هذه قصة أول حوار مع سلطان مغربي على الإطلاق
كما تنقلها لـ «الأخبار»حفيدة الصحافي الذي أجرى المقابلة
يونس جنوحي
«أول حوار صحافي، بالمعنى الكامل للحوار الصحافي، منح في تاريخ المغرب للصحافة الأجنبية، حازت عليه صحيفة «التايمز» البريطانية.
هذه الصحيفة العريقة التي لا تزال تصدر إلى اليوم، حصلت على أول مقابلة مع المولى عبد الحفيظ بعد وصوله إلى السلطة سنة 1908. علما أن محاولات سابقة لإجراء مقابلات في القصر الملكي باءت بالفشل.
بعد ذلك تتالت المقالات والبورتريهات التي تناولت حياة المولى يوسف خلال عشرينيات القرن الماضي، ثم السلطان محمد بن يوسف من بعده الذي احتك مع صحف كثيرة صدرت من أوربا ومن المغرب أيضا، لكن السلطان لم يكن يمنح حوارات صحافية مباشرة محافظا على مسافة من الإعلام الأجنبي. تغيرت الأمور مع الملك الراحل الحسن الثاني الذي أحدث ثورة حقيقية في علاقة القصر بالإعلام، ومنح مقابلات صحافية، وسمح للكاميرات بتسجيل أفلام وثائقية عن يومياته وتحركاته ونقلت عنه آراءه بخصوص مواضيع فكرية وأدبية، وسياسية بطبيعة الحال..»
لماذا فشل الصحافيون القدامى في انتزاع حوارات صحافية من القصر؟
لم يكن مقبولا في أيام المولى الحسن الأول، الذي توفي سنة 1894، إجراء حوارات صحافية مع الأجانب. علما أن صحفا من المشرق وصلت إلى القصر الملكي عند عودة أصدقاء السلطان من موسم الحج، ونقلوا إليه تلك الصحف التي تحدثت عن الأوضاع في مصر ولبنان وسوريا، وعلاقتهم المشحونة مع فرنسا والإنجليز.
لكن المولى الحسن الأول، بحكم أنه كان سلطانا محافظا، استمر في الابتعاد عن الأجانب. فحتى داخل المغرب وقتها، كان الناس يرفضون تداول النقود التي حاولت فرنسا إدخالها إلى التداول عبر الموانئ، مع كبار التجار المغاربة، واعتبر المؤرخون، عبد الهادي التازي على سبيل المثال، أن علماء القرويين اعتبروا تلك النقود المعدنية والورقية أولى علامات الشؤم من تدخل الأجانب في الحياة العامة بالمغرب، خصوصا أن دار السكة في فاس، نجحت وقتها في ضرب عملة حسنية، نسبة إلى المولى الحسن الأول. كان وزيره باحماد، في آخر سنوات حياته، سنة 1901، قد سمح لعدد من الدبلوماسيين الأجانب بزيارته، وعلم من مقربيه أن بعض الأجانب الذين زاروه صحافيون سوف يكتبون للعالم عن شخصيته، لكن بحكم مرضه، فقد كان عاجزا عن التأثير فيهم.
لكن مع تلميذه المهدي المنبهي، دخلت علاقة القصر بالصحافة منحى آخر، فهذا الوزير بعد فراره سنة 1904 إلى طنجة، حاول الحفاظ على مسافة من الجميع دون أن يقطع حبل الوصل مع المخزن، وهكذا أصبح اسمه على صدر الصحف في فرنسا وبريطانيا، وروج لاسمه في الداخل على أساس أنه يتمتع بنفوذ في الخارج وأنه قادر على حل الأزمة المغربية، لكنه لم يجد أذنا مصغية في الداخل إلا في عهد المولى يوسف عندما راسله مقدما إليه نصائح في التعامل مع الإقامة العامة الفرنسية.
كان السلطان المولى عبد الحفيظ أول سلطان مغربي يمنح حوارا صحافيا حقيقيا للصحافة الأجنبية. صحيفة “التايمز” البريطانية كانت الصحيفة التي فازت بهذا السبق التاريخي، والذي حققت من خلاله مبيعات خيالية. فقد كانت هذه الصحيفة تركز على المغرب منذ بداية القرن العشرين، لكنها لم تضع يوما تصريحا لسلطان مغربي، إلا في سنة 1908 عندما وافق المولى عبد الحفيظ على منحها هذا الشرف.
