شوف تشوف

الرأي

نهاية الدولة السورية

منذ زمن وأنا أتوقع نهاية سوريا الحديثة لسبب بسيط، أن النتائج هي من جنس التركيب. في القرآن في سورة الأعراف: مثل عن البلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا. وسوريا بلد خبيث أنبت النكد والفرقة والاقتتال والحقد والدم. نموذج على ذلك بلدتي التي ولدت فيها القامشلي وهي بالنسبة لي مدينة أمقتها ولا أريد العودة إليها. لقد نشأت وأنا أرى شرانق من عصبيات وأديان وقوميات تتبادل الريبة والكراهية فقلت تبا لك من بلدة فودعتها ولم أعد.
النتائج من جنس التركيب بمعنى أن خلطة غير سليمة تقود إلى تفكك المركب. هنا يعمل قانون الأنتروبيا على نحو أسرع، وهو قانون يمسك بجوانب الوجود فتزهق الأرواح، وتنهار البنايات، ويتفكك المركب الكيماوي، وتزول الدول، وتنقرض الأجناس، وتباد الحضارات، وسوريا هي ظلمات بعضها فوق بعض، واصطنعت اصطناعا من بقايا الدولة العثمانية الميتة، فليس أمام الجثث إلا فواح الرائحة، وهجمة الذبان والجرذان لالتهام الجيفة.
في القرآن جاء ذكر تدمير دولة سبأ مزقناهم كل ممزق وجعلناهم أحاديث. ما نرى في صيف عام 2015 يذكر بتلك الآية من آخر سورة البقرة: ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم. كيف نفهم الآية؟؟
مئات الألوف يتم تفريغهم ديموغرافيا من سوريا حتى تشحن وتحشى بالشيعة من هزارة أفغانستان وشيعة إيران وجند حزب الله والشيطان من كل صنف زوجان. إيران سوف تلتهم المنطقة وتعلو علوا كبيرا، ثم يصدق عليهم ما جاء في سورة الإسراء: يتبروا تتبيرا. قبل فترة أخبرتني ابنتي بشرى المحامية من كندا عن مقالة انتشرت بسرعة على النت بعنوان (نهاية دولة).
وقد ذهب بعض الصحفيين العرب إلى التأكيد على هذا، وأن الأزمة السورية ليس لها مخرج لا سياسي ولا عسكري!
والمسألة إذا نظر لها من الجانب السياسي فالسياسيون كذابون ولو صدقوا، وأحدهم لا يرى أبعد من أرنبة أنفه.
في هذه المأزق التاريخي الذي تعيشه سوريا تنفع الرؤية التاريخية.
في القرآن يأتي هذا التعبير (ألم تر) إلى الملأ من بني إسرائيل.
هنا النظر ليس الإبصار الفيزيائي بل التاريخي، ولذا من سيفقه في مآل الأمور في الأزمة السورية هم علماء الاجتماع وخبراء السيكولوجيا والتاريخ.
أذكر من (إيمانويل كانط) فيلسوف التنوير الألماني حين كانت تنقل له فظاعات الثورة الفرنسية كان يعلق بهذه الجملة: كل ما ترون من فظاعات لا تعدل يوما واحدا من الاستبداد!
اجتمعت يوما بطبيبة من السلمية (قريبة من حماة) فروت لي قصة، ثم استعطفتني برجاء حار أن لا أنقل القصة لأحد. هذه القصة يجب نقلها للقراء حتى يستوعبوا أن ما يحدث في سوريا هو تحصيل حاصل! لم يدر بخلد الشاب ذي الـ 18 ربيعاً أن تلك الزيارة الخاطفة ستقرر مصيره؛ ففي سوريا كان الشاب رسلان في خدمة العلم فأرسل إلى منطقة حدودية مجاورة للعراق.
شعر الشاب أن قضية خاله الفار إلى العراق المجاور هي مسألة جغرافية؛ فليس أمامه سوى القفز بضع مئات من الأمتار الحدودية؛ فيزور قريبه الذي يحبه، وكانت غلطة قاتلة.
احتفى به خاله وقبَّله، ولكنه قال له لقد أخطأت بما فعلت؛ فأنت يا بني لا تعبر حدوداً ترابية، ومسألة الحدود بين العربان هي أشد من القفز في أطواق النيران، ثم إن خال الشاب قال له ارجع بسرعة قبل أن يعلم الرفاق من هنا أو هناك بأمرك فيذيقونك العذاب الأليم.
