هكذا كان ينظر محمد بن عبد الكريم الخطابي إلى مذكراته
لم يكن كل من كتبوا عن الخطابي وجهاده من المنصفين، فلقد كان بينهم من دلسوا وزيفوا تاريخ تلك الفترة، ففي عام 1927 وبعد وصول ابن عبد الكريم إلى المنفى أرسل إليه الفرنسي روجي ماثيو، مراسل جريدة لوماتان Le Matin الفرنسية، كتاباً له بعنوان «مذكرات عبد الكريم» Mémoires d’Abd-el-Krim.
الخطابي يرد على صحافي فرنسي
عن هذا الصحفي يقول ابن عبد الكريم: «وكان هذا الصحفي قد جاءنا في الريف مرتين عام 1925م، و1926م، وفي السنة الأولى زار شقيقي امحمد في الجبهة الشمالية بمدينة شفشاون، وفي السنة الثانية في ترجيست وقت استسلامنا، ولما نقلنا من الدار البيضاء إلى فرنسا ركب معنا في نفس الباخرة (عبدة) واتصل بنا خلال السفر، وأخذ منا جملة أحاديث، وبعد ذلك جمعها في كتاب، بعد أن أضاف ما أراد إضافته حسب هواه، ونسب ذلك كله إلينا. وبطبيعة الحال كان محظورا علينا في المنفى أن نجيب على ما قيل، سواء بالطعن أو بسرد الحقائق، ولكن الآن يمكننا أن نصحح ما نشره المسيو ماثيو بكل حرية، ونرفض أن نقبل كل ما قيل في الكتاب، وخاصة اختياره لعنوانه (مذكرات عبد الكريم)، ولكنا نعترف بأن هذا الصحفي لم يسلك في كتابه طريقة الفحش والبذاءة الغالبة على كتاب فرنسا الاستعماريين، وزملائهم الإسبان. ولا نغفل الإشارة إلى نزاهة هذا الكاتب ووقاحة المسيو جان لادري دي لاشاريار ومن لف لفه من الذين اتخذوا حرفة الصحافة المقدسة وسيلة للتضليل والتدليس والارتزاق، ولكن علينا أن نضيف أننا لا نتحمل أو ننقد كل ما كتبه المسيو روجي ماثيو في الكتاب الذي نسبه إلينا، دون أخذ موافقتنا عليه. فالكتاب لم يخل من تحريف لردودنا على الأسئلة التي وجهت إلينا ونحن في الطريق إلى المنفى.
فنحن لم نكتب أي مذكرة إلا هذا الكتاب (المذكرات التي حررها علي الحمامي بالقاهرة) الذي صدر منا تحت مسؤوليتنا، متحملين تبعات التاريخ أمام الأجيال المغربية الحاضرة والمستقبلة. ونحن ولله الحمد متمتعون بحريتنا التامة تحت سماء مصر العزيزة وفي ضيافة عاهلها الكبير فاروق الأول أطال الله حياته حتى يحقق لشعب مصر الكريم والعروبة جمعاء ما تصبو إليه من سؤدد وعز وكرامة».
ما يثير الاستغراب هو أن محمد بن عبد الكريم الخطابي تفادى بالمرة الحديث عن مخطوطة لاريونيون التي كان قد سلمها بنفسه للفرنسي صاني، فإذا كان هذا التحفظ الذي أبداه بخصوص المذكرات التي نشرها روجي ماثيو أمراً متوقعا وعاديا بالنظر لما سيوجهه له المؤرخون لاحقا من انتقادات ومؤاخذات كعياش ومادارياغا وزكية داود، فإن سكوت الأمير عن مذكرات لاريونيون يطرح أكثر من علامة استفهام، فهل لأنه اعتبر تلك المذكرات نسخة طبق الأصل للتي نشرها روجي ماثيو في نفس الفترة وبالتالي لا تحمل جديدا يستحق الذكر؟ أم أنه اعتبر ما سلمه لصاني لا يرقى لمستوى «المذكرات التاريخية» بل هو مجرد تقرير مفصل تطرق لقضايا تاريخية؟ أم أنه اعتبارا للظرفية التاريخية والنفسية التي كتبت فيها مخطوطة لاريونيون فإنها لا تعكس الحقيقة بقدر ما تندرج ضمن خطاب المجاملة والمحاباة الذي تعمده الأمير تحسبا للمصير المنتظر؟ أم فقط لأنه اعتقد أن ذلك المخطوط قد ضاع وطاله النسيان؟
وفي ما يلي قصة ظهور هذين النصين حسبما وافانا بهما كل من المؤرخ الفرنسي روني غاليسو والمؤرخة الإسبانية ماريا روسا ذي مادارياغا اللذين حرصا على تخصيص مقدمة باللغة الفرنسية وضحا فيها الحيثيات المرتبطة بصيرورة ظهور الترجمة التي أنجزها التهامي الأزموري وهو آنذاك بفرنسا بصدد إعداد بحث حول تاريخ حرب الريف. والزميل الباحث محمد أمزيان الذي زودنا بمقدمة باللغة العربية كشف فيها عن حيثيات حصوله على نسخة من المخطوطة العربية التي اعتبرت ضمن الوثائق المفقودة.
