يسرا طارق
منذ أن دخلت البشرية عصر السلعة والربح، وأطلقت سباقا محموما من عقاله بين الدول والمجتمعات والأفراد لحيازة أكبر قدر من الخيرات المادية، بدأت تفقد، شيئا فشيئا، تلك الخصال التي جعلت الإنسان يتبوأ مكانته وسط الكائنات، بوصفه عاقلا ومؤتمنا على الحياة، حياته وحياة الآخرين، وحاملا لرسالة في هذا الكون. كان هناك توازن في العالم بين ما ينتج وما يستهلك، بين العمران والفضاءات الطبيعية، وكانت الأرض تجدد نفسها في كل دورة، وما تفقده تستعيده، ويُعطاها الوقت الكامل لذلك.
كان البشر محاطين بوفرة مدهشة، وفرة في الخيرات وفي التجارب، وفي النجاحات والإخفاقات والتنوع. كانوا لا يعرفون بعضهم البعض إلا بشكل سطحي أو عابر، وتحتاج الأخبار لشهور أو سنوات لتنتقل من مكان لآخر، حتى حروب الماضي كانت شأنا يخص حيزا صغيرا من العالم، وأوبئة الماضي كانت شأنا يخص حيزا صغيرا من العالم، وأوبئة الماضي كانت تفتك بمنطقة ولا تجد لا الوسائل ولا الأشخاص لتنقل منجلها وحصادها من هنا إلى هناك. كانت المصائب والكوارث والآفات تعجز، أمام الامتداد الهائل والحواجز الطبيعية، عن أن تكون شأنا كونيا.. لكن ما أن تمكنت السلعة من الانتصار، وتوحيد الأسواق وفرض سلطتها على الجميع، حتى بدأت تقلص من حجم العالم ومن تنوعه، وبقدر ما صار الناس يجرون لتملك السلع، صارت هي أيضا تجري لتملكهم، إنه عصر التشييء والتسليع، حيث تصير لكل شيء قيمة تبادلية، ويصير لكل ما يحيط بنا ويؤثث حياتنا ثمن، رحل عهد البطء والقناعة، والصدق والإيثار، والتضامن، والشجاعة والترفع والزهد الصادق، وحل عهد الجشع والأنانية، والكذب والانعزال، والجبن، والتظاهر والزيف، وصارت الحياة محفلا رهيبا لكل ما يقتل في الإنسان إنسانيته. وكما قيل عن العالم الغريب الذي نعيش فيه، فالناس يشترون أغلى الساعات لكنهم لا يشترون الوقت، ويشترون أفخم الأَسِرَّة لكنهم لا يشترون النوم العميق، ويشترون المكملات الغذائية لكنهم لا يشترون الصحة، ويشترون أنصع الأَسْنَان لكنهم لا يشترون الابتسامة الصادقة، ويشترون أأمن السيارات لكنهم لا يشترون السلامة، ويشترون فريقا من الحراس والمرافقين ولا يشترون الأمان، ويشترون جيشا من المعجبين والمتابعين ولا يجدون في حياتهم صديقا واحدا..