شوف تشوف

الرأيالرئيسية

نهاية فرعون

بقلم: خالص جلبي

 

كما كان اللقاء مخزيا لفرعون بالمباراة مع السحرة، كذلك كانت نهايته مثل أي طاغية. مع هذا فعلينا الاستدراك قليلا فهناك من الطغاة من انتهوا على الخازوق مثل القذافي، أوبالشنق مثل صدام، أو ضربا بالرصاص مثل تشاوسيسكو، أو بالاغتيال كما في السادات، وبالمقابل قد يموت على عربة حربية كما في الأسد الوحش الأب، أو مسيرة ملايين في جنازته مثل عبد الناصر، الفاشل الأعظم في تاريخ العرب. وهناك نماذج مختلفة بين بين.

نحن نعرف أن تشاوسيسكو كان في ضيافة ملالي إيران، قبل إعدامه بأربعة أيام، ولما أخبروه أن أوروبا الشرقية تتهاوى، قال: نعم، ولكن رومانيا شيء مختلف، وحين تتحول أشجار الصفصاف إلى أشجار تين، يمكن أن يحدث في رومانيا ما حدث في بقية بلدان أوروبا التي تتهاوى فيها العروش. والرجل كان معتمدا على مائة ألف من عناصر المخابرات (السيكوريتات)، بأنفاق سرية تحت الأرض في العاصمة، مجهزين بأفضل الأسلحة، وما حدث أنه أمر السيكوريتات بأن يجتمع الناس، كما أمر فرعون من قبل بتعبير (وأن يشهد الناس لعلهم يتبعوا السحرة إن كانوا هم الغالبين). ومن أعجب ما حدث ورأيناه في تصوير حي مباشر، أن الأطفال بدؤوا يطلقون الصفير وأقبح الأصوات من الفم (السوريون يسمونها تعفيط)، فانهدمت هيبته وهجمت الجماهير مثل الطوفان، فما كان منه إلا أن فر بطائرة هليكوبتر مجهزة ليوم الزلزلة، ولكن تم اللحاق به وإلقاء القبض عليه وزوجته إيلينا (كانت مغرمة بجمع شهادات الدكتوراه المزيفة من المعسكر الشرقي)، وبمحاكمة سريعة تم قطع رأس الأفعى.

وعلى العكس قد يموت صالحون بيد فاسدين، كما في إعدام رئيس الجماعة الإسلامية في بنغلاديش، بأوامر أمريكية لقيادة فاسدة، أو قتل مالكوم إكس بيد أتباعه، أو حسن البنا بيد الملك فاروق، أو غاندي بطلقة غادرة من هندوسي متعصب، أو مارتن لوثر كينغ بطلقة السلامي في أمريكا من حاقد ومتآمر، وهذا يفتح الباب على أن الدنيا فيها ظلم وظلمات، وأن الآخرة هي دار لا ظلم اليوم؛ فليطمئن المؤمنون. فتلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين. 

كان الموقف مزلزلا في إيمان السحرة، وهو أمر يحتاج إلى تفكيك نفسي عن انقلاب موقف الإنسان، بل تغير موقف مجموعة من المتخصصين في إرهاب الناس، كما قال القرآن: فاسترهبوهم وجاؤوا بسحر عظيم. بل حتى موسى أصابه ذلك الخوف الداخلي، حين رأى العصي والحبال تتحول إلى أفاعي تقفز هنا وهناك في وجه القوم. تأملوا التعبير (فأوجس في نفسه خيفة موسى)، هنا جاءته شحنة روحية: لا تخف إنك أنت الأعلى.

وفي المباراة تحدوا وقالوا: يا موسى ما رأيك هل تبدأ أنت أم نحن؟ كان التوجيه دعهم يجربوا حظهم فمن يضحك أخيرا يضحك كثيرا. حين ألقوا حبالهم وعصيهم نظروا إلى فرعون ضاحكين، وقالوا بعزة فرعون نحن الغالبون. من اللافت للنظر أيضا أنهم قبل اللعبة أسروا النجوى وبدؤوا يهمسون لبعضهم ما رأيكم في ما يحدث؟ بالطبع بينهم عقلاء وبينهم جواسيس فرعون من يحرض ويخبر ويعطي المال؛ فحين حضورهم طلبوا المال. قال لهم فرعون: المال مضمون، هناك ما هو أهم النفوذ. قالوا إئنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين، قال نعم وإنكم لمن المقربين.

ربما تلقي هذه الفقرة الضوء أيضا على سحرة الفراعنة في كل عهد؛ فمثلا ما يسمون بعلماء الدين، ووعاظ السلاطين، وفقهاء العصر، ومفتيي الجمهوريات، ومشايخ المحميات، هم أيضا سحرة العصر الجديد، وهم في معظمهم موظفون مأجورون بالراتب والهدية والأعطية السلطانية، وحين يقف الحسونة والبوطي وكفتارو بجنب الطاغية، فهم سحرة العصر الجديد الذين يتمتعون بالامتيازات والنفوذ.

كنت في حلب حين روى لي ساحر من هؤلاء، أنه يتصل بالمخابرات و(المعلم = رئيس الفرع)، ويرتب ترويض خطباء المساجد أن يكونوا عناصر مباشرة وغير مباشرة لنظام الطاغية. من الغريب في سحرة فرعون الذين كانوا في الخدمة، كيف انقلب السحر على الساحر، وأعلن السحرة إيمانهم على رؤوس الأشهاد، وحين هددهم فرعون بأشنع أنواع القتل؛ قالوا: اقض ما أنت قاض، إنما تقضي هذه الحياة الدنيا، إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا، وما أكرهتنا عليه من السحر، والله خير وأبقى. هنا نحن أمام ظاهرة تستحق الوقوف أمامها، في انقلاب سريع ونوعي لموقف الإنسان، وأن لا نزهد ولا نيأس قط من انقلاب أي إنسان، حين يواجه الحق أن يتحول إلى جانب الحق، وأن الإيمان أقوى من السحر وغلاب. 

وحين هرب موسى ومن معه لم يتجه صوب الساحل في الطريق الأقرب والأسهل، ولكن باتجاه البحيرات الشرقية وصحراء سيناء، شرق فرع الدلتا دمياط. كانت هذه البحيرات التي يتوقعها الباحثون قبل الدخول إلى سيناء. وهي أول ما عبرها موسى بقومه، ولسوف يأتي اليوم الذي تحدد فيه رحلة العبور تماما، والطريق الفعلي الذي سلكه موسى القائد الرائع إلى أرض الحرية.

وحين غرق فرعون، فالجثة بقيت أياما في الماء، فلا بد من أثر. وحسب الفرنسي «موريس بوكاي» الذي أعلن إسلامه، يقول إنه درس جثة رمسيس الثاني، وقاده بحثه إلى أنه هلك في الماء، قبل أن يحنط.

وقرأت البحث أنا شخصيا متأملا، وكتابه عندي وبحثه عن الكتب المقدسة، ولكن أظن أن البحث يحتاج إلى المزيد من التتبعات، ولكن نهاية فرعون درس لكل فراعنة العالم، ولكن يبدو أن لا فائدة فكل فرعون يظن أنه مختلف عن غيره. لقد خصص رب العزة بوابة خاصة في جهنم، لهؤلاء من الزعماء المؤلهين الكذابين؛ فوصف جهنم بأن لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم.  

موسى الذي كان من العبيد، موسى الذي تلقيه أمه في اليم خوفا عليه من القتل، يتربى في قصر فرعون بعد أن تتشفع زوجته ويلقي الله في قلبها حبه، ثم يهرب إلى الصحراء فيتعلم خشونتها ويرعى الغنم والإبل، يعود صحراويا بعد أن كان من طبقة السادة في القصر الحاكم. تحدث بينه وبين فرعون مناقشة مثيرة، تدور حول نقطة واحدة أن فرعون بعد أن جاء جده من الجنوب وطرد الهكسوس، اعتبر بني إسرائيل الذين تكاثروا في هذه الفترة الممتدة ليسوا من الشعب المصري، وهم عبيد يجب تطهير الأرض منهم، خاصة أنهم لا يعبدون آمون ولا يعتقدون بإيزيس وأوزوريس ولا أنوبيس، حامي العالم السفلي، ولا يرون في الأهرامات مفخرة لعبادة شخص، ولا يرون أن الحاكم هو الله. هذه كلها يجب وضعها في الحساب، بل حتى ثورة أخناتون يجب فهمها من التأثر بهذه الرؤى الشرقية عن الله رب العالمين لا شريك له، من أصنام بشرية وحية.

فرعون هو الله الحي على الأرض، وهذه العقائد من التثليث ورفع البشر إلى مقام الله، هي التي قال عنها القرآن يضاهئون قول الذين من قبل، حين قالوا إن المسيح هو الله وإن عزيرا هو ابن الله. فهذا التناقض العقدي وعدم التسامح أمام الاختلاف الفكري، رأى الفراعنة أنه يجب تحقيق الانسجام في المجتمع المصري بأسره، بطريقة ممكنة هي التطهير العرقي بالتخلص من بقايا يوسف. كما أشار إلى ذلك الرجل الذي اعترض على قتل موسى، وسجل موقفه في سورة كاملة من القرآن، وقال: رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه، أتقتلون رجلا يقول ربي الله؟ ثم يتابع في خطبة طويلة تحتاج إلى تفكيك سيكولوجي اجتماعي، أن يوسف جاءكم بالبينات حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا، كذلك يهلك الله كل متكبر جبار وكل مسرف كذاب.

الخطة الفرعونية من أجل تطهير المجتمع من أي اختلاف، تأسيسا لحكم شمولي كما في الممالك الشمولية على وجه الأرض من بورما وكوريا وسوريا وكوبا، فالفروق كما نرى بين سوريا وكوريا هي حرف فقط، فالسين للاستبداد والكاف للكفر.

حفلة مرعبة قام بها فرعون وولد فيها موسى، فنجا من المذبحة بطريقة مقلوبة تماما.

قلت لزوجتي فهذه هي القصة باختصار عن مذبحة بني إسرائيل القديمة، ولماذا جاء موسى، وما كانت مهمته تحديدا، من أجل إخراج شعب من قبضة العبودية إلى فضاء الحرية، كما يحصل لشعوب كثيرة على وجه الأرض، ومنها الشعب السوري الذي اجتمعت عليه أحقاد التاريخ من قم وعبدان وهزارة أفغانستان ومرتزقة باكستان وجنود القوزاق من موسكو وأوزبكستان.  

علقت زوجتي المغربية، ولكن حين استرد المصريون على يد أحمس الأول مصر وهرب الهكسوس إلى الشمال، لماذا لم يفر معهم بنو إسرائيل وهناك في الأفق احتمال أن يعتبرهم الفراعنة أنهم يمثلون الطابور الخامس للهكسوس؟ ومصطلح الطابور الخامس ولد مع الحرب الأهلية الإسبانية، عن أولئك المنافقين الذين يتظاهرون بالتقوى وهم يتعاونون مع المحتل الخارجي أو القوى الاستبدادية، كما هو الحال في سوريا من الشبيحة والبلطجية والزعران والحرافيش.

السؤال حين رأى بنو إسرائيل الخطر يحدق بمستقبلهم، لماذا لم يفروا إلى الشمال ويرجعوا إلى الأرض التي خرج منها أجدادهم كما سيفعل موسى بهم لاحقا؟ لماذا؟ لماذا؟ ألم يكن من بينهم عقلاء، أو من يرى سحب المستقبل القاتمة؟ الجواب هو ما يحصل مع الكثير من أفراد وجماعات بتعبير القرآن: أثاقلتم إلى الأرض. أذكر من فيلم «الهلوكوست» أن النازيين كانوا يسوقون اليهود إلى الإعدامات والمقابر الجماعية، وهم ما زالوا على أمل أنه ولو بمقدار نانو غرام من الأمل أن يرحموا فلا يقتلوا؛ وطبعا هذا يذكر بالمقولة التي نقلت في السيرة عن حيي بن الخطاب، وهو يقول لمن حوله من اليهود في واقعة غدر بني قريظة: أفي كل موطن لا تعقلون.

أثاقلتم إلى الأرض تحدث على مستوى الأفراد والجماعات. بنو إسرائيل طابت لهم حياة مصر يأكلون من بقلها وبصلها وقثائها وثومها وعدسها وبصلها، بل إن رائحة الثوم والبصل بقيت في مناخرهم وهم يعبرون البحر إلى أرض الحرية. يا موسى ادع لنا يخرج لنا من بصلها وثومها وعدسها وبصلها، فيجيبهم: اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم وضربتم عليهم الذلة والمسكنة. كانوا شعبا قد تروض على العبودية، ضمرت عنده الأجهزة النفسية ولم يعد صالحا للمهام التاريخية، وكان على موسى الأولى أن يدفنهم في الصحراء، في عملية استنساخ ليخرج من أصلابهم من يتحمل المسؤولية ويؤدي المهمة، ويبحث عن رجل صالح على شاطئ البحر عسى أن يفهم الجديد من أسرار الحياة.

يعلق رسول الرحمة صلى الله عليه وسلم على مواقف الأنبياء: يعلق على موسى: لو صبر لأخذنا مزيدا من الدروس. وعلى لوط وهو يصرخ بالمثليين المتراكمين من حوله، اتقوا الله ولا تخزون في ضيفي، أليس منكم رجل رشيد؟ يطلبون منه أن يسلمهم الضيوف ليفعلوا بهم الفاحشة: يصرخ لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد؟ يعلق رسول الرحمة (ص) على موقفه، لقد كان يأوي إلى ركن شديد: الله. لا نعرف أيضا ما موقفه من يونس وهو يخرج مغاضبا يظن أن لن يقدر عليه، ونوح وهو يدعو أن لا يترك على الأرض من الكافرين ديارا.

 

نافذة:

فرعون بعد أن جاء جده من الجنوب وطرد الهكسوس اعتبر بني إسرائيل الذين تكاثروا في هذه الفترة الممتدة ليسوا من الشعب المصري

 

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى