بعض التواريخ يذهب فورا إلى التاريخ، بسبب طبيعته، وخطورته، وعدد ضحاياه. ولأنه يعلن صراحة أن ما بعده لن يكون كما قبله، وهذا ما حصل. إنها نهاية حقبة، في أوكرانيا وروسيا وأوروبا والعالم.
كان المشهد غير مسبوق فعلا، جاء 4 بارونات من أوكرانيا محمولين على نتائج استفتاءات، ألقوا بمقاطعاتهم بين يدي القيصر الروسي. وما كان مقدرا أن يخيبهم، فمنذ وليمة القرم، وبلاده تنفخ في جمر المقاطعات الأوكرانية التي تشبهها. وفي أجواء إمبراطورية، أخرج السيد الرئيس قلمه ووقع. ألحق المقاطعات التائهة بـ«روسيا العظمى»، مطمْئنا سكانها أن إقامتهم الجديدة ستدوم «إلى الأبد». ولم يغب عن باله أن يبلغ العالم أن بلاده ستدافع عن المستجيرين بها، بكل ما تملكه من وسائل وإمكانات. والعقيدة الدفاعية الروسية لا تستبعد إشراك السلاح النووي، إذا كان مصير «روسيا المقدسة» مهددا.
كان المشهد غير مسبوق فعلا، كاد القيصر يرقص، لم ينجح في كبح مشاعره، على رغم دروس إخفاء المشاعر التي تلقاها في إمبراطورية «كي جي بي». وكانت الكلمة التي وجهها إلى الروس والعالم صريحة وقاطعة. ألقى بثقله وبكامل رصيده، وكشف أوراقه. الحرب في أوكرانيا جزء من حرب كبرى، جزء من انتفاضة هائلة ضد عالم القطب الواحد، عالم الاستعمار والاستغلال والهيمنة. قدم نفسه زعيما للعالم الجديد المعادي للغرب، بنموذجه وقيمه وثوراته الملونة. شيء يشبه الإعلان عن ستار حديدي جديد. كأنه رسم الخط الأحمر متكئا على الترسانة النووية. لم يستخدم مفردات «الطاغوت» و«الكفار»، التي كان يستخدمها زعيم «القاعدة»، ولم يستخدم عبارة «الشيطان الأكبر» التي أطلقتها الثورة الخمينية، لكنه كان أعنف عمليا؛ إذ إن خطابه تضمن سلسلة من الهجمات. هجمات على أمريكا وأوروبا والدول التي خانت الاتحاد السوفياتي، والتحقت بقطار «الناتو». حوّل الحرب في أوكرانيا حربا مقدسة، حولها حرب وجود لا بد من الذهاب فيها من دون التوقف عند التكاليف. ذهب بعيدا ولم يعد قادرا على التراجع. الانتكاسات الميدانية الأخيرة لجيشه ستضاعف رغبته في التصعيد، إنها الآن مشكلته ومشكلة العالم معه.
كان ذلك في 30 شتنبر، وهو التاريخ الذي لن يستطيع العالم أن ينساه. أعطى القيصر لشتنبر ما بخل به على الشهور الأخرى.
في البدايات، ارتبط شهر شتنبر بمشاهد لطيفة. تلامذة يخلعون الصيف مرغمين ويسلكون دروب المدارس. أوراق تستقبل الخريف وتستعد لخيانة أشجارها،. وعصافير تبحث عن مخابئ لاتقاء الأمطار المقبلة والرياح المقتربة.
تعلمنا لاحقا مواعد أخرى لشتنبر، ففي اليوم الأخير منه في 1938 انحنت بريطانيا وفرنسا أمام عناد هتلر وموسوليني، ووقعتا اتفاق ميونيخ فتضاعفت شراهة الرجلين. وفي هذا الشهر من 1970 خُطفت الطائرات إلى «مطار الثورة» بالأردن، واندلعت الاشتباكات بين الجيش الأردني والمنظمات الفلسطينية، فوُلدت منظمة «أيلول الأسود». وفيه ستطل هذه المنظمة لتهاجم الفريق الإسرائيلي، في الألعاب الأولمبية بميونيخ. شهر مثقل بالتواريخ، فيه أفسد نيكيتا خروتشوف دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة، حين عبر عن غضبه على طريقة فلاح أوكراني. وفيه اندلعت الحرب المديدة بين العراق وإيران، وفيه تم التوقيع على اتفاقي كامب ديفيد، وفيه تصافح ياسر عرفات مع إسحاق رابين. ولا يصح تناسي أن الحرب العالمية الثانية بدأت في «الفاتح من شتنبر»، تماما كما بدأ لاحقا عصر معمر القذافي.
في السنة الأولى من القرن الحالي استولت على مواعد الشهر الشهير «هجمات 11 شتنبر». كان العداء للغرب بنماذج نجاحاته وقوته وهيمنته، هو المحرك لسلوك أسامة بن لادن. ينتمي بوتين وبن لادن إلى عالمين مختلفين ولا تصح أي مقارنة بينهما، رغم السنوات الخمس التي تفصل ولادتهما. رجلان من كوكبين وقاموسين، لكن خيط العداء للغرب موجود في أعماق كل منهما.. لا تصح المقارنة بين زعيم تنظيم إرهابي ورئيس لدولة عظمى، حتى لو اشتركا في اختيار شتنبر موعدا لتوجيه الضربات الكبرى. حلم بن لادن باستدراج أمريكا إلى الفخ الأفغاني، آملا أن يلحق بها ما ألحقته تلك البلاد الصعبة التي يتعذر الانتصار فيها بالاتحاد السوفياتي. وها هو بوتين يحلم بإذلال أمريكا في الفخ الأوكراني.
أوقع خطاب 30 شتنبر العالم في مأزق، من يقطع رأس خريطة يقطع أنابيب الغاز. ومن يدري فقد يكون بوتين يراهن على الخريف والشتاء. لن يحزن إذا رأى الأضواء خافتة أو غائبة عن قوس النصر الفرنسي، أو إذا رأى أسنان ألماني تصطك من البرد، أو رأى أسرة بريطانية تسهر على ضوء الشموع.
أخطر ما في خطاب 30 شتنبر، أنه لم يترك للغرب فرصة لاسترضاء بوتين بثمن مقبول. ظهر جليا أن برنامجه أكبر من أوكرانيا وأخطر. واضح أنه يتوقف طويلا عند التواريخ. اختار لخطابه يوما كان احتفل فيه سرا في 2015، بنزول قواته في سوريا. ثم من يدري فقد يكون اختار تحويل أكتوبر إلى امتحان حاسم لإرادة الغرب. تماما كما فعل خروتشوف، قبل 60 عاما، في أزمة الصواريخ الكوبية.
نافذة:
أخطر ما في خطاب 30 شتنبر أنه لم يترك للغرب فرصة لاسترضاء بوتين بثمن مقبول ظهر جليا أن برنامجه أكبر من أوكرانيا وأخطر