هكذا أنشد المتهمون داخل القاعة أناشيد حماسية فور صدور الأحكام القاسية ضدهم
صباح 17 شتنبر لم يكن مجرد يوم آخر من أيام محاكمة مراكش، بل كان اليوم الأخير الذي افتُرض أنه الحلقة الأخيرة في مسلسل محاكمة مراكش الشهيرة، الذي كان مشوقا أحيانا، وسببا في الملل من فرط تكرار بعض العبارات التي أريدَ بها إغراق المتهمين في التهم المنسوبة إليهم.
193 متهما كانوا ينظرون إلى رئيس المحكمة في اللحظة التي قال فيها إنه سيعلن الأحكام التي طالما انتظرها متابعو المحاكمة وعائلات المتهمين. أما المتهمون أنفسهم فقد كان أغلبهم، حسب بعض الإفادات، غير عابئين بالنتيجة، خصوصا وأنهم أصبحوا متعبين نفسيا من كلام رئيس المحكمة وأسابيع الخذلان التي عاشوها بمرارتها كلما سمعوا مطالب النيابة العامة باتخاذ أقصى العقوبات في حقهم.
المحاكمة في أرقام
جاء في محاضر النقيب عبد الرحيم بن بركة، والذي قلنا إنه كان من بين المحامين الشباب وقتها، عن هيئة الرباط، والذين كانت محكمة مراكش من معالم بدايات مسارهم المهني الذي سيصبح حافلا جدا في ما بعد، بعض الأرقام المتعلقة بالمحاكمة الشهيرة. يقول: «أحيل ملف القضية، الذي يضم 193 فقط من المعتقلين البعض منهم في حالة فرار، على قاضي التحقيق لدى المحكمة الدائمة للقوات المسلحة بالرباط، بتهمة المساس بأمن الدولة الخارجي. وبعد أن أنهي التحقيق أصدر قرارا بعدم الاختصاص، فأحيل الملف على المحكمة الإقليمية بالرباط. إلا أن الجهات المعنية ارتأت إحالته من جديد على المحكمة الإقليمية في مراكش. فتمت إحالة ملف القضية على قاضي التحقيق لدى المحكمة نفسها، السيد الحسن الحجوي الذي شرع في التحقيق فيها إلى أن أصدر قرارا بالإحالة على محكمة الجنايات بالمحكمة نفسها. وبعد أن قضت غرفة الاتهام ضد الطعون المقدمة ضد قرار الإحالة برفضها،
شرعت محكمة الجنايات في جلسات المحاكمة ابتداء من 14 يونيو 1971، إلى أن تم النطق بالحكم في القضية يوم 17 شتنبر من السنة نفسها.
استمرت الجلسات طيلة مدة ثلاثة أشهر وثلاثة أيام. اشتغلت خلالها المحكمة 32 يوم عمل. عقدت أثناءها 64 جلسة واحدة في الصباح والأخرى بعد الظهر. بمعدل تسع ساعات في اليوم الواحد. أي أن مجموع المحاكمة استمر 290 ساعة.
وقد استغرقت مداولات المحكمة، ابتداء من يوم فاتح شتنبر 1971 على الساعة التاسعة وعشر دقائق صباحا، إلى غاية يوم 17 شتنبر على الساعة الرابعة مساء. أي مدة 17 يوما. الأحكام الصادرة قضت بـ: 11 إعداما. حُكمين بثلاثين سنة نافذة. 24 حكما بعشر سنوات. براءتين لفائدة الشك».
هذه نبذة بالأرقام جمعها النقيب عبد الرحيم بن بركة لإعطاء صورة ختامية عن محاكمة مراكش الشهيرة.
صور لا تُنسى
من الأمور المتعلقة بمحاكمة مراكش الشهيرة، والتي كان مستحيلا على من عاشوا أطوارها نسيان تفاصيلها، تلك التي تتعلق بساعات الترقب والانتظار، رغم التأكيدات من طرف بعض المتهمين وأصدقائهم القدامى، أنهم لم يكونوا عابئين بحكم رئيس المحكمة، إلا أن حالة من الترقب سرت في المحكمة وأحس بها محامو الدفاع أنفسهم، عندما كان القاضي يتنحنح في مقعده للنطق بالأحكام.
كان بعض المتهمين، في لحظات الخلوة في السجن العسكري، أو حتى في أيام الاعتقال السري التي كانت خلالها الملفات تُعد للانتقام من بعض المتهمين المشاكسين.. كانوا يعلنون لأصدقائهم بين الفينة والأخرى أنهم قلقون على مستقبل أبنائهم وأنهم يعلمون أن مصيرهم سيكون الإعدام في أسوأ الحالات.
لكن الدفاع، الذي كان يتزعمه كل من عبد الرحيم بوعبيد وامحمد بوستة، كان قد ذهب في اتجاه رفع معنويات المتهمين طيلة الأشهر الثلاثة للمحاكمة، حتى أن البعض عقدوا آمالا كبيرة على الدفاع لإثبات براءتهم من التهم الخطيرة المنسوبة إليهم، وصدقوا أنهم فعلا سيخرجون أبرياء من القضية، بعد أن أثنى المحامون على أدائهم أمام رئيس المحكمة والرد على أسئلته دون تلعثم وسرد كل التفاصيل التي يعرفونها وشرح المغالطات المنسوبة إليهم في المحاضر. لكن النهاية كانت بعكس توقعات الجميع، متهمين ومحامين أيضا.
عندما غنى المتهمون وسط القاعة
الحكم كان مكونا من 393 صفحة تضم أسماء المتهمين جميعا في القضية والحيثيات المرافقة للحكم والتوصيات التي أصدرتها المحكمة أيضا. كان عسيرا على الجميع أن يصبروا إلى أن ينتهي رئيس المحكمة من تلاوة جميع فقرات صفحات الحكم. تبدو الصفحات التي قارب عددها الأربعمائة صفحة، مملة ورتيبة وبلا نهاية، بالنسبة للذين كانوا ينتظرون بشغف وصول القاضي إلى الصفحات الأخيرة التي تضم «المفيد»، خصوصا وأنه لم يكن سارّا أبدا.
يقول النقيب بن بركة، بهذا الخصوص، إن القاضي أمر فور انتهائه من تلاوة جميع أسماء المتهمين، (أول اسم هو أجار محمد الملقب بسعيد بونعيلات، وآخر الأسماء هو المناضي إبراهيم، الذي كنا تحدثنا عنه في حلقة خاصة، والذي كان يحمل الرقم 193، والذي تمت تبرئته وإعفاؤه)، بمصادرة جميع المحجوزات لفائدة الدولة، «مع حفظ حق الغير فيها عدا الأشياء التي يكون صنعها أو استعمالها أو حملها أو حيازتها أو بيعها، جريمة. وعلى المحكوم عليها بأداء صائر الدعوى تضامنا بينهم باستثناء المحكوم عليهم بالإعدام أو المؤبد. وأمرت أن تُسحب مادة العقوبة السالبة للحرية بصفة مؤقتة من اليوم الذي وضع فيه المحكوم عليه تحت الحراسة».
المشكل يتمثل في أن أيام وأشهر الاعتقال السري لن تُحتسب لفائدة المتهمين، وتأكد هذا الأمر بعد سنوات طويلة عندما أثيرت القضية في جلسات الإنصاف والمصالحة وجلسات الاستماع المطولة إلى ضحايا سنوات الجمر والرصاص، والذين قال أغلبهم إنهم اعتقلوا بشكل سري وتم اختطافهم من مقرات عملهم أو في طريقهم إلى العمل، أو من بين أبنائهم ليلا أو في الصباح الباكر، ولم تُحتسب أيام الاختطاف السري في الأماكن السرية التي استعملت لهذا الغرض، بل إن المحكمة احتسبت فقط اليوم الأول الذي صُنعت ملفات رسمية للمتهمين وأحيلوا على الاعتقال رسميا، في انتظار انطلاق جلسات المحكمة للنظر في المحاضر التي تضم وقائع التحقيق معهم، دون الإشارة إلى أن بعض المحاضر كانت قد صُنعت في المعتقلات السرية على يد الذين باشروا عمليات التعذيب، لتوثيق الاعترافات التي انتزعت من أغلب المتهمين وقادتهم إلى المشنقة أو التقييد بحكم المؤبد الذي ناله عدد مهم من المعتقلين.
لكي نختم هذه الحلقات، يكفي فقط أن نحيل على صورة مؤثرة للغاية، والتي كانت بمثابة نهاية لمسلسل جلسات المحاكمة الشهيرة: «أنذر الرئيس جميع المحكوم عليهم مع إيقاف تنفيذ الحكم، بأنهم إذا حكم عليهم مرة أخرى قبل مضي خمس سنوات من ذلك اليوم الذي يعتبر فيه الحكم حائزا لقوة الشيء المحكوم به، وذلك من أجل جناية أو جنحة، حكم عليه من أجلها بالحبس أو بعقوبة أشد، فسوف تنفذ على من وجد في تلك الحالة منهم هذه العقوبة فعلا (الموقوفة التنفيذ)، بالإضافة إلى العقوبة التي قد يحكم بها عليه. كما أنه سوف يتعرض للعقوبات المشددة بموجب حالة العود.
كما أخبر جميع المتهمين بأن لهم أجلا قدره ثمانية أيام ليقدموا طعنا لدى المجلس الأعلى ضد الأحكام إن أرادوا ذلك.
بعد النطق بالإحكام، قام المتهمون وأنشدوا نشيدا حماسيا كانوا قد حفظوه في معتقلهم».
يقول النقيب عبد الرحيم بن بركة، إنه تعذر عليه نقل كلمات النشيد ولم يسجلها في حينها، لكن الأكيد أن الحبيب الفرقاني كانت له يد في تأليف كلمات النشيد الحماسي، لأنه كان يؤلف الشعر في محنته في ظلام الزنزانة والأقبية السرية التي مر بها، قبل أن يُعرض على المحكمة، حتى أنه في مرافعته دفاعا عن نفسه أمام القاضي، كان يلقي بعض الأبيات الشعرية من تأليفه، لوصف التعذيب الذي عاشه، وقسوة الجلادين ضده وضد رفاقه في المحنة التي كتب لها أن تطوى لاحقا، بعد مدة طويلة على صدور هذه الأحكام القاسية، وهكذا كُتبت حياة جديدة لكل الذين صدر في حقهم حكم الإعدام أو المؤبد.
وكأن النهاية كان يراد بها القول إن الملف قد طُوي نهائيا، لكن الواقع يقول عكس ذلك. إذ إن ما رافق المحاكمة من أجواء ومشاحنات، عكست مدى إصرار بعض الجهات في الدولة وقتها على إقبار المناضلين القدامى والمعارضين السياسيين وإرسالهم إلى المشانق بتهم ثقيلة. وهكذا كانت الخلاصة أن القضاء الذي تولى الإشراف على هذه المحاكمة الشهيرة، كان مسيرا، وإلا فما معنى إصدار أحكام بالإعدام، بخصوص تهمة ثقيلة جدا تتعلق بأمن الدولة واستقرارها، ويتم التراجع عنه في الأخير؟ إنها فعلا محاكمة القرن.