هذا رأي دبلوماسيين عرب في إدريس البصري
حين يعتزل السفراء العمل الدبلوماسي ينكبون على كتابة مذكراتهم، التي تسلط الضوء على فترة قضوها في بلد آخر. قد تطول فترة الانتداب أو تقصر، لكنها لا تخلو من مواقف وكواليس غالبا ما تختفي وراء سر المهنة الدبلوماسية.
في مذكرات السفراء، غالبا ما يتم الكشف عن ألغاز ظلت أسيرة دواخلهم، خاصة غضبات الخارجية والداخلية، لكن غالبية الدبلوماسيين يؤكدون أن القلق لا يأتي من بلد الاعتماد المستضيف، بل من سلطات بلدانهم التي تتابع عن كثب تحركات ممثليها وتصريحاتهم ومواقفهم وشلتهم.
ما يخشاه السفراء أكثر هو نزول مؤشر العلاقات بين البلدين إلى أدنى المستويات. وتخفيض مستوى العلاقات الديبلوماسية من درجة السفير إلى درجة القائم بالأعمال، أو منح الممثل المعتمد مهلة زمنية قصيرة لمغادرة البلاد، أو حتى «استدعاء للتشاور» مع سلطات بلاده.
في هذا الملف الأسبوعي، نعالج الموضوع من زاوية أخرى، نتوقف عند علاقة مجموعة من السفراء العرب بوزير الداخلية السابق إدريس البصري، وكيف لعب الرجل دورا كبيرا في مسارهم المهني، أكثر مما يفترض أن تلعبه الخارجية.
البصري يمنع وقفة احتجاجية أمام سفارة تونس
عاش صالح البكاري في المغرب فترة طويلة، حيث شغل مهمة سفير من يناير 1997 إلى أكتوبر 2009، واختار بعد أن ابتعد عن الدبلوماسية كتابة يومياته تحت عنوان «سفيرا بالمملكة المغربية»، تناول فيه جزءا من مساره المهني وغاص بالخصوص في عمق العلاقات السياسية بين المغرب وتونس.
قبل مغادرته المغرب بعد انتهاء مهامه كسفير لتونس في المملكة، نال الرجل الحمالة الكبرى للوسام العلوي، من يد الملك محمد السادس يوم 25 أكتوبر 2009، بعد أن قضى فترة طويلة من حياته في المغرب، علما أن صالح شغل منصب وزير الثقافة.
في كتابه «سفيرا بالمملكة المغربية»، ركز البكاري خلال بوحه على علاقته بالشخصيات النافذة في المغرب، كإدريس البصري وزير الداخلية القوي وعبد الرحمان اليوسفي والجنرال دو كور دارمي عبد الحق القادري.
خصص البكاري جزءا من مذكراته لوزير الداخلية إدريس البصري، وقال إن إبعاده عن سدة الحكم كان خطأ، «قال لي الرئيس زين العابدين بن علي معلقا على توقيت الإقالة إنها غير حكيمة. من الأجدر تعيين المقال على رأس وزارة أقل شأنا من وزارة الداخلية، لما في ذلك من فائدة مزدوجة تتمثل في عدم تخلي الدولة عن رجالها، وحتى لا يفقد رجالها ثقتهم بها، ومن ضرورة «تفريغ خزانته» حتى تنقطع حباله فيتقي جانبه».
نال البصري حيزا كبيرا من مذكرات السفير السابق وتطرق عن بعض متاعبه في المغرب: «في بداية مهمتي لاطفني دبلوماسي مغربي سابق قائلا: «إن السفير تأتيه المشاكل من بلاده أكثر مما تأتيه من بلد الاعتماد». ففي بداية عمل حكومة التناوب قررت عدة جمعيات حقوقية وأحزاب يسارية ونقابات تنظيم مسيرة من وسط الرباط باتجاه مقر السفارة، وتسليمي عريضة احتجاج على إيقاف ناشط حقوقي تونسي. قمت بمجهودات جبارة لمنع المسيرة، اتصلت بكثير من المسؤولين ممن أعرف في الحكومة والأحزاب. لم تنجح تلك المساعي، فالتجأت إلى صديق كان يومها مستشارا للوزير الأول عبد الرحمان اليوسفي، ووعدني بالرد قبل تاريخ المظاهرة، دون جدوى، فاتصلت بعبد الحق القادري، المدير العام للوثائق والمستندات الذي كان صديقا لابن علي. بعد زوال اليوم الموعود خاطبني بالهاتف، إدريس البصري وزير الداخلية، والحال أني لم أتصل به في الموضوع، قائلا: «جلالة الملك يبلغك أنه أمر بمنع تنظيم المسيرة بكل تفاصيلها».
