هرقل يبني جسرا بين قارتين
ينجذب السياح الإسبان، وغيرهم من ساكنة الضفة الشمالية للبحر المتوسط، إلى اكتشاف أسرار مغارة هرقل الواقعة في منطقة «أشقار» عند خصر مدينة طنجة. لقد تركوا لعلماء الجيولوجيا تفكيك ألغاز الطبيعة المدهشة إلى حد الإعجاز، وراحوا يمنون النفس بقصص الأساطير التي لولاها لما حلق الخيال بعيدا.
أصغى كاتب صحافي عربي إلى ما تتداوله الألسن من حكايات حول اختيار هرقل، الكائن الأسطوري، استراحة أبدية هناك. التقط منها ما يفيد بأن اليابسة كانت تجمع الجزء الشمالي من إفريقيا إلى أوروبا، وأن هرقل فعلها لسبب ما، ضرب اليابسة وشقها إلى نصفين، ثم تسربت مياه المحيط الأطلسي لتصنع، بحيرة الأبيض المتوسط، مهد الحضارات وتفاعل الإشعاع الثقافي.
مثل أي منطقة تحفها مراقي الفكر الإنساني، ينبعث الصراع الذي كان ولا يزال. وليس مصادفة أن مجالات التفاعل الحضاري هي ما يستحوذ على الجزء الكبير من أوجه الصراع، كما في منطقة الشرق الأوسط ماضيا وحاضرا ومستقبلا. فقد ازدهرت الحضارات على ضفاف الأنهار والبحار ومنبسطات الأراضي الزراعية، كما رافقتها الحروب والغزوات، وأنماط التوسع الذي لا يقيم وزنا لمفاهيم الحدود والحقوق والعدل.
يعنينا من الحقائق التي ترامت على الضفتين الشمالية والجنوبية للبحر المتوسط، أن الفجوة التي صنعها هرقل في القصص الأسطورية، لم تردم بعد، مع أن الكشوفات العلمية بلغت درجات عالية في تطويع الطبيعة. لكن المغاربة والإسبان تنبهوا إلى أن ما يجمعهم أكبر مما يدعو إلى التفرقة، وحيث إن من يركب البحر لا يخشى من الغرق، انبثقت فكرة رائدة وجميلة، مفادها طرح السؤال: لم لا تعود اليابسة إلى أصلها، في ظل الاختراق الأزلي الذي يفصل بين أوروبا وإفريقيا عبر البحر المتوسط.
كانت زيارة العاهل الإسباني الأب خوان كارلوس إلى المغرب مواتية، والذين اعتقدوا أن الحرب قادمة بين البلدين الجارين بسبب خلافات الأسماك على الساحلين الأطلسي والمتوسطي، هالهم أن البلدين يفكران في المستقبل، من منظور أكثر صلابة.
هكذا برزت فكرة الربط القاري بين إفريقيا وأوروبا عبر مضيق جبل طارق. فقد تخلص البلدان إلى حد ما من أعباء المواجهات الدبلوماسية حول قضية الصحراء، وآن لهما استبدال أشكالها بنوع من الوئام الذي يصنع شيئا كبيرا للأجيال المقبلة. يمكث على الأرض ويصمد في مجابهة الهزات العابرة، أيا كانت درجاتها ورداتها.
الأهم في المشروعات الكبرى أنها تبدأ بالأحلام. فالخيال العلمي كان وراء اكتشاف الفضاء وغزوه. وعندما حفلت روايات وأفلام بتوقعات حول ما يموج في الفضاء البعيد، إلى درجة تصوير غزوات مضادة لكائنات فضائية لا ينال منها الرصاص. كان ذلك إيذانا بأن الحلم سيتبلور لاحقا في اتجاه سبر أغوار العوالم والأفلاك المجهولة.
لكن الجسور الصغيرة التي أقامها المزارعون حول الأنهار والسواقي، ستتحول إلى إنجازات عملاقة تربط بين المدن والأنهار، فالحدائق المعلقة التي تعتبر من عجائب الدنيا السبع صارت جسورا معلقة تشرئب إلى ناطحات السحاب والأبراج الهائلة. وطريق البحر التي مدت حركة التجارة بروافد جديدة واكتشفت قارات وعوالم، تبقى أقرب إلى نشر قيم التعاون والتفاعل بين بلدين، بمستوى المغرب وإسبانيا يزخر تاريخهما بالمشترك الذي لا يتبدد، رغم عوارض الخلافات.
سيقترن التفكير في مشروع الربط القاري بين المغرب وإسبانيا بفكرة طموحة، من خلال الحديث عن طريق طنجة – لاغوس، التي كان يفترض أن تتمدد جنوبا وشمالا للتقريب بين أوروبا وإفريقيا. وبالقدر الذي بدا فيه أن لا بديل أمام القارة العجوز إلا السير في اتجاه الانفتاح على القارة السمراء، باعتبارها متنفسا طبيعيا واقتصاديا تزيد الحاجة إليه، كلما توسع الفضاء الأوروبي، بالقدر الذي بدا فيه أن محدودية منطق المساعدة في العلاقة بين الأوروبيين والأفارقة يتعين أن يغادر أبراج التعالي ويتجه إلى منظور المساعدة في التأهيل والتنمية.
سينشغل خبراء إسبان ومغاربة بالترتيبات اللوجستية لمشروع ضخم بهذه الأهمية، سجل في وثائق الأمم المتحدة كواحد من تحديات الحاضر والمستقبل. استغرقت الدراسات مداها في الاتفاق على نوعية المشروع، هل سيكون في شكل جسر معلق أو نفق تحت البحر. وكانت كل الاقتراحات ترافقها مزاياها وحجم كلفتها، فمن غير الوارد أن تتولى دولتان استخلاص الموارد الكافية لإنجاز مشروع ذي منافع دولية كبرى. ومثلما تختص الأمم المتحدة بقضايا التنمية ومحاربة الكوارث والأمراض والأوبئة وتخليص البشرية من شوائب الفوارق والمزالق، كان عليها أن تتدبر أمر التمويل والإنجاز الذي سيستغرق زمنا أطول.
في المتن العربي أن الخل يفسد طعم العسل. فقد ذهب الأوروبيون إلى أبعد مدى في فرض اتفاق «شينغن»، وصار تنقل الأشخاص والبضائع والممتلكات أكثر صعوبة، ثم أضافت موجات النزوح واللجوء التي اعتمدت البحار والمرافئ غير المشرعة أعباء أكثر ثقلا. ولا يزال هرقل محتميا بمغارته في «أشقار» في انتظار بداية فصل جديد من تقارب اليابسة مع أجزائها.