وراء هذا الحوار قصة تستحق أن تروى، إذ أن الصحافي الذي أنجز الحوار غامر بحياته حرفيا للوصول إلى فاس خلال الأسابيع الأولى لحكم المولى عبد الحفيظ، في وقت كان فيه كبار المخزنيين المغاربة عاجزين عن السفر مخافة أن يتم اغتيالهم على يد الموالين للسلطان المعزول المولى عبد العزيز. لكن هذا الصحافي الذي وصل متنكرا، استطاع الفوز بالحوار الصحافي الأول في تاريخ الدولة العلوية، ونشره على صفحات الجريدة وفي مذكراته حيث نقل جزءا من الحوار طلب منه المولى عبد الحفيظ وقتها ألا ينشره نظرا لحساسيته، إذ أعرب للصحافي عن موقفه السلبي من الألمان وعدم ارتياحه للفرنسيين. ولو أن مضامين الحوار نشرت كاملة وقتها لتسببت في أزمة سياسية بين القوى الأوربية. لكن الحوار المنشور تطرق لشخصية المولى عبد الحفيظ ورؤيته للسلطة، وترحيبه بالتواصل مع بريطانيا باعتبارها دولة صديقة للمغرب منذ القدم، واستعداده لبحث حل لتعزيز الوجود البريطاني خصوصا في منطقة طنجة الدولية، ثم موقفه من الاتفاقيات التي كانت مبرمة وقتها بين بريطانيا وفرنسا بخصوص مستقبل وجودهما في المغرب.
حفيدة الصحافي «لاورنس هاريس» الذي أجرى الحوار، لا تزال على قيد الحياة، وتروي لـ«الأخبار» بشكل حصري ذكرياتها مع جدها الصحافي الذي توفي عندما كانت في سن الثامنة، وها هي اليوم بعمر الـ95، لا تزال تحمل ذكريات عن جدها الذي حصل على سيف ثمين من المولى عبد الحفيظ بعد إجراء الحوار، احتفظ به في مكتبه في لندن.
الملك الحسن الثاني.. أول من منح الصحافة لقاءات مصورة ومباشرة
رغم أنه ترعرع في وسط لم يكن شائعا فيه التعامل مع وسائل الإعلام، إلا أن الملك الحسن الثاني استطاع خلق علاقة فريدة بينه وبين كبار الصحافيين في فرنسا على وجه الخصوص.
عندما كان الملك الحسن الثاني في سن الشباب، خصوصا خلال مرحلة عودة العائلة الملكية من المنفى سنة 1955، رأى كيف أن وسائل الإعلام كانت تلتف حول والده لنقل الحدث بالصوت والصورة، كما أنه كان شاهدا على أولى عمليات دخول المنابر الأجنبية إلى القصر الملكي لنقل أجواء عودة السلطان إلى المغرب بعد سنوات عصيبة من النفي بالخارج.
لكن رؤية الشاب لعلاقة القصر بالصحافة كانت ثورية. كان يشاركه صديقه ومستشاره لاحقا، أحمد رضا اكديرة، في هذه الرؤية. لذلك كان إلى جانبه عندما منح الصحافة أول حوار صحافي باعتباره ملكا سنة 1962. سرعان ما شاع بين كبار الصحافيين في العالم، أن الملك المغربي الشاب بارع جدا في رفع إيقاع الحوارات الصحافية، وجاء إليه صحافيون آخرون من التلفزيون الفرنسي، ثم الألماني والسويسري. جاؤوا في البداية لتصوير أفلام وثائقية عن مغرب العهد الجديد، خصوصا ما بين سنوات 1962، و1965، وتخللت تلك الوثائقيات حوارات مطولة بالصوت والصورة داخل المكتب الخاص للملك الحسن الثاني، والذي كان يحكم منه البلاد ويطالع التقارير التي ترفعها له مختلف المصالح والأجهزة بشكل يومي.
أما الحوارات المكتوبة، فقد استأثرت بها كبريات الصحف الفرنسية التي تناولت مع الملك الراحل آراءه بخصوص قضايا عربية وإقليمية، خصوصا العلاقة مع الجزائر بعد حرب الرمال سنة 1963، ثم الأزمة بينه وبين الهواري بومدين، والعلاقة التي حكمها المد والجزر بينه وبين حافظ الأسد ثم مع العقيد القذافي الذي لم يتطرق الملك الراحل الحسن الثاني لعلاقته معه بنفس الصورة التي تطرق بها لعلاقته مع زعماء آخرين.
لاحقا، أصبحت الحوارات المباشرة أمرا معتادا داخل القصر الملكي، لكن أبرز حوار أجري داخل القصر الملكي كان يوم انقلاب غشت 1972، حيث عقد الملك الراحل ندوة صحافية داخل القصر الملكي تحدث فيها بشكل مباشر عن مشاعره بعد النجاة من الهجوم على طائرته والدقائق العصيبة التي عاشها في السماء، وتناول إحساسه بكثير من الانفعال وهو يطلع على أولى المعلومات التي تؤكد ضلوع الجنرال محمد أوفقير، محل ثقته الكاملة، في العملية.
خلال ثمانينيات القرن الماضي، كان البث المباشر عبر الأقمار الصناعية في أوجه، وحل الملك الراحل عبر النقل المباشر من القصر الملكي في فاس، ضيفا على أشهر البرامج السجالية حيث خاض النقاش مع ثلة من أشهر الصحافيين الفرنسيين الذين كانوا يحولون قاعات داخل القصر الملكي إلى استوديوهات لتصوير تلك الحوارات.
أما الصحافة الأمريكية، فعلاقة الملك الحسن الثاني بها تعود إلى سنة 1955، عندما خصصت مجلة LIFE عددا لها لنقل أجواء عودة الملك وأسرته من المنفى، حيث خصصت المجلة بورتريها كاملا عن ولي العهد يتضمن تصريحاته للصحافي الذي أعد المادة الصحافية، حيث كان ولي العهد وقتها يؤكد على ملازمته لوالده والحرص على بناء تجربة مغربية ترسخ الاستقلال. ثم عادت علاقة الملك الحسن الثاني مع الصحافة الأمريكية، في أزمة الخليج سنة 1990، عندما حاورته الصحافة العالمية بخصوص رأيه في الخطوة التي أقدم عليها صدام حسين والدور المستقبلي للمغرب لطي الخلاف العربي قبل فرض عقوبات أمريكية على العراق. وخلف وقتها تصريح الملك الراحل استياء كبيرا لدى صدام حسين، بحكم أن الملك الحسن الثاني دعاه إلى التعقل وعدم الاستمرار في اجتياح الكويت.
كانت هذه نبذة عن مسار أبرز الحوارات التي قدمها الملك الحسن الثاني للصحافة الأجنبية. كيف إذن كان أول حوار صحافي في تاريخ القصر الملكي؟ وراء القصة تفاصيل مشوقة، تستحق فعلا أن تُروى.
حفيدة هاريس تتذكر
استطعنا الوصول إلى أحد أفراد عائلة الصحافي السابق «لاورنس هاريس». السيدة لورا وايلد التي تبلغ اليوم من العمر 95 سنة. تقول لـ«الأخبار»: «في الحقيقة توفي جدي لاورنس هاريس وأنا بعد طفلة في الثامنة. وكنت أذكر ملامحه ومزاجه الحاد (تضحك).. بعد وفاته سنة 1933، متأثرا بمرض مفاجئ ألمّ به وهو في السبعين تقريبا، بقيت مقتنياته في المنزل لفترة قبل أن تقرر العائلة الرحيل وتضيع جل أغراضه في عملية الانتقال الثانية من لندن بسبب القصف النازي خلال الحرب العالمية الثانية. كنت أرى في مكتبه بعض الصور القديمة، وأمي أخبرتني أنها لسلطان مغربي اشتغل معه جدي لفترة. كان يحتفظ في مكتبه بخنجر مزين بالأحجار الكريمة، كان هدية من السلطان له.
أتذكر أيضا أنه كانت لدينا أكوام من الصحف القديمة التي تعود لقرن تقريبا، منذ بداية اشتغاله في الصحافة وهو شاب في العشرين إلى وفاته. كما أنه زار بلدانا كثيرة في الشرق الأوسط، وسبق له زيارة مدينة طنجة التي أحبها مرات كثيرة.