الطريف في هذه الحكاية أن مبعوثا عن اليوسفي زار السفير في بيته وقال له بنبرة حزينة: «لقد تداول المجلس الوزاري اليوم في الموضوع وقرر عدم منع تنظيم المسيرة. تركته يسرد شرح أسباب القرار: عهد جديد من الحريات والحقوق… ثم شكرت له مسعاه وفاجأته بقولي إن البصري اتصل بي وأبلغني قرار جلالة الملك بإلغاء تلك المسيرة فبهجت».
البصري ينبه السفير من خرجاته الإعلامية
يروي الدبلوماسي التونسي صالح البكاري في مذكراته حكاية حوار صحفي أغضب الرئيس التونسي زين العابدين بنعلي، «صباح يوم زيارة عبد الرحمان اليوسفي الأولى إلى تونس لرئاسة اللجنة العليا المشتركة مع نظيره التونسي حامد القروي في خريف 1998». قبل اللقاء أدلى السفير بحوار مع وكالة المغرب العربي للأنباء ونشره في صحيفة يومية، «سألني سؤالا واحدا عن رأيي في التناوب بالمغرب، وكان جوابي أنه لا يسعني إلا أن أبارك هذا التناوب مادام هذا اختيار المغرب ولفائدته. وبالتوازي مع ذلك، أدلى الوزير الأول المغربي بحديث، بنفس المناسبة لصحيفة حزبه، خصصه للعلاقات التونسية المغربية والحاجة إلى العمل على تطويرها. وقال فيه، بالخصوص، إنه سيتطرق في مقابلته مع الرئيس التونسي إلى قضايا حقوق الجاليات المغاربية بأوروبا».
حين علم البصري بالحوار نبه الدبلوماسي إلى قوة التصريحات، وتبين حدس الوزير القوي، إذ كان هذا الحوار الصحافي كافيا لإثارة غضب الرئيس التونسي، وإلغاء اللقاء المبرمج بينه وبين الوزير المغربي، «هاتفني حامد القروي الوزير الأول ليبلغني غضب الرئيس علي بسبب تصريحي، ورفضه استقبال اليوسفي، لأنه قرأ في معرض الصحافة الذي يقدمه له مسؤول الإعلام بالرئاسة أن الوزير الأول المغربي قال إنه سيتباحث معه في حقوق الإنسان بتونس، وإن سفيره بالرباط من دعاة التناوب. نفيت له صحة المنقول، وطلبت من مصالح السفارة بالرباط موافاة القروي بصورة من الحديثين، فأبلغهما إلى الرئيس، فهدأ غضبه عن الوزير الأول المغربي»، لكنه لم يستقبله.
الحسن الثاني يكلف البصري بإرسال ورود وبخور وكعب غزال لمصحة الملك حسين
في شهر أبريل من سنة 1998 كتب المفكر الأردني محمد داودية مقالا في صحيفة «الزمان» اليومية اللندنية، نوه فيه بالعقل الملكي المغربي المرن الرحب، الذي اختار الماركسي اللينيني المحكوم بالإعدام المحامي عبد الرحمان اليوسفي رئيسا للوزراء.
استحضر الرجل في المقالتين تجربة سياسية جريئة واثقة مماثلة، عندما اختار الملك الأردني الحسين، سياسيا معارضا رئيس الحزب الوطني الاشتراكي سليمان النابلسي رئيسا للوزراء، كان ذلك في عام 1956 فشكل حكومة ضمت أبرز القيادات السياسية والاجتماعية.
تلقى محمد داودية اتصالا هاتفيا من عبد الحميد الكتاني، السفير المغربي في الأردن، مهنئا بمناسبة تعيينه سفيرا في المغرب وقال: «يبدو أن لكتاباتك، حول التجربة السياسية المغربية، صلة بهذا التعيين الملكي في المغرب».
حل السفير الأردني بالمغرب في صيف 1998. وبعد فترة قصيرة مرض الملك الحسين وأدخل مستشفى «مايو كلينك» في الولايات المتحدة الأمريكية. «في المناسبات الملكية كان الملك الحسن الثاني يناديني باسمي ويقول لي: سعادة السفير. إنني أضرع إلى الله في كل صلواتي أن يلطف بأخي وابن عمي الملك الحسين. وقال لي الملك العظيم إنه أمر إدريس البصري وزير الداخلية بأن يرسل الورود والبخور والحلوى المغربية وخاصة «كعب الغزال» التي يحبها الملك الحسين بانتظام إلى جناحه في «مايو كلينك»، وهو ما حرص الوزير على تنفيذه بتنسيق مع مصالح السفارة المغربية في واشنطن.
توفي الملك الحسين صباح يوم الأحد 7 أبريل 1999 وكان ذلك بعد وصول السفير إلى الرباط بأقل من ستة شهور، «اتصل بي صاحب السمو الملكي الأمير سيدي محمد ولي العهد المغربي قائلا: «سعادة السفير أنقل إليك تعازي جلالة الملك وتعازي الشعب المغربي. أجبت: سيدي سمو الأمير ولي العهد، أنا من يعزيك برحيل عمك الملك حسين».
البصري يستغرب لوجود حرس أردني حول كلينتون في جنازة الحسن الثاني
رزئ المغاربة في الملك الحسن الثاني يوم 23 يوليوز 1999، أي بعد شهرين عن رحيل صديقه الملك حسين، يروي السفير الأردني تفاصيل الجنازة قائلا: «حضرت التشييعَ في الرباط مع الوفد الأردني الذي كان برئاسة الملك عبد الله الثاني. وحضر التشييع المهيب، ملوك وزعماء دول العالم. حضر الرئيس الأمريكي بيل كلنتون، ومعه وفد من رؤساء أمريكا السابقين. وأثناء التشييع، الذي شهد حضورا كثيفا من كل الأمم، التفت الرئيس كلنتون خلفه، فلم يجد أحدا من حرسه. لكن وزير الداخلية المغربي كان يلاحظ المشهد ويستعد للتدخل “.
تقدم نحو كلينتون ضابط شاب كان على بعد ثلاث خطوات منه وقال له: «سيدي فخامة الرئيس اطمئن. أنت في حماية الحرس الملكي الأردني، وأرسل كلنتون إلى الملك عبد الله إيماءة تحية من خلال الزحام الشديد وواصل سيره مطمئنا. كان الرئيس كلنتون يسير قريبا من الوفد الأردني في موكب التشييع، فانتبه الملك إلى انفصال حرسه عنه فأرسل ضابطين من الحرس الملكي لحمايته». لكن السلطات الأمنية حلت بسرعة وقامت بما يفرضه الأمر.
يضيف السفير الأردني: «لما صافحت الرئيس بيل كلنتون في ردهات القصر الملكي بالرباط قلت له بحضور الرؤساء السابقين الأربعة: أنت أعظم رئيس أمريكي. لم أجامله فقد كان صديقا حميما لبلدي ولملكي».
وزير الداخلية المغربي يتجسس على مصور جعفر النميري
في مذكراته «مصور الرئيس» التي رواها لصحيفة «الراكوبة» سامي سنودة مدير الأرشيف الرئاسي ومصور الرئيس السوداني الراحل جعفر محمد النميري، الذي شغل المهمة لأزيد من 15 سنة كمصور، ووثق مرحلة مهمة من مراحل الحكم في السودان، يعرج الرجل على المغرب ويسلط الضوء على حدثين هامين في حياة السودان.
خلال زيارته للمغرب رفقة النميري، أعجبت بثينة زوجة الرئيس بالأزياء المغربية فوفر له الحسن الثاني نماذج من الألبسة المغربية التقليدية، مشيرا إلى حرص ملك المغرب على الإشادة بالقفطان المغربي.
وأوضح مصور الرئيس بأن حرس الديوان الملكي كان يطلع على الصور ويبدي ملاحظاته عنها، على غرار الرئيس النميري الذي كان يعلق على الصور التي تعجبه، ولا يمانع في تمكين الخفر الملكي من مراقبة عمل مصوره وتحركاته خاصة في لقاءات جعفر بالحسن الثاني، بل إن إدريس البصري وهو في بداية مساره الاستخباراتي ظل يحرص على مشاهدة كل الصور.
يذكر سامي محنة الرئيس جعفر النميري، حين علم بالانقلاب العسكري الذي أطاح به وهو في الولايات المتحدة الأمريكية، واللحظات العصيبة التي قضاها في مصر ضيفا على الرئيس المصري حسني مبارك، وكيف اتصل الملك الحسن الثاني هاتفيا بجعفر وظل يطلق عليه اسم «فخامة الرئيس»، واطمأن على أوضاعه.
على امتداد 14 سنة قضاها جعفر في منفاه الإجباري بمنزله في شارع العروبة وسط مصر الجديدة غير بعيد عن المطار، كان النميري يتلقى مكالمات من الحسن الثاني، وعاش الرئيس السوداني المخلوع حالة حزن حين علم بوفاته، لأن ظروفه الصحية لم تكن تسعفه للسفر إلى الرباط وحضور مراسيم الدفن.
لكن أغلب الكتابات التي سلطت الضوء على العلاقات المغربية السودانية في عهد جعفر النميري، وقفت عاجزة عن فهم لغز حادثة السير التي أودت بحياة السفير السوداني الرشيد نور الدين، الذي توفي في منطقة سيدي يحي الغرب، حيث اصطدمت شاحنة بسيارته، وكان عائدا من لقاء عاصف مع النميري، الذي كان في زيارة رسمية للمغرب ونزل في فاس. «المؤكد أن الرشيد نورالدين، الذي كان قائدا للكلية الحرية ثم مديرا لجهاز الأمن السوداني، ظل ينتقد نظام النميري علنا ولم يكن راضيا عن سياسته، وقيل إنه عين سفيرا في المغرب لإبعاده من السودان.
إطفائي في سفارة ليبيا في المغرب والبصري في معرض فنان تشكيلي ليبي
تحدث عبد الرحمن شلقم في كتابه: «أشخاص حول القذافي» عن علاقة الحسن الثاني بالعقيد، وسلط الضوء على العلاقات الليبية المغربية ودور الليبي محمد بلقاسم الزوي كرجل «إطفاء» بامتياز، عن العداء الذي كان بين جماهيرية معمر والمغرب، حيث قال عنه إنه بدأ مبكرا مند الأيام الأولى لوصول القذافي للسلطة.
محمد بلقاسم الزوي هو ابن رئيس وزراء ليبيا السابق، تعرف على القذافي في سبها، عمل في القضاء، ساند ثورة الفاتح في 1969، كان كريما وله صلات متسامحة وطيبة مع جيران ليبيا، هو عراب العلاقات الليبية المغربية، بل منقِذها، فحينما دعم القذافي معارضي الحسن الثاني، ودعم هو معارضي القذافي في تشاد، واستعرت المواجهات تمكن الزوي بمساعدة قَريبه محمد عثمان الصيد من استعادة العلاقات. ويحكي الدبلوماسي الليبي عما حدث في أكثر من زيارة قام بها القذافي للمغرب، حيث ستبرز ملامح شخصيته الغريبة، والتي ستتكرر في قمم أخرى. يقول شلقم: «في تلك القمة، تعمد معمر أن يقدم نفسه بنفسه، ففي الجلسة الافتتاحية، ألقى اللوحة التي وضعت أمامه مكتوبا عليها «فخامة العقيد القذافي» معلنا، بغضب: «هذه الألقاب كلام فارغ».. وكان التقليد الملكي المغربي يوجب أن يقبل رجال الحاشية الملكية يدي الملك، مع انحناءة ثقيلة، فعبر العقيد عن اشمئزازه الواضح من إدريس البصري».
