شوف تشوف

الرأي

هل يشعر أكراد سورية بالطعنة الأمريكية؟

لم يعد مصير الرئيس السوري بشار الأسد وحكمه هو الموضوع الرئيسي في الأزمة السورية في المستقبل المنظور على الأقل، فالتدخل العسكري التركي في شمال شرق سورية، واحتلاله مدينة جرابلس مدعوما بوحدات من المعارضة السورية المسلحة، سرق كل الأضواء، وخلط الأوراق، وأرسى أسس معادلات سياسية وعسكرية جديدة، قد تطيل من عمر الأزمة وتجمّد الحلول السياسية المقترحة لأشهر أو سنوات.
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قد يكون خدع الجميع، بما فيهم الحلفاء الروس الجدد والأمريكان القدامى، وعمل قبل تحييدهم قبل الإقدام على هذه المغامرة المحفوفة بالمخاطر، عندما ذهب إلى موسكو وتصالح مع رئيسها فلاديمير بوتين، وطار إلى إيران طالبا الوساطة مع النظام في دمشق، وأوعز لرئيس وزرائه بن علي يلدريم بالإدلاء بتصريحات حول القبول ببقاء الأسد، وطبع علاقاته بالكامل مع تل أبيب حليفة الأكراد.
الصدمة هي التوصيف الأدق لردود فعل كل الأطراف المتورطة في الأزمة السورية تجاه هذا “الدرع″ التركي، ولا نبالغ إذا قلنا أن بعضها لم يفق بعد من شدتها، ناهيك عن وضع خطط حول كيفية التعاطي معها، سلبا أو إيجابا، فقد أخذ الجميع على حين غره، أو هكذا نستنتج من تلك الردود الرسمية، المعلنة أو المسربة.
المأزق الأمريكي سيكون هو الأعمق دون نقاش، فعندما خيرهم الرئيس أردوغان، أي الأمريكان، قبل توغل قواته واحتلالها أراض سورية، بين بلاده (تركيا) والأكراد، اختاروا الأخيرين، لأنهم، في رأيهم، مقاتلون شرسون يمكن الاعتماد عليهم في قتال “الدولة الإسلامية”، وأثبتوا كفاءة عالية تمثلت في منع سقوط عين العرب “كوباني”، وتأكدت مرة أخرى في انتزاع مدينة منبج من بين مخالب هذه “الدولة”، وراهنوا عليهم للعب الدور الأكبر في معركة “الرقة” الوشيكة.
الامتحان الأكبر الذي تواجهه الإدارة الأمريكية حاليا يتمثل في المخاطر التي يمكن أن تترتب على تضحيتها بالأكراد كحليف بعد كل الخدمات التي قدمها هذا الحليف لها، وفي غضون أشهر معدودة، رضوخا للواقع الجديد الذي فرضه الرئيس التركي في جرابلس.
جو بايدن، نائب الرئيس الأمريكي، الذي زار أنقرة قبل أسبوعين، رفع الراية البيضاء استسلاما لمضيفيه الأتراك، ومعتذرا عن تأخره في زيارتهم، ومهددا الأكراد بوقف الدعم عنهم اذا لم يتجاوبوا مع مطالب أردوغان بالانسحاب إلى شرق الفرات، ومؤيدا في الوقت نفسه وجهة النظر التركية في سورية، ومتفهما مخاوفها. أولويات الحرب في سورية تتغير بسرعة الآن، فبعدما كانت تتمحور حول القضاء على “الدولة الاسلامية” باعتبارها الخطر الأكبر، أصبحت الآن تتركز حول كيفية لجم الطموحات الكردية في إقامة مناطق مستقلة على طول الحدود السورية التركية، أو بمعنى آخر اصبحنا الآن أمام أولويات متعددة، ومتناقضة، أو متصادمة، في معظم الأحيان.
الجيش السوري الحر وفصائله “المعتدلة” و”الاسلامية”، التي تأسست، وحظيت بدعم عربي وأمريكي من أجل إسقاط النظام السوري، يتغير دورها أيضا، ولو في الوقت الراهن على الأقل، وأصبحت فصائل ملحقة بالجيش التركي، وتقاتل معظمها من أجل أهداف الحكومة التركية وأجنداتها الاقليمية، وهزيمة الأكراد ومشاريعهم الانفصالية على قمتها. عملية “درع الفرات” التي أطلقتها القيادة التركية تأمل فرض وقائع جديدة على الأرض، أبرزها إقامة قاعدة عسكرية في جرابلس على غرار تلك التي أقامتها في منطقة باشيكا قرب الموصل، والعمل جار حاليا لبناء مطار وتجهيزات عسكرية دائمة فيها، وهذه القاعدة على الأرض السورية مثل شقيقتها على الأرض العراقية، لها صفة الديمومة، ولن تزال إلا بحرب دموية. اللافت أن القوات التركية التي اقتحمت مدينة جرابلس لم تخسر إلا دبابة واحدة، ومقتل جندي من بين طاقمها، ولم تدخل في أي مواجهة مع قوات “الدولة الاسلامية” التي انسحبت إلى مدينة “الباب” المجاورة، الأمر الذي يطرح العديد من الأسئلة حول التفاهمات والتنسيقات السرية التي جرى التوصل إليها في هذا المضمار.
السيد صالح مسلم، زعيم حزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني السوري، ربما كان مصيبا عندما أعرب عن اعتقاده “بأن احتلال الجيش التركي لجرابلس ليس لمواجهة داعش بل الأكراد”، ولا نعرف في الوقت نفسه إذا ما كان مصيبا أيضا عندما حذر من أن تركيا “ستخسر كثيرا في المستنقع السوري”، خاصة إذا تأملنا رد الرئيس أردوغان الفوري عليه، دون أن يسميه، وقال فيه “بعض الناس يتحدوننا.. ويقولون أن ما سيحدث لنا سيكون خسارة كبيرة.. وأنا أقول لهم يجب أن تفكروا بما يمكن أن يحدث لكم”.
الطرفان سيكونان خاسرين حتما في هذه الحرب التي سيتورطان فيها، لأنها حرب قد تطول، وتنجر إليها أطراف أخرى مباشرة أو بالإنابة، وسيكون من الصعب على أي طرف حسمها لصالحه، ولنا في الحرب المندلعة على الأرض السورية منذ خمس سنوات خير مثال، ولكننا نرجح بأن خسارة تركيا وحكومتها، ربما تكون أكبر وأكثر فداحة، لأن هناك الكثير مما يمكن أن تخسره ماديا وبشريا واقليمياـ فهي دولة اقليمية عظمى، بينما خسارة خصومها الأكراد ربما تكون أقل كلفة، فليس لديهم دولة ولا اقتصاد، ويعيشون الحروب منذ ثمانين عاما بطريقة أو بأخرى.
أردوغان قد يكون نجح في خديعة الروس والايرانيين، وربما الحكومة السورية أيضا، لكن المؤكد أن الأمريكان خدعوا الأكراد وضحوا بهم، باعوهم للأتراك من أجل مصالحهم، أو هكذا تبدو المقدمات، وهذا ليس مفاجئا بالنسبة إلينا، فقد مارسوا الخديعة نفسها مع أقرب حلفائهم العرب، وفي منطقة الخليج على وجه الخصوص، ولعل الطرف الوحيد في المنطقة الذي ظل في منأى عن الخدع الأمريكية، والطعن في الظهر هو الحليف الإسرائيلي.
الأكراد مثل العرب لا يتعلمون من دروس التاريخ للأسف، ويقعون في الحفرة نفسها في كل مرة، ولا نستبعد أن ينضم إليهم الاتراك قريبا، لأن احتلال جرابلس، وربما منبج والباب بعدها، هو بداية الغرق في المستنقع الدموي الذي أسمه سورية.
الثورة السورية انطلقت من أجل الاصلاح الديمقراطي والحريات والعدالة الاجتماعية، وتسلح بعضها، أو معظمها لاحقا، بتحريض عربي وأمريكي من أجل الإطاحة بنظام ديكتاتوري، والآن تتحول، أو بعض أهم فصائلها، إلى خوض حروب الآخرين الاقليمية، ونحن نعني تركيا هنا، دون لف أو دوران. إنها نهاية مؤلمة محفوفة بالمخاطر، ولا نعلم إذا كانت هذه النهاية متوقعة في أذهان من دعموها، وحرضوها، وأطلقوا قذائفها ورصاصاتها الاولى، والثانية، والأخيرة؟
دائما البدايات معروفة، لكن من يخطو على دربها لا يتحكم بتطوراتها أو النهايات التي تنتهي إليها، أو معظمها، والأمثلة كثيرة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى