هادي والتوبة
إذا كان شخص ما في المغرب يحتاج هذه الأيام إلى أقراص «دوليبران»، فهو رئيس الحكومة بالذات، الذي طاف البلاد في سبعة أيام ولم يحصد سوى «الشقيقة» من شعارات «إرحل»، وصوت الصفير والأحذية التي رفعت في وجهه، وتدافع المواطنين المحتجين على سياسته وعجرفته وأسلوبه في الحكم التي يدفع اليوم ثمنها قبل سنة من موعد الانتخابات التشريعية، كعينة أولى مما ستحمله الأيام القادمة لحزب استحلى تضخم الأنا وصار يرى في نفسه «هدية الله إلى هذا الوطن».
و حتى أيام إدريس البصري الذي كان المشرف الفعلي والأول والأخير في اللعبة الانتخابية، لم يسجل عليه طيلة مساره الطويل في أم الوزارات، أن نزل من مكتبه واعتلى منصات الخطابة في الحملات الانتخابية، واليوم لدينا، بحكم الدستور الجديد، رئيس حكومة يشرف سياسيا وقانونيا على الانتخابات، وفي الآن نفسه يقوم بالحملة لصالح حزبه في كل مدن وقرى المملكة، يستغل الإنارة العمومية في مهرجاناته الخطابية ويتنقل بالطائرات والسيارات الفخمة من الشمال إلى الجنوب، يهاجم ويبخس ويتهم ويطعن في نزاهة جميع الأحزاب المنافسة، ويحتفظ لحزبه بالعذرية والمعقول، وينزل على الأرض كل مقومات الحزب الوحيد، هو نفسه الذي أقام الدنيا خلال الحملة الانتخابية السابقة ووصل إلى السلطة بشعار «لا لتونسة المغرب».
وخلال الأسبوع الأول من الحملة طاف بنكيران وجال طولا وعرضا، لكن ما شاهدته عيناه والتقطته أذناه، لم يكن أحد من قيادات الحزب الحاكم ينتظره أو يتوقعه، لأن الحزب عاش وترعرع ووصل إلى السلطة وهو جماعة، وبناءه الهندسي والتنظيمي والفكري مشيد على الطاعة. فحزب العدالة والتنمية لم يعش تجربة أحزاب اليسار التي بنيت على الجدال والنقاش الفكري والإيديولوجي، لذلك فأول فرصة أتيحت لبنكيران وخرج من مقرات حزبه ونزل إلى الشارع، وجد مغربا آخر، وفئات بشرية من مختلف المرجعيات الاجتماعية والثقافية، واتضح جليا أن المغرب الذي يعرفه الحزب الحاكم، هو مغرب موجود فقط في مقرات الحزب والحركة، أو في «الفايسبوك».
الناس في كل ربوع البلاد ممن حضروا إلى المهرجانات الخطابية لرئيس الحكومة، كانوا يعبرون عن احتجاجهم وقلقهم الاجتماعي والسياسي العادي والمشروع، يطالبون بالخبز والشغل والمستشفى والمدرسة والطرقات والتوزيع العادل للثروة ومحاربة الفساد والقطع مع الريع، أما بنكيران فقد ظهر أن الأحداث تجاوزته وكل خطبه وبرنامجه للشعب كان في كل المدن التي زارها قبل أسبوع، لا تخرج عن اتهام حميد شباط وإلياس العماري واجترار الكلام عن الربيع العربي والاستقرار، لم يكن عنده ما يقدمه للشعب، فحصل العكس والشعب هو الذي قدم لرئيس الحكومة درسا في أبجديات العمل السياسي، وقالوا له «الهضرة ما تبيع وما تشري خضرة».
خطأ بنكيران وحزبه هو أنه ظل حبيس لحظة سياسية مرحلية في الزمان والمكان اسمها «الربيع العربي»، فبعدما أوصلته إلى السلطة ظل يعتقد أنها ستبقيه فيها إلى الأبد، والحال أنه في السنين التي تلت تلك المرحلة تغير المغرب، وحتى الخريطة الدولية والإقليمية والجهوية تغيرت، والأمس ليس هو اليوم، والمغاربة لم يلمسوا بعد منافع الدستور الجديد الذي صوتوا عليه بإجماع، وكل خطب الملك تشخص وتدقق وتدق ناقوس الإنذار للأوضاع العامة، وحده بنكيران ظل يرى العكس، ويفتخر بثقة البنك الدولي وبأنه ألغى صندوق المقاصة وأوقف الإضرابات، لكن الخبز لم يصل إلى البطون، والفساد لم يدخل السجن، لذلك فالمخرج المشرف لشخصية سياسية مثل بنكيران هي أن يمتلك الشجاعة بعد كل الذي سمعه في مهرجاناته ويقول مع نفسه وللشعب «هادي والتوبة».