا. فأين ذهب ما يناهز مليار سنتيم؟
هنا تسير كل القرائن، بما فيها اختفاء الموثقة عن الأنظار بعد العملية، أن الأخيرة لم تسدد المستحقات لأصحابها قبل أن تلوذ بالفرار. بمعنى أن كلا من القباج والبائعين راحوا ضحية عملية نصب من طرف الموثقة. لكن ما جواب شركة «فياديتشي» عن دفع البائعين بكونهم لم يبيعوا لها العقار أصلا، عكس ما هو مضمن في العقد؟ ما صحة العقد أصلا، علما أن البائعين قدموا بخصوصه، وبتاريخ 13 أبريل 2014، شكاية لدى الوكيل العام للملك باستئنافية الدار البيضاء من أجل النصب والتزوير في محرر رسمي يقولون فيه إن العقد مزور؟
الشكاية لم تحرك منذ ذلك الحين، كما أن القاضي الذي سبق أن ذكرنا حكم في الملف المدني ولم ينتظر مآل الشكاية الجنائية. هل نصبت الموثقة على القباج والبائعين معا وبالفعل؟ هل كان هناك اتفاق بين القباج والبائعين على البيع غير أنه فسخ بعد شروع القباج في تفعيل مسطرة إفراغ براريك الأرض وهدمها بالقوة العمومية؟
أسئلة ظلت غامضة تنتظر فتح شكاية الملف الجنائي. ما زاد من غموضها أن المشتريين الأوليين ظهرا مجددا ورفعا دعوى ضد البائعين يطالبان فيها بإتمام عملية البيع بناء على الوعد الأول الذي لم يفسخ.
أسماء مسؤولين ترابيين في ملفات عقارات عين الذئاب
غير بعيد عن أرض «دوار أولاد الجمل» هاته تجري عمليات عقارية أخرى لا تقل إلغازا، وكأن كل المعاملات العقارية في هذه البقعة لا يجب أن تمر دون إثارة صخب. بين الصخب هنا ما ارتبط بأسماء أبناء وزراء سيادة سابقين.
يتعلق الأمر بملف عقار يدعى «ك»، يوجد قبالة تمثال «السندباد» في موضعه القديم. العقار الذي تفوق مساحته أزيد من هكتارين موضوع مطلب تحفيظ في اسم شركة في الأصل كان العقار مملوكا لخواص قبل أن تشرع الدولة في انتزاع ملكيته. بيد أنه في لحظة من اللحظات، وبتاريخ 22 يونيو 2000، ستظهر وثيقة هي شهادة إدارية تشير إلى تملك مسؤول ترابي نافذ بالدار البيضاء للأرض.
الأرض هاته الآن كانت موضوع مبادلة مع مجموعة بنكية كبرى مقابل مبلغ كبير، كيف تم ذلك؟.. ليست هناك تفاصيل.
ليس المسؤول الترابي المذكور ولا حتى ابن وزير سابق الوحيدين اللذين ورد اسماهما في ملفات عقارية بعين الذئاب، فاسم نائب سابق لرئيس مقاطعة أنفا، التي تتبع لها منطقة «عين الذياب»، وارد في ملف قضائي موضوع نظر بعد طعن ورثة عقار في عملية بيع الشخص المذكور لأرض قالوا إنها ملكهم وليست ملكه. مساحة العقار تقدر بـ3367 مترا مربعا.