هيراقليطس وقانون الصيرورة
بقلم: خالص جلبي
الحرب هي أم كل الأشياء، ولن يضع المرء قدمه في نهر واحد مرتين. والكون يقوم على الصراع الذي ينتهي بالاتحاد والتناغم. وهناك صيرورة متدفقة في الكون، وكل يوم هو في شان. هذا ما قاله الفيلسوف اليوناني هيراقليطس، الذي عاصر قبل موته أحداثا جساما انتهت على حد السيف والحرب؛ فقبل أن يموت بسنتين قام الملك الفارسي (كزركسيس) باجتياح بابل، بعد حدوث تمرد فيها، ليدمرها تدميرا ومعها تمثال الإله مردوك الذي كان يتعبده البابليون. وقبل ذلك بثماني سنوات شهد حملة الملك الفارسي (داريوس) عام 490 قبل الميلاد على بلاد الإغريق، التي انتهت بمعركة ماراثون وهزيمة داريوس، وكان فيها من الخير العميم أن تفتحت الفلسفة في زهور يانعات في ظل الحرية؛ فمع الاستبداد لا يبقى عقل وفكر.
وقبل أن يموت شهد الاستعدادات الضخمة لحملة جديدة على بلاد الإغريق. وفي عام موته 480 قبل الميلاد، شهد الزحف الأعظم على بلاد اليونان، الذي انتهى مرة أخرى بهزيمة منكرة في معركة سلاميس البحرية. ومنها نبعت أسطورة 300 وتعني ممر ترمبولاي، الذي تربص فيه ثلاثمائة من جنود إسبرطة على مدخل مهم لعبور بلاد اليونان، وكلف الفرس الكثير قبل أن يقتحموه بالخيانة ويقتل فيها الثلاثمائة إسبرطي.
وبالمناسة فإن الممثل توم كروز الذي مثل فيلم «الساموراي الأخير»، استحضر مع صديقه الأخير منهم ذلك المشهد لنهاية عصر وبداية عصر، والشيء نفسه حصل مع جنود الإنكشارية، حينما أنهى عهدهم السلطان العثماني )محمود الثاني( في إطار تحديث الجيش التركي، كما حصل مع الجيش الياباني الذي استورد النار والبارود والمدفع، مخلفا لعبة السيف والترس القديمة. وهكذا هي جدلية الحرب كما فهمها فيلسوفنا، بأنها تكبر وتكبر وتتسع مع تطوير آلة الحرب. ولم يكن للهكسوس أن يحتلوا مصر، لولا تقنية العربة الحربية وتعدين الحديد وتطوير فكرة الدولاب التي تنهض عليها العربة الحربية، ولكن كما رأى المؤرخ توينبي هذه الجدلية، أنها لا تقف وتزداد هولا واتساعا حتى كانت الخاتمة في قنبلة هيروشيما، وبداية حرب من نوع جديد هي الحرب الموازية، حيث يمكن شل بلد كامل بدون غزو عسكري عبر تقنيات النت الحديثة، وعلمنا نحن كيف تم شل جيش صدام في حرب الخليج الأخيرة بتقطيع أذرع آلته العسكرية، من خلال تعطيل نظام الاتصالات، مما اضطره إلى أن يعود إلى نظام حمورابي في حمل المعلومات على ظهور الحمير، وهي ليست بمنجاة من صواريخ «توماهوك»؛ فهذه هي طبيعة الحرب الجديدة حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
والرجل هيراقليطس كان يعيش في آسيا الصغرى تركيا الحالية في مدينة إفسوس، ولعله رأى مرور الجيوش الفارسية في مدينته. وأهم ما تركه الرجل من أفكار هي أن الكون يقوم على دورة طبيعية، وتحكمه قوتان، الحب والكفاح. وكل شيء ينشأ من هذا التنافس. وما نراه من تباين الأشياء يرجع في النهاية إلى هذا الصراع، الذي يوحد الأضداد في النهاية.
وكان يرى أن الكون يقوم على صيرورة متدفقة، فلا يبقى شيء كما كان حتى ولو وضع الإنسان قدمه في النهر فلن يكون هذا النهر هو هو كما كان قبل لحظة. وهو محق من هذا الجانب، أن التدفق الكوني يقوم على تداخل المتغير والثابت، كما أن مبدأ التدافع أساسي في الوجود. وجاء ذكر هذا في القرآن مرتين: «ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض، ولكن الله ذو فضل على العالمين» (آخر سورة «البقرة»، بعد قصة طالوت وجالوت وداوود الآية: 251). وفي آية أخرى من سورة «الحج»: «ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا» (الحج، الآية: 40). ولكن ليس معنى هذا أن تندلع الحروب، ولا يعني التدافع القتل بحال. ونحن نعلم من مدرسة التحليل النفسي، أن آدلر ويونغ اختلفا مع فرويد في إرجاع كل شيء إلى عالم الجنس، فقال يونغ بالتنافس وهو الذي ذكرناه.
ولكن الرجل (هيراقليطس) عاش في زمن سيطرت عليه الحروب بدون توقف، وكان الفكر اليوناني في مأزق يومها لو اجتاح الفرس بلاد الإغريق. ويذهب البعض إلى أن نجاة بلاد اليونان من الاحتلال الفارسي، مهدت الطريق لنشوء عبقرية بلاد الإغريق التي أينعت بأدمغة مثل سقراط وأرسطو. فلا يمكن لأي إبداع أن يأخذ طريقه وسط الإكراه. ومنه يقول هيراقليطس إن الحرب تحدد مصائر الناس أن يكونوا سادة أو عبيدا، وهو محق في هذا، فقد عاش الرجل في ظروف مرعبة من جدل التاريخ. وفكرة الرجل جوهرية لفهم حركة التاريخ على ساقين أنه يتحرك بدون توقف، وأنه يتحسن بدون توقف. ولقد عني القرآن بهذا الموضوع، فاعتبر أن الأصل في الدين أنه لا يقوم على الإكراه. وانتبه إلى هذا المؤرخ البريطاني توينبي، فاعتبر أن الإسلام جاء بشيء عجيب للعالم، عندما سمح للمخالف أن يبقى على قيد الحياة، ولم يكن هذا المبدأ من التسامح الفكري قائما في العالم يومها. لم يفهم هيراقليطس من الناس جديا، وكان حريصا على تعتيم عباراته، ربما لأنه كان من عائلة أرستقراطية فترفع عن الناس العوام واعتبرهم جهلة لا يستوعبون (اللوغوس)، أي قوانين العقل وآليات التفكير، وأن ثلاث آفات تطفئ النار العقلية، النوم والغباء والرذيلة. من المهم أن نستوعب أن الفكر الإنساني يتطور ولا يقف عند فيلسوف، والاكتشافات العقلية الرائعة التي وصلوا إليها في عالم اللوغوس لا تنتهي، واليوم بعد النزاع الفظيع بين الروس والأمريكيين في سباق الفضاء، يطبقون مبدأ هيراقليطس فتتحد الأضداد من جديد، فانطلقوا بمشروع عملاق لبناء محطة فضاء عالمية تم تدشينها عام 2006 للميلاد، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
ومما جاء في ويكيبيديا عنه أنه تميز بالغموض، فقيل عنه «الفيلسوف الغامض». والسبب في ذلك أنه كان يطيب له المفارقات والأقوال الشاذة، وكان يعبر عنها بلغة مجازية رمزية. ومن هنا لقبه تيمون الفليوسي (300 ق. م) بلقب «صاحب الألغاز». ويقول عنه أفلوطين: «كان يتكلم بالتشبيهات، ولا يعنى بإيضاح مقصوده». كما غلب طابع الحزن على كتاباته، ولذا عُرف أيضا بالفيلسوف الباكي. تأثر بأفكاره كل من سقراط وأفلاطون وأرسطو. قال إن النار هي الجوهر الأول، ومنها نشأ الكون، وقال أيضا بالتغير الدائم. يصعب تحديد تاريخ حياته بدقة، وقد وضع كتابا وحيدا، لم يصلنا منه غير شذرات. ولا يعرف المؤرخون عن حياته إلا القليل. ولا يكاد يُعرف عنه غير أنه كان من الأسرة المالكة في مدينة إفسوس بمنطقة آسيا الصغرى (تركيا الحالية).