آخر فصول هذا الكتاب اختار له هشام عبود عنوانا مُلفتا: «زمن الدمى». والحقيقة أن الدمى الحقيقية، كما يتضح عند الانتهاء من مطالعة هذا الفصل، لم تكن سوى رؤساء الجمهورية أنفسهم، وليس الذين حملوا رتبا عسكرية أقل من الجنرالات في مؤسسة الجيش.
يقول هشام عبود في بداية الفصل: «كل الرؤساء الذين جاؤوا بعد وفاة الهواري بومدين، خرجوا من جيب سحري وتم فرضهم على الشعب».
هذه الجملة تلخص كل الصفحات السابقة من الكتاب، حيث برز كيف أن رؤساء، مثل الشاذلي بن جديد واليامين زروال، كانوا يتعاملون مع جنرالات بصلاحيات تفوق بكثير صلاحيات رئيس الجمهورية. بل إن الجنرالات كانت لديهم صلاحية الاطلاع على ملفات مخابراتية لم يكن رؤساء الجمهورية يعرفون وجودها أصلا.
وحده الرئيس الراحل بوضياف، الذي تم اغتياله على الهواء، حاول تحدي هؤلاء الجنرالات، فكانت نهايته عبرة لكل من قد يفكر في السير على نهجه.
نُكت عن الرئيس
يقول هشام عبود إن الرئيس الشاذلي بن جديد، مثلا، منذ أن وصل إلى رئاسة الجمهورية بعد وفاة الهواري بومدين، لكي تبدأ معه الجزائر مرحلة جديدة مع بداية ثمانينيات القرن الماضي، كان موضوع نكت «سمجة» وأخرى مضحكة فعلا، تناقلها الجزائريون في ما بينهم.
هذه النكت، بقدر ما كانت تحمل من سخرية سوداء، وتُضحك الجزائريين في المقاهي والسهرات والجلسات الخاصة، كانت تلخص الواقع المؤلم الذي كانت تعيشه البلاد في ظل هيمنة الجنرالات على كل شيء، وبقاء رئيس الجمهورية نفسه خارج مربع السلطة.
إذا كان رئيس الجمهورية غير قادر على مجاراة الجنرالات، فماذا سوف يكون موقف رؤساء الأحزاب والقضاة وبقية المنتخبين في الجماعات والمجالس؟
لا أحد كان يقوى على الإتيان بحركة بدون إذن من الجنرال خالد نزار وحمروش ومحمد بتشين، في فترة من الفترات، وبقية أفراد «المافيا». ولم تكن النكت مصدر سخرية الجزائريين من رئيسهم، الشاذلي بن جديد، بل إن تصريحاته كانت مثيرة أيضا. يقول هشام عبود إن الجزائريين تناقلوا بينهم مقولة للرئيس بن جديد، ولم يمنعوا أنفسهم من الضحك. إذ إن الرئيس قال مرة: «الدولة التي ليس لديها مشاكل ليست دولة. والحمد لله، الجزائر ليس لديها مشاكل».
يقول عبود إن الرئيس الشاذلي بن جديد لم يكن مجرد رئيس يتحكم فيه الجنرالات بل كان أيضا دمية بين أيديهم.
وبالنسبة للصحافي هشام عبود، فإن تجربة بوضياف، رغم أنها كانت قصيرة، إلا أنها عكست كيف أن بوضياف، الذي كان معزولا عن الواقع الجزائري ومنفيا خارج الجزائر لسنوات طويلة، كان ذكيا إلى درجة أن ذكاءه كلفه حياته.
الخلاصة التي يريد هشام عبود توضيحها، هنا، أن الذكاء ليس خصلة مطلوبة أبدا في لائحة الشروط التي يطلبها الجنرالات في شخصية رئيس الجزائر قبل أن يوافقوا عليه.
بوضياف، الذي كان سياسيا محنكا وعلى قدر كبير من الذكاء الذي جعل منه رجل دولة، كلفه حياته واغتيل على مرأى ومسمع من الجزائريين جميعا.
بينما تجربة الآخرين كانت تخدم الجنرالات بشكل مطلق.
يعطي هشام عبود مثالا آخر، بالرئيس المنسي علي كافي. وهو خامس رئيس للجمهورية الجزائرية منذ استقلال البلاد.
كان من بين المشاركين في جيش التحرير الجزائري، وبعد استقلال الجزائر عين سفيرا لدى دول عربية، ثم تقلد منصبا للإشراف على ملفات عائلات المجاهدين الجزائريين، ووجد نفسه رئيسا للبلاد بعد اغتيال بوضياف إلى أن تسلم اليامين زروال الرئاسة سنة 1994. أي أنه كان رئيسا خلال مرحلة انتقالية فقط، واصطلح عليها برئاسة المجلس الأعلى للدولة. يقول هشام عبود إن المرات القليلة التي ظهر خلالها علي كافي في التلفزيون كانت شبه «عشوائية». يضيف عبود إن علي كافي لم يكن مسموحا له أبدا بالظهور علنا خلال المحافل الرسمية، أي أنه كان رئيسا «محجورا عليه».