أشعر بالأسف لأنه لم تتوفر لنا الإمكانيات لكي نحافظ على مقتنياته، شأننا شأن أسر لندنية كثيرة فقدت كل ذكرياتها بسبب الحرب العالمية الثانية. لكن في ذاكرتي أحتفظ له بحكايات كان يرويها لي في طفولتي، خصوصا بعد التحاقي بالمدرسة، إذ كان يخبرني عن المرات التي كاد أن يقتل فيها في المغرب وهو في طريقه لإجراء الحوار الصحافي الذي كلفته به الجريدة مع السلطان المغربي. كان يحكي لي بفخر، وبعده والدتي أيضا، كيف أن الصحيفة صرفت له مكافأة كبيرة بعد نجاحه في إجراء الحوار الأول من نوعه مع سلطان مغربي. وكان جزء من مال المكافأة قد صرفه لشراء منزله الذي قضيت به بعض ذكريات طفولتي قبل أن نرحل عن المكان. لقد كانت تلك الذكرى طيبة، وافتخر بها جدنا كثيرا».
جل ذكريات لورا وايلد، ابنة ليزا، الإبنة الوحيدة للصحافي لاورنس هاريس، عن جدها كان مصدرها هو والدتها. وهي اليوم تعيش وسط عدد كبير من الاحفاد، بعد أن تنقلت لفترة للعيش بين مانشتسر ولندن، التي عادت إليها خلال نهاية سبعينيات القرن الماضي.
قبل الحوار..
في سنة 1904، تلقى السلطان الشاب عبد العزيز نصيحة من وزرائه وعلى رأسهم أقربهم إليه، المهدي المنبهي، بعدم الموافقة على إجراء حوار صحافي مع الصحافي الشهير والتر هاريس، بدعوى أن الرجل جر على «المخزن» مشاكل كثيرة بسبب النصائح والعروض التي كان يأتي بها إلى القصر. بسبب هذا الصحافي الذي كتب «المغرب المنقرض»، شن العلماء المحافظون حملة عنيفة ضد السلطان الشاب بسبب موافقته على تزويد القصر الملكي بتيار الكهرباء وإدخال خط الهاتف إلى غرفته بالإضافة إلى السماح للأجانب في فاس بالتنقل على متن السيارات. كانت موافقة السلطان على إدخال بعض الاختراعات إلى المغرب بإيعاز من صديقه الصحافي الذي نصحه أيضا بسن إصلاحات ضريبية على طريقة الحكومة البريطانية والسماح أيضا لأبناك أوربية بفتح فروع لها في المغرب. لكن الصحافي هرب بجلده قبل أن تتحقق هذه الأهداف، بعدما وصله خبر مؤكد باعتزام رجال نافذين في الدولة التخلص منه حتى لا تضيع مصالحهم. وهكذا ضاعت عليه فرصة إجراء أول حوار صحافي في تاريخ المغرب، وربما في تاريخ العالم العربي والإسلامي، إذ كان مخططا أن تحظى صحيفة “التايمز” بهذا السبق العالمي وتحاور السلطان الشاب الذي يحكم المغرب، محط اهتمام الرأي العام في بريطانيا وفرنسا.
بعد فشل هذه المحاولة، عادت «التايمز» لتحاول مرة أخرى مع وصول المولى عبد الحفيظ إلى الحكم سنة 1908. كانت التجربة هذه المرة مع صحافي آخر هو «لاورنس هاريس» الذي تحدث هو الآخر في كتابه «خلف الكواليس مع المولى عبد الحفيظ»، والذي انفردنا في «الأخبار» بترجمته كاملا على حلقات نشرت في صيف سنة 2013. كان الكتاب في الحقيقة نقلا لقصة الحوار الذي أجري مع المولى عبد الحفيظ. هذا الحوار كان فرصة للسلطان المغربي لكي يخبر الألمان والفرنسيين بتفضيله لصداقة الإنجليز، وكانت صحيفة «التايمز» تراهن على هذا الأمر.
حوار للتاريخ..