أضواء حول مذكرات لاريونيون
بشأن النسخة العربية لمخطوطة لاريونيون يوضح الباحث محمد أمزيان أنه في شهر نونبر 2005 طلب المرحوم محمد البارودي الذي توفي يوم الخميس 12 يونيو 2007 في بروكسيل، ودفن في مقبرة القديس جوس Saint – Josse من الصديق الدكتور محمد البطيوي أن ينظم لقاء بيني وبينه، وهذا ما حدث فعلا يوم 13 من الشهر نفسه، وكان يوم أحد. علمت من الصديق البطيوي، قبل اللقاء، بأن المنفي اليساري البارز محمد البارودي كان مريضا وأنه يريد إطلاعي على أمر هام. توقعت أن يحدثني عن أمور المنفى وقسوته وأمور السياسة بعد فشل تجربة التناوب ومرور ثماني سنوات على حكم محمد السادس، فلا حديث للسياسي، في نهاية المطاف، غير السياسة وشجونها، إلا أن المفاجأة كانت كبيرة. وهذا بعض ما سجلته آنذاك في يومياتي عن لقائي بالمرحوم البارودي في بروكسيل:
«أنهى البارودي آخر نفس من سيجارته الرقيقة التي لفها بغير عناية. رمقني أختلس النظر إليه ثم قال: «الطبيب نصحني بطلاقها، ولذلك تراني أشربها نحيفة! ». وأردف بعدما عدل بعض الشيء من جلسته: «ألم يحدثك السي محمد البطيوي عن أية وثيقة؟» أجبته: «لا! ليس تماما.» فقال: «هذه مخطوطة تخص مذكرات الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي، كنت قد استنسختها بيدي عن نسخة مصورة كانت لدى السيد سباطة (موجود الآن في المغرب)، والسيد سباطة صورها بدوره عن المخطوط الذي كان بحوزة السيد الأزموري. هذه الوثيقة أهديها لك، وكان قد سبق لي أن استفسرتك بخصوص مذكرات الأمير الخطابي وأجبتني برسالة مطولة».
فوجئت بطريقة لا يمكن وصفها وأحسست بنوع من الاعتزاز يغمر جوارحي مثل نسيم ربيعي ساحر، تاهت الكلمات وتسمرت عيناي على المخطوط، فشرعت في قلب صفحاته بيدين راجفتين. شكرا أيها الفاضل على الثقة التي وضعتها في. وسوف أعتز بما ملكتني إياه ما حييت، راجيا الله أن أكون أهلا لها وقادرا على تحمل الأمانة.
سبع سنوات مرت على هذا اللقاء الهام، وربما كان للصدفة دور في أن يختارني الصديق محمد البارودي ليستأمنني على مخطوطه الذي استنسخه بیده قبل عدة سنوات حينما كان لا يزال في باريس يشرف، باسم حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية (الاتحاد الاشتراكي لاحقا)، على الطلبة المغاربة. وربما الصدفة، أيضا، هي التي وضعت النسخة العربية التي اعتمد عليها الأزموري في ترجمته بين يدي البارودي. على كل حال، كنت أنوي القيام بدراسة وتحقيق المخطوط، وتحديد حيثيات وصوله إلى يد السيد سباطة الذي لا أدري من يكون، ولا أعلم إن كان ما يزال على قيد الحياة، إلا أن ظروف الهجرة والعمل حالت دون ذلك.
في صيف هذا العام (2013)، التقيت لأول مرة بالباحثة المقتدرة الدكتورة ماريا روسا ذي مادارياغا في العاصمة الهولندية أمستردام، وأخبرتها عن النسخة العربية المفقودة لمخطوط صاني، وأبلغتني بأن الباحث الفرنسي روني غاليسو يتوفر على النسخة الفرنسية التي ترجمها الأزموري، وأنه ينبغي التفكير في طريقة ما لمقارنة النسختين، العربية والفرنسية، والعمل على طبعهما ونشرهما في كتاب واحد. الواقع أن الفكرة ما تزال عائمة ولم أتخذ خطوات عملية للبدء في المشروع ولا من سيقوم بتنفيذه، دراسة وتحقيقاً، علي أن أذكر أن نسخة رقمية من المخطوط توجد بحوزة الأميرة عائشة الخطابي المقيمة في الدار البيضاء، وقد سلمتها إياها قبل بضع سنوات، ونسخة رقمية أخرى توجد في حوزة أخي جمال القاطن في الحسيمة، فضلا عن النسخة التي أرسلتها إلى الدكتورة ماريا روسا ذي مادارياغا.
المخطوط الذي بحوزتي مكتوب بخط المرحوم البارودي باستثناء صور لثلاث صفحات من المحتمل أن تكون مكتوبة بخط يد الأمير الخطابي. وذكر لي المرحوم البارودي، في اللقاء المذكور، أنه كان ينوي تصوير المخطوط كله، إلا أنه لم يكن يتوفر على الإمكانيات المادية، فقرر بعد ذلك استنساخه بيده على طريقة النساخين التقليديين، وهذا ما فعله ساهرا الليل كله من أجله.
لا يتجاوز المخطوط الذي بين يدي 34 صفحة، مقسمة على موضوعات يبدو أن الخطابي دونها على عجل أو أفتاها على الضابط الفرنسي صاني الذي يسميه الخطابي في مذكراته المسيو سان، وقد رافقه منذ وصول العائلة الخطابية إلى مدينة تازة في طريقها نحو المنفى بعد الاستسلام في قرية كمون. يقول الخطابي في حق صاني: «عرفنا القبطان المسيو سان منذ دخلنا تازة ولازمنا في فاس، ورافقنا في هذا السفر وقام بواجبه من المجاملة وأحسن معنا داخل دائرة واجبه وقاسى آلام السفر وفراق الأهل ورأينا فيه رجلا عاقلا وغيورا ميالا إلى الحق وقبوله ويجيد اللغة العربية نطقا وكتابة»، بحسب ما جاء في المخطوط. ويبدو أن صاني هو من حمل نسخة من هذه المذكرات معه، حينما رجع إلى فرنسا وإليه نسب بعد ذلك. ولا يستبعد أن يكون صاني قد حمل معه النسخة الأصلية، ما دامت هذه المذكرات لم تكن موجودة لدى الخطابي في القاهرة، عندما ارتأى تدوين مذكراته الأخرى».
مصدر النص الفرنسي المترجم
يعود أصل الاهتمام مرة أخرى بمذكرات لاريونيون إلى فترة العمل على الشريط الوثائقي عن محمد بن عبد الكريم وحرب الريف الذي أنتجته القناة الألمانية ـ الفرنسية ARTE ، حيث أصر المخرج دانييل كلينغ Daniel Cling على إدراج وجهة نظر الأمير في ذلك العهد. وتم بهذا الخصوص الاعتماد على الترجمة الفرنسية التي أنجزها التهامي الأزموري لهذه المذكرات لتعذر الوصول إلى النسخة العربية الأصلية.
ولإنتاج نسخة عربية لنفس الشريط اضطر المنتجون لترجمة بعض المقتطفات من الفرنسية. اليوم مع ظهور هذا الإصدار المزدوج، وبعد مرور زهاء نصف قرن على إنجاز الترجمة الفرنسية لن يضطر المهتمون إلى الاطلاع على أقوال الأمير من خلال الترجمة الفرنسية، وأصبح بالإمكان معاينتها في صيغتها الأصلية.
وعلى إثر استسلام الأمير في 27 ماي 1926 تقرر نفيه إلى جزيرة لاريونيون. وبعد قضاء نحو ثلاثة أشهر في فاس انطلقت في 28 غشت باخرة عبدة التي أقلته من ميناء الدار البيضاء إلى جزيرة فريول قرب مرسيليا، ومنها نقل رفقة مرافقيه إلى لاريونيون على متن الباخرة الأميرال بييرl’Amiral Pierre التي غادرت ميناء فريول يوم 2 شتنبر، لتصل إلى لاريونيون يوم 10 أكتوبر من نفس السنة. وقد مكث النقيب الترجمان صاني مع الأمير منذ الالتحاق به في تازة حتى عودته من لاريونيون إلى فرنسا في شهر دجنبر حاملا معه هذه المذكرات التي حررها ابن عبد الكريم خلال الفترة الممتدة بين تاريخ وصوله إلى المنفى وعودة صاني إلى فرنسا.
احتفظ صاني بالنص العربي الأصلي طويلا حتى فترة تقاعده وقد أصبح برتبة عقيد، ولم يتحدث عنه سوى مع المهتمين بقضية المغرب، خصوصا منهم المختصين بالشؤون الأهلية. هكذا سلم موريس صاني النص الأصلي لجاك بيرك Jacques Berque الذي سيعهد بدوره إلى التهامي الأزموري بترجمته إلى الفرنسية، وذلك في أواخر سنة 1966 على الأرجح، أي بعد حوالي سنة من مقتل زميله المهدي بن بركة.