شوف تشوف

الرئيسية

هل تمكن إعادة الفعالية إلى خطبة الجمعة (1)

خالص جلبي
في كندا حضرت خطبة وصلاة الجمعة فظننت نفسي في الشرق، فلم يزد الحديث عن مواعظ عثمانية وأدعية خارج إحداثيات التاريخ والجغرافيا. في الوقت الذي منح الكنديون المسلمين الجنسية الكندية، وسهلوا لهم دخول البلد مع الرزق الوفير والدراسة الجامعية والأمان من جلد المخابرات وتقارير الشرطة السرية. وفي ما أتذكر يوما أنني كنت في حي الميدان بدمشق، فحضرت خطبة الجمعة وكان بجانبي غلام لم يبتل بمرض الشخير العام، فانتبه إلى غلطة في سرد الخطيب فصلحها له. ويبدو أن الغلام كان قد حفظ «الكليشه» من كثرة الترداد.. فخطبة الجمعة عمليا ميتة مقتولة، من أيام الحجاج بين يوسف الثقفي.
وفي القامشلي بلدتي التي عشت فيها طفولتي، كان الإمام يخطب من كتاب «ابن أبي نباتة» من أيام السلطان قلاوون، وهناك 52 خطبة على مدار السنة وحسب المواسم. وحين حدث خلط بين الخطب ووقتها، فبدأ يقلب على عجل عن الخطبة المناسبة بعد أن ضل طريقه إليها، ولم ينتبه الجمهور إلى ما حدث، لأنه لا يسمع شيئا، وكانت نكتة ولكن لم يضحك أحد.
وكنت أخطب أنا شخصيا أحيانا وأكثر ما كان يزعجني أنه بقدر انفعالي في الخطبة، بقدر استغراق البعض في النوم. ولما خرجت من إحدى الخطب سألت أحدهم بعد أن أثنى على الخطبة التي ألقيتها، قلت له عما كنت أتحدث؟ أجاب طبعا كنت تتحدث عن الإسلام..
وفي المغرب حضرت خطبة بالدار البيضاء، فظننت نفسي أنني أعيش أيام الموحدين، بحيث لو ضغط الزمن إلى الأمام والخلف فأحضرت إماما من أيام بن تومرت وأيامنا لم يتغير الخطاب كثيرا. وقد ينتهز الخطيب الخطبة فيحولها إلى مناسبة فقهية في الاستنجاء والاستبراء، مع أن الناس لم يعودوا يستخدمون الحجارة في دورات المياه، منذ أيام الاستعمار الفرنسي.
وفي بلد عربي كان الخطيب يدعو بحرقة على طوائف لا نهاية لها بالتدمير الكامل ويتم الأطفال وترميل النساء، وأن يريه عجائب خلق الله فيهم. وكان أكثر حماسه عند الدعاء على العلمانيين أن يقتلوا عددا ويهلكوا بددا ولا يبق منهم أحدا، كرر ذلك ثلاث مرات وصوته مختنق بالبكاء. والجمهور يؤمن على المذبحة الجماعية، وأنا مرتاع بين التأمين والاستنكار.
وفي بلد عربي روى لي ثقة أن خطب الجمعة تكتب من وزير، ثم ترسل بالفاكس إلى خطباء كل المساجد كي يقرؤوا خطبة واحدة موحدة مؤممة مصادرة. وهو ما شاهدته أيضا في تركيا، ولكنهم دخلوا إلى الدماغ المبرمج منذ أيام أتاتورك، فبدؤوا يغيروا في الخطاب.
وفي القاهرة وأمام أحد المساجد كانت الكاسيتات تباع بالعشرات لواعظ يعلو صوته هدير محرك نفاث. يعتمد فرقعة الحنجرة أكثر من الدماغ، والهياج العاطفي أكثر من حديث العقل. وهم جيل جديد من الواعظين المحدثين، يصغي إليهم الجمهور بخشوع تقشعر منه الجلود، ومما لفت نظري روايته عن فاطمة الزهراء (رضي الله عنها) أنه لم يأتها الطمث قط فاعتبرها معجزة، والجمهور يهلل ويكبر. ونحن نعرف في الطب أن الدورة الشهرية عند المرأة طبيعية وصحية، ولا تنقص أو ترفع قدرا، ولا يؤدي انقطاعها أو زيادة أيامها وغزارة دمها إلى معجزة، بل لها قانونها الذي يسري على جميع بنات حواء. وهو ما كان رسول الرحمة يعلمه للمؤمنات كل يوم.
ومع أن القرآن يؤكد على التاريخ والطبيعة، وأنه لن تنزل معجزة من السماء ولن يشق الأرض ويكلم الأموات أو ينزل الله والملائكة قبيلا. ولكن الواعظين يريدون في كل مرة أن يظهروا الإسلام المبني على المعجزات. في انقلاب كامل لمحاور الفهم، وكما نرى فهو عهد اغتيال العقل الجماعي المنظم بدون مشانق وفرق إعدام.
وصليت في بلد خليجي والحر يشوي الوجوه والجباه تقطر عرقا، فتحدث الخطيب لمدة ساعة ونصف الساعة والناس في حرارة القيظ تغلي بدرجة 47، وكنت أعرفه، فلما سألته عن سبب الإطالة.. قال: إنها مناسبة يتجمع فيها الناس ويحب استغلالها. وكان حديثه لا يزيد عن طيران وتحليق في مواضيع لا تستحق الاجتماع والإطالة. فبدل الحديث عن نقل السلطة السلمي وإيجاد الرأي الآخر وحرية الصحافة وحرية التعبير والتظاهر والتجمع السلمي، كان الدعاء للسلطان أن يبقيه على ظهر العباد إلى يوم التناد.
ومع أن القرآن يضم أكثر من 2000 آية في 114 سورة وثلاثين جزءا ومواضيع لا نهاية لها من التاريخ وأخبار المجتمعات وأمراض أهل الكتاب وفرعون ذي الأوتاد. ولكن الخطيب لا يعتبر أن التاريخ مهم، أو أن علم الاجتماع يمكن الاستفادة منه. ويعتقد بغير وعي أن المسلمين محصنون ضد أمراض أهل الكتاب.. وهي إصابة بنوع من العمى اللوني الثقافي، فبدل استخدام ألفي آية ينحصر دماغه في عشرين آية. وبدل الصدع بالحق في الحديث بمشاكل الناس في الدنيا، تتم زحزحة الخطاب للحديث عن الحور العين في الجنة. بما يرخي الجمهور بدون حل مشاكلهم. وتخدير الوعي لجمهور استلب لبه وفقد إحداثيات التوجه، منذ أيام كافور الأخشيدي. وبدل اكتشاف العلاقات الخفية من قصص القرآن لقضايا مصيرية، يتم انتقاء مواضيع جانبية غير محورية لا تزعج مستيقظا ولا توقظ نائما. مثل لون الكلب في قصة أصحاب الكهف. ومشكلة تطويل اللحية، والصراع حول جسد المرأة أكثر من عقلها. وأن الزكاة لا تجوز إلا في النقدين دون (الكاغد). وحول الفكرة الأخيرة حين سألنا الفقيه عن فهمه للزكاة، قال: أريد كلاما من كتاب أصفر فإن كان أبيض لا اعتبره شيئا؛ فهنا عرفنا أن ألوان الورق أهم من حجج العقلانية.
واستولت علي يومها فكرة أن أمسح كل المساجد فأزورها، لأرى طبيعة الخطب لاكتشف جو الانخلاع من الزمن والعودة إلى أيام السلطان المملوكي أبو سعيد جقمق. مما يؤكد طبيعة المرض الواحدة في كل العالم العربي مع اختلاف الدرجة.
هذه الأمثلة تعني أن خطبة الجمعة مصادرة لثلاثة اتجاهات: الأنظمة التي يتلوها واعظ السلطان، وتيار المتشددين يتلو فيها الخطبة من يشن الحروب من فوق المنبر في خطاب عدواني، وتيار تقليدي ما زال يعيش أيام السلطان العباسي يعقوب أبو الصبر المستمسك بالله متجمدا في مربع الزمن. وبين هذه الاتجاهات الثلاثة توجد أصوات نشاز هنا وهناك، تحاصر بسرعة وتعزل بأشد من مريض الجذام والإيدز.

مقالات ذات صلة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى