يونس جنوحي
كل من «سمع» خبر نهاية تجربة راديو الـ«بي بي سي» العربي، إلا ويتأسف لنهاية تجربة إعلامية ترسخت في أذهان أجيال من سكان المساحة الممتدة من المحيط إلى الخليج، وجعلت من بصمة «هنا لندن» وحدها مرحلة تاريخية.
النسخة العربية لراديو الـ«بي بي سي» عمرت لسنوات طويلة جدا، بدأت أولى خطواتها تعريبا للمحتوى الإنجليزي للإذاعة، التي كانت لوحدها ثورة في الاتصالات خلال القرن الماضي.
ربما يكون الصحافي المغربي الراحل سعيد حجي أحد أوائل المغاربة، إن لم يكن الأول الذي تعرف عليه صحافيو إذاعة لندن، خلال ثلاثينيات القرن الماضي. إذ كانت وقتها الإذاعة الأكثر انتشارا في العالم تبحث عن أصوات عربية لتعزيز شبكة بثها، قبل أن تبدأ البث العربي رسميا مع دخول سنة 1938، وتبدأ وقتها في رحلة البحث عن صحافيين ومصادر أخبار عرب.
إذ كانت الـ«بي بي سي»، في نسختها الأم بالإنجليزية، تتعامل مع صحافيين أجانب، غير مغاربة وغير فرنسيين، كانوا يعملون في المغرب أو يزورونه في رحلات مطولة، ونقلت بفضلهم إلى العالم ما كان يجري، خلال فترة الحماية، من تجاوزات وتضييق على الوطنيين وإعدامات وسياسات. وعندما جاءت النسخة العربية من الراديو، كان المغاربة من أوائل الذين تحمسوا للفكرة، إذ كانت الإذاعة الأكثر شعبية، إلى درجة أن الراديو الفرنسي في المغرب صار مهجورا تقريبا، رغم المحاولات الكثيرة لإثرائه بالمحتوى العربي، لجعل المغاربة يلصقون آذانهم بالراديو، تماما كما يفعلون عندما يتعلق الأمر بالـ«بي بي سي».
وهكذا أطلق «راديو ماروك» الذي كان يبث من الرباط قبل أن تولد «بي بي سي» العربية، برامج لأول مرة في نهاية الثلاثينيات من القرن الماضي، باللغة العربية مُوجهة إلى المغاربة البسطاء، ومنها برامج دينية، خصوصا خلال شهر رمضان، وأخرى تتغنى بالصداقة المغربية الفرنسية التي لم تكن موجودة على أرض الواقع. ولولا ميلاد راديو «لندن» العربي، لما قامت فرنسا بخطوة تعريب محتوى الراديو، ولو لساعات قليلة في اليوم، لفائدة المستمع المغربي.
على امتداد 84 سنة، نقلت «هُنا لندن» كما كان يُسميها الكثيرون، أخبار عن المغرب وتحولاته. بل كان يعتمد عليها الناس للتأكد من خبر رؤية الهلال خلال الأربعينيات، كما وقع سنة 1942 عندما حال الضباب وسوء الحالة الجوية دون رؤية الهلال، فكان لإذاعة لندن السبق في إعلان موعد عيد الفطر، قبل إذاعة الرباط. نقلت إذاعة «لندن» أخبار فيضان سنة 1950 الكارثي في نواحي صفرو، وبثت إلى العالم العربي أصوات الوطنيين المغاربة ومواقفهم من الحماية الفرنسية، وغطت أجواء نفي الملك الراحل محمد الخامس سنة 1953، ثم عودته من المنفى بعد عامين، ثم زلزال أكادير سنة 1960 الذي خصصت له تغطية مهمة، على اعتبار أنه كان أحد أسوأ الكوارث في القرن الماضي، وبثت شهادات من قلب المكان. وكانت إذاعة «لندن» حاضرة دائما في الأحداث التي بصمت تاريخ المغرب المعاصر. لذلك نحن معنيون بأرشيفها، ويجب أن يكون متاحا للعموم حتى بعد نهاية تجربة، حظيت بإعجاب كل الفئات، إلى أن جاء زمن «الإنترنت» الذي سجن الراديو في السيارة.
فإلى حدود السنوات الأخيرة التي سبقت تعميم الإنترنت وثورة الحواسيب وظهور الهواتف، كان برنامج لندن الثقافي يحظى بشعبية لا تعادلها الآن إلا شعبية «الفايسبوك»، إذ كان البرنامج يتوصل بمشاركات الشباب من كل الدول العربية لبث قصصهم القصيرة على الأثير، وتحديد القصة الفائزة في نهاية الحلقة. كان وقتها ذكر اسم صاحب القصة يعادل اليوم الفوز بجائزة «البوكر».
وقتها كانت عبارة «هنا لندن» كفيلة بلم شمل العائلة لسماع آخر الأخبار القادمة من مختلف أنحاء العالم. وصوت المذيع نفسه كان يتأثر بالأحداث، حتى أنه قد يجعلك تصدق أنه يوجد في مكان القصف، أو قاعة القمة العربية، رغم أنه يجلس وحيدا في الاستوديو خلف الزجاج.
وداعا «هنا لندن»..