هروب ينقذ ضابطا من مقصلة الإعدام
لم يكن يعرف ما يجري بدقة. استدرجه العقيد محمد عبابو إلى رفقة محسوبة، تصور أنها إذا لم تسفر عن شيء، فستكون وضعته في منطقة أقرب إلى عقل العقيد أحمد الدليمي الذي كان يشغل منصب المدير العام للأمن الوطني.
ليس كل القرابات والمصاهرات مع الكبار لها طعم واحد، فقد تصبح مصدر إزعاج وقلق، وقد تظل مدعاة ارتياح وتسلق إلى الأعلى لا العالي. ولم يتردد أحد الضباط العسكريين حينها في الانصياع لطلب العقيد عبابو الذي كان نجمه بدأ في الصعود الذي يقال عنه إنه يكون إلى الهاوية. وما طار طير إلا وقع.
الضابط الذي اسمه المليس كان صهر الدليمي. ولم يندم على شيء أكثر من ندمه على عدم إخباره بالدعوة المفاجئة التي تلقاها من العقيد عبابو لشرب كأس شاي في يوم عطلة. وحين بدا له أن الدعوة لا تخص وليمة بالخرفان المشوية بما يسبقها وما يتخللها وما يليها، أصيب بالفزع. فقد كان في طريقه إلى مأتم بنيران ملتهبة وقنابل ومفرقعات شوت أكباد وأجساد بني آدم. ولم يكن منه إلا أن فر مذعورا بجلده، من دون أن يعلم أحد بأن شاهدا، على قدر كبير من الإلمام بتفاصيل اللحظة الأخيرة من المحاولة الانقلابية الفاشلة في الصخيرات، قد انسل من بين العربات وهرول في اتجاه مجهول.
لكن مغامرة الهروب تبقى أقل خطورة منها في حالة بدء خطة التنفيذ، ولو أدرك بعض كبار الضباط أن في إمكانهم أن يهربوا لما كان مصيرهم رهيبا، لولا أن الهروب الذي يقول عنه المثل الشعبي إنه «شجاعة» من نوع آخر، ليس من شيم حملة النياشين والأسلحة.
كيف حدث هذا من دون أن يشعر عبابو وجماعته بأن الضابط المليس لن يكون معهم في لحظة الصفر التي خططوا لها طويلا؟ فهو لم يكن طرفا ودبر أمره وحيدا لدى إدراكه أنه ذاهب إلى حيث لا يريد، وما لبث أن قفز من السفينة قبل أن تغرق.
بكل بساطة لأن بعض العربات التي كانت تقل تلامذة المدرسة العسكرية في «هرمومو»، تاهت عن الطريق لدى عبورها وسط العاصمة الرباط. ومن المفارقات أنها لم تكن الحالة الوحيدة التي تعكس نموذج الفوضى السائدة، فأثناء خروج العربات من منطقة في الأطلس تاهت العربات في اتجاه بلدة الحاجب بدل أن تسلك الطريق الرئيسية المؤدية إلى مكناس.
وكان من عناصر تخفيف أحكام صدرت ضد تلامذة «هرمومو» أن هذه الواقعة دلت على أنهم لم يكونوا في صورة المخطط الرهيب الذي دفعوا إلى تنفيذه، دون علم بخلفياته، فقد احتفظ عبابو وشقيقه بالأسرار الكمينة بالتفاصيل، حتى أن «سوء فهم» بينه والجنرال محمد المذبوح، جعله يشك في ولاء العقل المدبر ويرديه أرضا بنفس السلاح الذي وجهه إلى صدور أبرياء.
كانت الوجهة وفق ضباط وتلامذة هي المشاركة في مناورة بالذخيرة الحية في بن سليمان، لذا لم يكن اجتياز المدن المؤدية إليها يثير حفيظة راكبيها، إلا في حالات الانشغال بالبنايات والشوارع التي لا يعرفونها. والظاهر أن الضابط المليس الذي كان يقطن في العاصمة الرباط، تنبه إلى شرود النظرات، وقفز من الجيب، وهي تجتاز شارع الحسن الثاني، من دون أن تنتبه كتيبة القيادة إلى تسلله.
واجه المليس بعد انقشاع السحب، استنطاقات، على غرار المشاركين المحتملين، إلا أنها كانت أقل عنفا، بالنظر إلى أن صهره أحمد الدليمي كان واحدا من بين المشرفين عليها إلى جانب محمد أوفقير الذي كان يتطلع إلى ما بعد التحقيقات. فقد أكد الضابط أمقران، بعد المحاولة الانقلابية الثانية، أن أوفقير هدده بإدراج اسمه على قوائم المتورطين، وترك له فرصة التقاط الأنفاس، بهدف إعداده نفسيا لتقبل كل أوامره اللاحقة.
كان أهم سؤال واجهه المليس هو: كيف فكرت في الهروب؟ ولماذا لم تخبر رؤساءك المباشرين، أو تذهب إلى أقرب مركز لإشعار السلطات بالخطر الداهم؟ كان جوابه في أشواط التحقيق، أنه لو لم يهرب لكان من بين المتورطين المباشرين، وأنه اتجه إلى مقر سكن العقيد أحمد الدليمي للاحتماء هناك، ولم يجده، لأنه كان موجودا في حفل الصخيرات. وروى تفاصيل هروبه، إلا أن ذلك لم يحل دون مثوله أمام المحكمة العسكرية في القنيطرة.
كان صهره واحدا من هيئتها العسكرية، ونقل عن الدليمي بعد انفضاض جلساتها، أن الأحكام لم تكن قاسية ورادعة بما يكفي. واستطاع الضابط المليس أن ينتزع براءته. فيما أن جنرالا ارتمى في أحضان العقيد اعبابو الذي ساق ضباطا متنفذين على متن عربة إلى مقر القيادة العسكرية، ثم أمرهم بالالتحاق بثكناتهم وانتظار ما سيأتي إليهم من أوامر، لم يتمكن من انتزاع براءته.
المشكل أن ذلك الجنرال غادر مقر القيادة العسكرية في طريقه إلى ثكنة في الجنوب. لاح له في الطريق الساحلية التي كانت تمر بمحاذاة الصخيرات، أن الحركة هناك هدأت فدفعه فضوله إلى معرفة حقيقة ما حدث. في رواية موثقة أنه عرض إلى ما دار داخل مقر القيادة العسكرية، فقيل له إن ما عليه سوى أن ينفذ الأوامر التي صدرت إليه، وكانت تلك خطيئة لا تغتفر.
ترى لو أنه فكر في الهروب من العربة التي أقلته وضباطا آخرين، هل كان مصيره سيكون ما حدث؟