كان الشاب صيدا ثميناً لمخابرات الرفاق في القطرين المتجاورين فهو خائن من جهة ومستودع معلومات للطرف الآخر.
وعندما قام بزيارة للسلمية أطلع والده على ما حصل معه فارتج الوالد رعباً وقال يا بني لقد جئت شيئا إداً تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً. ولقد أوقعتنا في ورطة كبرى لنا جميعا. ثم إن الأب انطلق بابنه إلى رئيس فرع مخابرات المنطقة فأطلعه على الأمر وقال أنتم أعلم بطيش الشباب وعدم تقديرهم لعواقب الأمور وها أنا والده أسلمه إليكم لترأفوا بحاله. قال له رئيس الجلادين بابتسامة ماكرة: اطمئن هو في يد أمينة وهي ساعة من نهار نستجوبه ثم يرجع إليكم.
رجع الوالد إلى بيته واعتبر أن المسألة قد حلت وانتهت. ولم يدر في خلد أحد أن الرحلة الفعلية بدأت؛ فلم يعد الشاب إلى فرشته تلك الليلة ولا التي بعدها، ومرت الأيام والأشهر ولا أحد يعرف في أي قبو من أفرع المخابرات الجهنمية ينام ويعذب.
دامت الرحلة ثلاث سنوات حتى عاد، ولكن لم يعد ذلك الشاب الضاحك المرح بل تحول إلى إنسان هرم محطم. لاحظ الأهل أن يديه وجلد ظهره وصدره أصبحت مثل جلد السنجاب من أثر حرق السجائر ولسع الكهرباء فيها.
كان الشاب في حالة وجوم وذهول مستمرين، وتحضره غيبوبة عند اجتماع الناس به، وعلاه صمت لا يفكه شيء؛ فلم ينطق حرفا أين كان سجنه؟ من سجنه؟ وماذا سألوه في التحقيق؟ وعن أي شئ؟ وماذا تعرض له؟ ثم بدأت عليه عوارض الجنون الخفيف فيخرج هائماً على وجهه وقت السحر ويخرج بملابس صيفية في أعز وقت البرد.
استمرت الحالة هكذا أشهراً طويلة وهو يرزح تحت صدمة لا فكاك منها ولا خلاص؛ حتى جاءت تلك الليلة المخيفة فتوجه الشاب إلى بئر ارتوازي وهو من النوع المخروطي فتحته تتسع لإنسان ونهايته تضيق بعد مائة متر؛ فقام بإجراء طقوس الموت؛ فخلع نعليه، ثم ألقى بنفسه في البئر فانحشر واقفاً منكسا!
مات الشاب تدريجياً بنقص الأكسجين التدريجي في ميتة من أبشع الميتات. اختفى الشاب وبحث الأهل عنه حتى عثروا عليه، ودلَّوا بالحبال فلم يتمكنوا من انتزاعه؛ فمكث والده ثماني ساعات وهو يراقب حفر بئر موازية أوسع بجانب الأولى، حتى وصلوا إلى مستوى جسم الشاب الميت؛ فحفروا حفرة جانبية انتشلوا منها الجثة كاملة عبر هذا النفق حتى يتمكنوا من دفنه غير منقوص.
كان الوالد يبكي ويندب طول الوقت. جاءت المخابرات وأكدت عليهم دفن الشاب بدون ذكر وبدون عزاء وبدون صلاة وأن يشيعوا خبره أنه انتحر، والسؤال هل كان هذا الشاب فعلاً منتحراً؟
لقد أوصلت مخابرات النظام السوري المواطن إلى تلك الحافة التي يرى فيها أنه ليس هناك ما يستحق أن يعيش المرء من أجله وأفضل ما يفعله أن يقدم استقالته من الحياة ويستريح؟
أو أن يثور فيضرب بصواريخ سكود والسلاح الكيماوي، ويدفن تسعون ألف قتيل ويزيد. أو يركبون ثبج البحر الأخضر فيغرقون أو يحشرون في شاحنة الموت فينتهون متعانقين في أحضان الموت الباردة.
إذا انتهت الدولة السورية فليس من شيء يبكى عليه فلم يكن ثمة دولة ومواطن ووطن بل مقبرة وحفار قبور وقبور فاغرة فاهها للاستقبال.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى