بقلم: خالص جلبي
لم يكن هدفي قط حفظ كتاب الله، ولكنه تحقق على نحو غريب، أقصه للقارئ والمستفسر، فائدة للباحثين، وتذكرة للحافظين. أول سورة حفظتها كانت سورة «مريم»، أما سورة «المؤمنون» فكان حفظها في معتقل المخابرات العسكرية بالقامشلي، قبل التقدم إلى امتحان البكالوريا بشهرين؛ فكاد الامتحان أن يضيع علي لولا لطف الله؛ فمكثنا في أقبيتهم أربعة عشر يوما عددا، فخرجت وأمامي 43 يوما للامتحان؛ فنجحت وكنت الأول في المحافظة «الحسكة». حفظت سورة «المؤمنون» برفقة الدكتور «عبد الجبار يوسفان»، الذي كان معنا معتقلا، هو طبيب مميز في البلدة حتى اليوم. وما زلت أتذكر تخوفي يومها أن تضيع السنة، لأنني كنت قد حضرتها على نحو مكثف، ولما انتهى الامتحان كنت من الجهد ما جعلني أستلقي على ظهري شهرا كاملا.
وآخرها كانت سورة «يونس» على ظهر بناية «حسان جلمبو»، «يسمونه في دمشق الملحق»، الذي تخرج مهندسا لاحقا، وانتهت حياته في جحيم تدمر على ما بلغني. والدتي «جاهدة شيخموس وصفي» رحمة الله عليها كانت معجبة جدا بسورة «مريم»، ربما لجرسها الموسيقي. كانت تشجعني فأرسلتني لأخذ مواعظ دينية عند سيدة اسمها «زكية»، إذا لم تخني الذاكرة. كانت امرأة بسيطة، تقية، بدون علم. وهكذا حفظت أول سورة في حياتي، ولحبي لها فقد سميت ابنتي الثانية باسمها وهي مريم الموجودة حاليا في نيويورك، وهي تمارس السياسة، وإعادة الاعتبار للمرأة في دنيا العرب.
كنت في المرحلة الإعدادية (الصف الثامن = ما يعادل الثاني إعدادي)، وكانت البرية والخلاء صديقتي المقربة «نسميها الجول بتعطيش الجيم بثلاث نقط». وهكذا كانت أول سورة دخلت مستودعات الذاكرة عندي، هي «سورة مريم».
لم يكن يخطر على بالي ولو للحظة أن المشروع سوف ينتهي بحفظ كامل القرآن؛ لأكتشف في النهاية أن الحفظ هو المرحلة السهلة، ولكن «الحفاظ» على ما حفظ هو المرحلة الأصعب، فهناك الكثيرون ممن حفظوا فنسوا؛ أو اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا. ثم تأتي المرحلة الأعظم مما مر، وهي تدبر القرآن وفهم آياته وكلماته. بالمناسبة من أجل المحافظة على الحفظ، يحتاج يوميا تكرار أربع ساعات.
البارحة كنت أستمع إلى عالم شيعي «القبانجي» يزعم التجديد الديني، وهو يتكلم عن القوس والقاب، وأن القاب هو زاوية أو نهاية القوس. كان كلامه في موضوع القرب والبعد، قلت هو ما أبحث عنه؛ لأن العديد من الكلمات في القرآن يجب الوقوف أمامها.
مثلا الطير الأبابيل، ما معناها بالضبط؟ هل هي طيور من نوع خاص، أم كناية عن الكثرة؟ مثلا الكهف والرقيم، نعرف الكهف فما هو الرقيم؟ ثم لم نعرف شيئا عن مصير الكلب، بعد أن رجع السبعة إلى الحياة. وفي هذا الاتجاه هناك مئات المواضع في القرآن، تحتاج إلى أن يسلط عليها الضوء.
بعد أن انتهيت من حفظ سورة «مريم» وفرحت والدتي بهذا الخبر، قلت لها إن حفظ «سورة البقرة» فيه حديث ينفع للوالدين، وهكذا توجهت لأعظم سورة، ولكن بعد المرور على سورة «فصلت». لم يكن حفظي بالترتيب أو من البداية للنهاية، كما في معاهد تحفيظ القرآن.
كانت سورة «فصلت» مقررة علينا في الصف التاسع (ثالث إعدادي). كان الجميل في السورة مقطع روعة، عن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا كيف تتزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأنهم أولياء الله.
هذه الصفحة من السورة أشجع فيها من يريد أن يزيد من حفظ القرآن، أن يركز على هذه الصفحة، وفيها دفع السيئة بالحسنة. يا حسرة على العباد، أحيانا أسمع تصرف الناس عكس الآية، قلت إنه دفع الحسنة بالسيئة، على صورة مقلوبة لما جاء في القرآن.
بعد تجربتي مع حفظ القرآن رأيت أمكنة تصلح جدا للتلاوة وبشكل مكرر ومؤثر، أما آية التداين والربا والميراث وما شابه فهي أقرب للمتخصصين. كما أشير للفت النظر إلى أن «التورط» في حفظ القرآن بدون فهمه، ولو بشكل بسيط، لا يعني أكثر من نسخة مكررة للمطبوعات، كما نقل يوما عن «محمد عبده» حين بلغه أن فلانا حفظ كتاب الله، فعلق: زادت نسخ القرآن نسخة. أما الفهم والتفكيك والتحليل، بل واستخدام العلوم الإنسانية المساعدة؛ فهي أمور مختلفة تعطي المعنى لماذا نزل هذا الكتاب المبين هدى للناس.
حاليا طريقتي في التعامل مع القرآن أصبحت مختلفة، مثلا على مدى أيام وأنا أقرأ سورة «الرعد» وأكتشف أسرارها، وليست هي السورة الوحيدة، ثم إنني أكتشف كل يوم العديد من يشكك في القرآن الكريم، أو أنه مفهوم على نحو مغلوط، ولعل أشهر من كتب على حد علمي من الوسط السني هو «الشحرور»، ومن الوسط الشيعي «القبانجي»، وقد كتبت حول «الأخير» بحثا مطولا نشرناه في جريدة «الأخبار» في المغرب.
كلا الرجلين أي «الشحرور والقبانجي» اجتهدا وهو أمر مزكى ومبارك، وإن كان أسلوب الثاني لا يخلو من السخرية، التي لا أظن أنها ستخدمه في اتجاهه، أما الشحرور فكان ملتزما أكثر، وهو يقول كما قال أيضا المصري «جمال البنا» إنه ليس ثمة نسخ في القرآن، ولكنه اعتمد أداة اللغة لفك مغاليق القرآن، ولا أظنه وصل إلى أساسات تفيد الضمير المسلم الحالي، باستثناء دعوته إلى المراجعة، كما فعل البنا المصري والقبانجي.