يقول هاريس متحدثا في كتابه عن قصة الحوار: «كان مولاي عبد الحفيظ متوترا، ويضع نصف ثقته فقط في ألمانيا. كان يتوجب علي أن أسعى إلى طمأنة البال المتردد وغير الواثق للسلطان. في ذاك الوقت، لم يكن لديه شخص ليتحدث إليه بحرية وعفوية في الموضوع. كان محاطا من كل جانب بأناس ينتظرون أول فرصة لطحنه وسحقه. كان يعلم جيدا أن الرجال الذين عينهم بسرعة في المسؤولية ضعفاء ولا يفقهون شيئا.
الكلاوي كان في مراكش، وبالتالي فإنه لا يستطيع أن يتشاور معه، والمنبهي الذي يثق به يوجد في طنجة. مستشاروه لديهم سياسات خاصة لاتباعها، وكنت أنا «النزيه» الوحيد في فاس.
ولكي أجيب على أسئلته بدأت: «في الرد على سؤال جلالتكم بخصوص ألمانيا، الخطوة المتمثلة في إرسال «الدكتور فاسيل» كانت مستعجلة. ألمانيا لا يمكن أن تساعدك دون أن تقامر بحرب أوروبية». لمعت عينا مولاي عبد الحفيظ في تلك اللحظة وأضفت: « لكنها لن تفعل أبدا».
مولاي حفيظ: «لماذا لا تفعل؟ لماذا؟.. إن جيش الألمان أكبر وأقوى من جيش الفرنسيين. أنا أعرف هذا الأمر ومتأكد منه».
«ستفهم جلالتك»، جاوبته: «إن ألمانيا لديها شؤون أخرى لتهتم بها في بقاع أخرى عبر العالم. إذا نشبت القلاقل في مكان آخر، فإنها ستتركك تحارب وحدك».
تساءل السلطان: «وماذا سأفعل تجاه فرنسا؟».
أجبت: « فرنسا جارتك. والمثل المغربي يقول اسأل على الجار قبل الدار وعلى الرفيق قبل الطريق».
المغاربة يحبون أن يتم إقناعهم بالأقوال والحكم، ومولاي عبد الحفيظ بدا مقتنعا لضربة الحظ هاته.
ابتسم السلطان وقال: «اشرح لي ما تقصده أكثر». ابتسامته أعطتني المزيد من الثقة وواصلت بيقين: «فرنسا هي جارتك في الجزائر، إذا احتجت إلى أي مساعدة فإن جارك هو الأقرب وهو الأنسب لتقديم المساعدة. لكن إذا كان هذا الجار عدوا لك فماذا ستفعل بخصوص الحدود البعيدة جدا عن مملكتك؟
جلالتك واع جدا بأن القبائل في الحدود مع الجزائر يخوضون حروبا ضد فرنسا ويقدمون الدعم للقبائل بالجزائر، وهذا أمر سيعطي لفرنسا حجة حتى تدخل إلى بلدك. قد يساعدونك كجيران أصدقاء، أما كأعداء فإنهم سيستعملون أي ذريعة للتوغل أكثر في أرضك، ومن يدري كيف ستكون النهاية؟ الآن، جلالتك، هذا ما قصدته بالمثل المغربي الذي قلت لك».
جلس السلطان متأملا، وكنت أتأمله في صمت، وأتساءل عمّ يدور في رأسه. هل أقنعته حججي في التخلي عن فكرة اللجوء إلى ألمانيا؟ وعما يمكن أن تأتي به من حرب في أوروبا؟
أخيرا تكلم: « لقد أسعدت بكلمتك، أشكرك. ربما يكون كلامك صحيحا، لكنني لا أحب فرنسا ولا أثق في الفرنسيين» توقف فجأة عن الكلام، ثم واصل: «بمن يمكنني أن أثق؟ لا؟ لن أقبل الاتفاق! لكن مهلا.. سأنظر في الأمر، اتركني الآن وعد مرة أخرى عندما أحتاجك».
في إحدى الليالي جاءني مخزني مع حوالي الساعة الثامنة مساء، وقال لي إنه يجب أن أحاول الخروج وأتوجه إلى القصر لرؤية السلطان. كنت لا أزال مريضا، أخذت معي «بوسليم» حتى أتكئ على كتفه القوي. كان مسرورا جدا لأن الفرصة ستسنح له كي يرى السلطان، واستحم جيدا قبل الخروج. أخذت معي نسخة بيانية هي الأولى المرفقة مع تقريري عن الحوار الذي أجريته مع مولاي حفيظ، مرفوقة بالصور الخاصة بلقائي الأول به.