ومن المواقف التي مازالت حافلة في سجلات الدبلوماسية الليبية في المغرب، أنه أثناء زيارة قام بها الملك الحسن الثاني إلى ليبيا بمناسبة تدشين النهر الصناعي العظيم، توقف العاهل المغربي أمام لوحة تشكيلية من توقيع الفنان الليبي عوض عبيدة، سأل الملك إدريس البصري عن صاحبها فقال له إنه تشكيلي ليبي مغترب في بريطانيا، فطلب من مدير التشريفات تكليف السفارة المغربية في لندن بإحضاره إلى المغرب فور العودة من الجماهيرية، وهو ما حصل فعلا، حيث انتقل عبيدة على وجه السرعة إلى الرباط للمثول بين يدي الملك، بالرغم من مرض الفنان الليبي.
في معرض للفنان عوض عبيدة، والذي أقيم بالمغرب تحت الرعاية السامية للحسن الثاني، كتب محمد علال سيناصر وزير الشؤون الثقافية في مستهل النشرة المصورة والفخمة لهذا المعرض تعريفا بالفنان عبيدة نذكر منه قوله: «انكب عوض عبيدة طوال نصف قرن من الزمن على أعماله الفائقة وأن يعيد إلينا بسحر الريشة عالمه ووطنه الليبي».
قلده الحسن الثاني بوسام الفن عام 1994 بعد أن أقام معرضا تحت رعايته السامية، وطلب من البصري اقتناء بعض لوحات الفنان الليبي الذي رفض بيعها، وقال للملك إن اللوحات التي تعبر عن تقاليد ليبيا لا يبيعها بل يهديها.
لكن الغريب في هذه الواقعة، أن بعض التشكيليين الليبيين روجوا كلاما أغضب الملك، حين شككوا في مصداقية لوحاته، وذهبوا إلى حد القول بأن عوض خدع الملك، خاصة لوحة «صيادي السمك». ووعد البصري الملك بفتح تحقيق لا أحد يعرف مصيره.
ولأنه ابن بنغازي فقد قال تشكيليو المدينة لسفارة المغرب في ليبيا، إن الحسن الثاني انخدع، «قيل له إنها لوحات فنان ليبي، فدعاه وجهزت له مطوية تعريف ومعرض، وطلب منه الملك أن يرسم الحياة الشعبية في المغرب. كان هذا ذكاء من الملك الحسن الذي يريد التأكد من إمكانية الفنان الذي دار حوله لغط كبير، وتبين أن أغلب لوحاته نقلت من صور فوتوغرافية»، يقول فنانون ليبيون.
حرمة الله.. هكذا كلفني البصري برئاسة خلية الصحراء
في كتابه «نزاع الصحراء: في الدائرة الأولى لإدريس البصري، وزير الداخلية المغربي الأسبق»، كشف موسى حرمة الله عن الدور الأساسي الذي لعبه الوزير القوي في ملف الصحراء، ونشأة فكرة الحكم الذاتي الداخلي التي يقترحها المغرب لتسوية نزاع الصحراء.
منذ أن غادر المغرب سنة 2007 أصبح موسى يقيم في نواكشوط حيث تفرغ للكتابة، لكنه ظل يتابع الشأن المغربي عن قرب، ويدمن على قراءة كل مستجدات الملف.
في مذكراته يروي حرمة الله قصة عرض من البصري، حيث كلفه برئاسة خلية الصحراء، «كنت معه في سيارته في شارع الإمام مالك، خاطبني إدريس البصري بهذه الألفاظ: «حرمة الله، ما رأيك في العمل داخل فيلا؟» أجبت بالقول: «السيد الوزير، سأذهب إلى حيث تطلب مني أن أذهب». فأضاف الوزير: «ستنتقل إلى شارع إيفران (ملحق الوزارة) وستتولى خلية الصحراء. لكني أريد ملخصا يوميا أعرضه على جلالة الملك».
كان التعيين بشكل فجائي، وتطلب تكوين الخلية مفاوضات على مستوى وزارة الداخلية، حيث شرع رئيس الخلية في وضع خطة العمل، «بينما كنت بصدد الانتقال إلى الفيلا، طلب مني مدير الشؤون السياسية وهو في مكتبه أن أسلمه مفاتيح الخلية. فأجبته أن البصري هو من أعطاني إياها وأني لن أسلمها إلا له. فما كان منه إلا أن استدعى أحد معاونيه وهو المساعد «يزال» وقال له بالحرف الواحد: «اذهب إلى شارع إيفران وحطم القفل وضع قفلا مكانه. عندها فهمت أنه أمضى أكثر من شهر لإقناع البصري، فهو لا يمكن أن يقبل بحرمانه من التحكم في ملف بمثل هذه الأهمية».
كان مدير الشؤون السياسية، وهو ابن عم للملك، يحتل في الواقع مركز الرجل الثاني في الوزارة. وكان مثل إدريس البصري مفتش شرطة، ويقال إن الملك وضعه في الداخلية ليراقب عن كثب الوزير صاحب النفوذ القوي.
لقد ذكر لي إدريس البصري ذات يوم أن جلالة الملك الحسن الثاني معجب بنموذج الحكم الذاتي في كاطالونيا وأنه يود أن يعرف هل هذا النموذج قابل للتطبيق في الصحراء. وبالتالي، طلب مني الوزير أن أنعش فريق عمل لهذا الغرض، فاقترحت اسمي صديقين هما: ماء العينين محمد الملقب دبا سالم الذي كان سفيرا في بلدان منها الأرجنتين وأستراليا، ومحمد صالح التامك الذي كان سفيرا في النرويج ثم واليا في وزارة الداخلية. وألحق بنا علابوش المدير العام لإدارة المراقبة الترابية أحد معاونيه وهو المفوض الإقليمي أرسلان».
ويضيف حرمة الله: «بعد ذلك بعدة سنوات، زارني قريب لي يعمل حاليا في وزارة الشؤون الخارجية بالرباط، وكان حينها يمر بنواكشوط، وقال لي إنه التقى في مطار الدار البيضاء واليا صحراويا اسمه التامك وسأله عن أخباري ثم قال له: «هذا السيد كان هو مهندس الحكم الذاتي الداخلي الذي اقترحه المغرب لتسوية مشكل الصحراء».
حينما نسج الدبلوماسي الجزائري بسايح علاقته مع «البصريين»
كانت علاقة بوعلام سفير الجزائر في الرباط، بالمحيط السياسي المغربي جيدة، خلافا لما كان متوقعا، وحسب كتاب «بوعلام بسايح.. عشر سنوات الدبلوماسي والسياسي والمثقف»، يروي الدبلوماسي إبراهيم رماني، بعض تفاصيلها، ويؤكد بأنه غير الكثير من مواقفه ومن الصور التي كان يحملها عن كثير من السياسيين المغاربة، وبعض الأحداث التي كانت تسكن مفكرته بشكل خاطئ، كقضية اختطاف الطائرة التي كان على متنها بعض القادة الجزائريين، إذ تبين له زيف ما كتب سابقا. كما نقل مواقف السفير من «البصريين» إدريس والفقيه، حيث أكد أن لكل منهما دوره في الدفاع عن المغرب. «خلافا للصورة التي حملها الجزائريون عن إدريس، الذي لم يكن عدوا للمغرب».
وأشار إبراهيم رماني إلى أن بوعلام بسايح كان واعيا بأهمية كتابة مذكراته، وشرح علاقاته مع رجالات المغرب، «لكنه مات دون أن يسجل شهادته في الكثير من الأمور التي كان شاهدا عليها».
أما السفير الجزائري عبد الحميد مهري، فكانت له لقاءات عديدة مع وزير الداخلية، ففي سنة 1990 تقرر الاستعانة بالخبرات المغربية التي أنجزت مسجد الحسن الثاني بالدار البيضاء، فتشكلت لجنة رسمية توجهت إلى سفير الجزائر بالمغرب الذي ربط الاتصال بالقصر طالبا المساعدة.
بادر عبد الحميد مهري سفير الجزائر في المغرب إلى عرض المشكلة على إدريس البصري وزير الداخلية، في فترة كانت فيها الجزائر تعيش تطورات سياسية واجتماعية مثيرة فتحت باب التعددية الحزبية والاعلامية. عرض البصري المقترح على الملك الحسن الثاني الذي وافق على الطلب وتعهد للرئيس الشاذلي بن جديد بوضع الخبرات المغربية المكتسبة من مسجد الحسن الثاني رهن إشارة الأشقاء الجزائريين، وقبل إتمام المفاوضات حول المسجد دعي السفير من طرف المسؤولين ليتقلد مهاما سياسية أخرى ويعوضه محمد سحنون أحد رجالات الثورة الجزائرية، الذي أكمل الملف.
وفي سنة 1991 حل مجموعة من التقنيين والحرفيين المغاربة بالجزائر، وشرعوا في العمل، لكن كان هناك أمر يؤرق الجميع، فقد بدأ بناء هذا المسجد بالاعتماد على الفن الشرقي وانتهى بالاعتماد على الفن المغربي. وفي الـ31 أكتوبر 1994، دشن مسجد الأمير عبد القادر من طرف رئيس الحكومة الجزائرية في ظل احتقان كبير بين المغرب والجزائر إثر إغلاق الحدود بين البلدين، ليبرز للوجود معلمة دينية رائعة في سماء قسنطينة، تجسد التعاون بين المغرب والجزائر ضدا على السياسة، في تنسيق كامل بين الفن الشرقي والمغربي.
عندما توفي محمد البصري، حرص مهري على السفر إلى الدار البيضاء لألقاء كلمات تأبينية في حقه بمقبرة الشهداء، ليكون أول دبلوماسي يؤبن معارضا.
حرمة الله ينصح البصري قبيل زيارة الحسن الثاني للعيون
في مذكراته التي ترصد علاقته بإدريس البصري، يتحدث حرمة الله موسى عن أول زيارة ملكية للعيون، حيث التقى بوزير الداخلية في جلسة عمل كانت الزيارة على جدول أعمالها، حيث فوجئ الوزير بتحذير من محدثه في شأن الرحلة الجوية التي كان من المقرر أن يقطعها الملك من أكادير صوب العيون.
«كان الوزير مشدودا إلى حديثي في حالة ذهول تام. فيم كان يفكر؟ لست أدري. لكن ما من ريب في أنه كانت تراوده عدة تساؤلات. ولعله كان يعي الخطورة القصوى للموقف الذي كنت أشرحه. غير أنه رغم نفوذه الواسع لم يكن بوسعه القيام بأي شيء. فما عساه أن يعمل لإلغاء رحلة بذلت فيها وسائل مادية وبشرية هائلة؟ وكيف سيكون وقع هذا الإلغاء نفسيا وإعلاميا على الرأي العام الوطني والدولي؟ وأدهى ما في الأمر أن عليه ألا يجرح شعور العسكريين الذين هم سدنة هذه الزيارة الملكية ويفترض أنهم، في هذه المنطقة بالذات، المسؤولون في المقام الأول عن أمن الملك».
اقترح موسى على الوزير استبدال الرحلة الجوية بأخرى برية. «سيكون في ذلك فرصة لجلالة الملك لكي يزور جميع رعايا الجنوب المغربي». طلب الوزير من حرمة الله أن يوافيه ببطاقة مفصلة عن كل هذه الأمور.
«لا تسأل كم كان ارتياحي عندما تم التخلي عن الطريق الجوية لصالح الطريق البرية. لكني إلى اليوم لم أعرف هل جرى ذلك بواسطة إدريس البصري أم بواسطة محمد المديوري، الذي سلمته الظرف المتضمن لاقتراحاتي».