وصلنا إلى ركن مضاء بمصباح ألماني يصدر ظلالا على الركائز. كان السلطان يجلس على أريكة صفراء. بقينا وحدنا مع جلالته.
السلطان الآن رائق المزاج وأكثر راحة، ورأيتها فرصة حتى أقدم له «الجرافيك» الخاص بلقائي به والرسومات المرفوقة. طلب مني 12 نسخة إضافية، وسلمتها له، كان يقلب الصفحات كان يتوجب عليّ أن أجلس قربه حتى أقدم له الشروحات الضرورية.
أعجبته الأوراق وشعر باستقرار أكبر، ها هو الآن معترف به في جريدة إنجليزية مهمة، مكتوب على صدر صفحتها: «مولاي عبد الحفيظ.. سلطان المغرب». لا بد وأنه حصل على مركزه المنشود.
رجاني أن أريه المزيد من الصور في تلك الجريدة «العجيبة والمهمة». كان يقلب الصفحات على مهل وكنت أقدم له الشروحات. اكتشفت أن الشخصيات التي يجب تصويرها لا بد وأن تكون ملكية أو أميرية أو مهمة. لحسن الحظ، فقد كانت الصفحات الأولى تحتوي على صور لشخصيات ملكية. سألني عندما كنت أقلب الصفحات عن هوية رجل: «من هذا».. واضطررت أن أجيبه، وتنفست الصعداء عندما قلب الصفحة دونما اعتراض».
محمد الخامس كان يفضل إنجاز مقالات عنه على إجراء الحوارات
في سنة منتصف 1955، حل الملك الراحل محمد الخامس في باريس، تمهيدا لعودته إلى المغرب، وخصصت له ولأسرته إقامة لكي تزوره فيها شخصيات مغربية وأجنبية.
كانت الصحافة الفرنسية ترسل منتدبيها ومراسليها لتغطية بعض تلك المقابلات. وحدث أن أكثر من خمس مجلات فرنسية لتغطية أخبار المشاهير، طلبت مواعيد مع السلطان لكي تنجز حوارات معه للحديث عن العودة من المنفى.
كان الأمير مولاي الحسن هو الذي يدبر لوالده علاقته بالصحافة الفرنسية، خصوصا وأن البرتوكول الجديد لم يُنشئ إلا بعد عودة السلطان إلى القصر الملكي في الرباط. وهكذا كان على الأمير مولاي الحسن أن يلعب دور المسؤول الإعلامي لوالده، خصوصا وأنه كان يعرف بحكم تكوينه العصري كيفية التعامل مع وسائل الإعلام الفرنسية.
كان محيط محمد الخامس القريب، خصوصا الحاج محمد المعمري، الذي كان رجل ثقته الكبرى ومعلمه السابق، يعرفون أن السلطان سبق له التعامل خلال سنوات الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي مع الصحافة الفرنسية.
خصوصا جريدة «السعادة» ثم «Le petit Marocain». هذان المنبران الإعلاميان كان الملك الراحل محمد الخامس يحتفظ لهما بذكريات كثيرة، خصوصا في نهاية الأربعينيات إذ انخرطت الجريدتان في مهاجمته أحيانا، وأحيانا أخرى بنشر أخبار غير صحيحة اضطرت للاعتذار عنها عندما قدم السلطان محمد الخامس ما يفيد أنها أخبار كاذبة، وترفّع عن متابعة الجريدتين أمام القضاء. وربما كان هذا السبب الأكبر في امتناع السلطان لاحقا عن إجراء حوارات صحفية مع الصحف الفرنسية.
بالعودة إلى سنة 1955، فإن السلطان محمد الخامس بعد أن التقى بعبد الرحيم بوعبيد وعدد من رجال الحركة الوطنية، منهم عبد الكبير الفاسي والدكتور الخطيب، بالإضافة إلى ممثلين عن الأعيان الذين كانوا يبحثون عن المصالحة مع السلطان العائد، والذين كان يتزعمهم الباشا الكلاوي.. كان قد قرر ألا يمنح حوارا صحفيا للمجلات والصحف الفرنسية التي كانت ترابط لأيام أمام الإقامة الملكية، وفضل أن يتم إجراء «ربورتاجات» صحفية لنقل وجهة نظر السلطان على لسان ابنه الأمير مولاي الحسن الذي أكد للصحافة الفرنسية وقتها أن والده متفائل جدا بشأن المستقبل في المغرب، ولمح إلى قرب الإعلان عن استقلال المغرب. وهو ما تلقاه الوطنيون في المغرب باستحسان، حتى أن علال الفاسي نقل مقتطفات من التصريحات على صفحات العلم، بينما كانت المنشورات السرية التي تصدرها الخلايا السرية للمقاومة، تعلن اقتراب الاستقلال.
كان الملك الراحل محمد الخامس قد تلقى دعوة لإجراء حوار معه من مجلة «التايم» خلال سنة 1954، لكن الأمر تعذر بسبب تعقيدات الإدارة الفرنسية، خصوصا أن المحنة المغربية كانت في أوجها. وشعبية الملك الراحل في المغرب كانت أكبر من أي وقت مضى، خصوصا أنه طالب بالإفراج عن الوطنيين المغاربة المحكومين بالإعدام في سجن القنيطرة. وفي الوقت الذي كانت فيه المجلة الشهيرة تنتظر موافقة السلطان المغربي على إجراء الحوار، كانت الإدارة الفرنسية قد تفرغت لإلغاء العرض، في محاولة لفرض نوع من الحصار على شخص الملك الراحل، رغم أن تصريحاته كانت تصل إلى الصحافة بانتظام. ولعل المغاربة اليوم يعرفون أن علاقة الملك الراحل بمجلة «التايم» تتلخص في العدد التاريخي الذي خصصته له المجلة الأشهر في العالم، بينما الحقيقة أن الملك الراحل كان سيصبح موضوعا لغلافها مرتين، وليس مرة واحدة فقط، وربما لو ترك الفرنسيون المجلة تتواصل مع إقامة السلطان في منفاه، لربما كان أول حاكم عربي يمنح المجلة حوارا في تاريخها. لكن الرياح جرت في منحى آخر.
«صناعة المغرب».. كتاب أمريكي يحكي عن أولى اللقاءات مع المولى يوسف
كان الباحث الأمريكي، جوناثان ويرتزن، وهو يشتغل على كتابه عن المغرب ما بين فترة 1912 وبداية الخمسينيات من القرن الماضي، بعد أن زار البلد أكثر من مرة بين الفترتين، متفائلا وهو يرغب في لقاء السلطان المولى يوسف خلال سنة 1924. لكن الحقيقة أن الحوار الذي كان يريد أن يجريه معه لم يتم. ليس السبب مرتبطا بالترجمة كما يظن البعض، لأن السلطان مولاي يوسف كان لديه موظفون مخزنيون يتقنون اللغة الفرنسية، لكن السلطان كان حذرا أثناء تعامله مع الباحث الأمريكي، ولم يكن يريد أن يعطي انطباعا سيئا عن تصوره للمفاوضات مع فرنسا التي كانت قد طوقت المغرب فعليا بحكم معاهدة الحماية التي وقعت قبل مجيئه إلى السلطة بفترة قصيرة.
لكن بالمقابل، حرص السيد ويرتزن، على حد قوله لكي ينقل آراء السلطان مولاي يوسف بخصوص الاتفاقيات التي عقدت مع المغرب قبل وصوله إلى السلطة، وأيضا عن استعداده للتعاون مع الإقامة العامة الفرنسية في هذا الصدد.
لكن واقع الحال أثبت، كما بيّن صاحب «صناعة المغرب»، في فصل بعنوان حجم الحقل السياسي الاستعماري في المغرب، أن القبائل التي بايعت السلطان مولاي يوسف واعترفت بشرعيته، رفضت خلال تلك المرحلة التعامل مع الحماية الفرنسية، ولم يكن ممكنا للسلطان وقتها الخروج إلى الصحافة للحديث عن الموضوع، كما أن كبريات الصحف الفرنسية، كما جاء في هذا الكتاب، كفت عن مبادرات طلب المقابلات الصحافية مع السلطان مولاي يوسف، الذي سمح للمصورين بمرافقته والتقاط الصور وتسجيل مقاطع فيديو لتنقلاته ولقاءاته خلال الأنشطة الرسمية والاستقبالات، لكنه لم يمنح أي حوار نهائيا لأي منبر أجنبي.