نظام تركيا.. وسياسة الفهلوة
عبد الإله بلقزيز
يقف نظام «حزب العدالة والتنمية» في أنقرة مع طرف ونقيضه، في الوقت عينه، فيُحسَب حليفا للأول ومعسكره وحليفا للثاني ومعسكره..
يترك لـ«حلفائه» أن يتقاطبوا ويتقابلوا على ضفتين متواجهتين، وأن يستحصل الواحد منهم مكاسبه والمغانم من الثاني، فيما هو يقف على المسافة عينها منهما متحينا فرصة اغتنام عوائد النزاع بينهما على النفوذ، من غير أن يقدم أثمانا عدا الأثمان اللفظية التي بَزّ جميع الأنظمة في درجة إتقان حياكتها.
هكذا هو يفعل، اليوم، في علاقته بروسيا والولايات المتحدة الأمريكية وسياساتهما على الساحة السورية. هو شريك لروسيا في تفاهمات سوتشي – بما فيها مذكرة التفاهم بين بوتين وأردوغان حول الشمال السوري- ومبدأ خفض التوتر تمديدا للتسوية السياسية، التي بدأت ملامحها في التبين مع الاتفاق على لجنة خاصة بالدستور؛ وهو شريك للإدارة الأمريكية في «حلف شمال الأطلسي» وفي مشروع إقامة «المنطقة الآمنة» في الشمال السوري (التي لا يمكن أن تكون، في النهاية، سوى على حساب سيادة سوريا والواقع الديموغرافي القائم في شمالها، كما على حساب مواطنيها الكرد في تلك المناطق).
وهو يُوهِم كلا من الطرفين بأنه مصطف في صفه وملتزم سياسته تجاه الطرف الثاني. ولأنه يعلم، على التحقيق، أن الفريقين في حال نزاع شديد يحتاج فيه كل منهما إلى الموارد والحلفاء، وأن تركيا -بحكم موقعها الجغرافي على الجوار السوري كما بحكم وجود جماعاتها الإرهابية والمسلحة التابعة لها داخل التراب السوري – هي أقدر من يؤدي الخِدْمات لهذا وذاك من الفريقين، يعلم – بالتبعة – كيف يبيع دوره، أو يغري به من يدفع أكثر.
لا يتقن نظام «العدالة والتنمية» شيئا آخر إتقانه للفهلوة واللعب على الحبال في السياسة الدولية. لعل الأمر الوحيد – الآخر- الذي يثبت فيه حذقه، هو الكذب على الذقون وبيع الأوهام للمغفلين الصغار؛ كأن يعلن غضبه على إسرائيل، ويستحصل من ذلك تعاطفا معه من العرب والمسلمين، ثم يعود لتجديد الصلة بها صاغرا وذاهبا إلى إقامة أفضل العلاقات الاستراتيجية بها.
والسياسة هذه، التي يخال البعض أنها ذكية لأنها براغماتية، ليس فيها من الذكاء والبراغماتية ذرة؛ لأنها، بالتعريف، انتهازية، لا مبدأ من دين أو أخلاق أو أعراف يؤسسها؛ وهي إذا انطلت على من يحسن فيها النية مرة لن تنطلي عليه ثانية. ويكفي أنها وجهت إليه خمس صفعات سياسية كبرى في السنوات العشر الأخيرة أفسدت عليه حساباته:
صفعةُ الإفشال السياسي لمشروعه «الإخواني» الانقلابي، الذي رعاه في الداخل العربي، بمناسبة اندلاع حوادث ما دعي باسم «الربيع العربي». وهو خرج منه خالي الوفاض يجر أذيال هزيمة مروعة، ويحصد منها عزلة سياسية خانقة لم يكسرها، رمزيا، سوى وقوف دولة عربية صغيرة إلى جانبه.
وصفعة الرد الاقتصادي العقابي الروسي على اجترائه على إسقاط طائرة روسية في الأجواء السورية؛ الرد الذي تلازم مع التقييد الروسي ليده ومنع سلاحه الجوي من التحليق في سوريا، و بالتالي من تقديم غطاء الدعم لجماعته المسلحة. ولم يرفع عنه خناق الضغط إلا بعد أن رضخ للشروط الروسية وتصاغر أمام إملاءاتها السياسية وتعهد بعدم إفساد سياساتها تجاه الأزمة السورية.
وصفعة الحماية الأمريكية لمعارضيه من أتباع عبد الله غولن، ناهيك بما بدا وكأنه ارتياح أمريكي لمحاولة الانقلاب العسكري عليه، ومن شكوك في وجود إيعاز ما خفي من الإدارة الأمريكية بتدبير عملية التغيير الفاشلة تلك، ناهيك باعتراضات الولايات المتحدة الأمريكية والحكومات الأوربية على سياسات العقاب والتطهير التي واجه بها نظام أنقرة عشرات الآلاف من الأتراك، الذين اتهمهم بموالاتهم والانقلابيين.
ثم صفعة الفشل الذريع في تغيير نظام الحكم في سوريا، والذي كانت نهاية فصوله – كفشل- تبديد جهد النظام التركي في استقدام عشرات الآلاف من المسلحين إلى الأراضي السورية، وإلحاق الهزيمة بهم وبمشروعه جملة والدفع به، من ثمة، إلى طلب القليل مما رام كثيرَهُ: حماية حدوده من سوريين (كُرد) يخشى جانبهم؛ بعد أن كان يتطلع إلى تنصيب قائمقام له في دمشق!.
وأخيرا صفعة انهيار علاقاته العربية بعد فترة ازدهر فيها اقتصاده من الاستثمارات العربية في قطاعاته المختلفة، ومن الأسواق السورية والليبية والمصرية والمغربعربية، ومن اتفاقات التعاون والشراكة… التي انتعش منها قبل أن يصيبه الانكماش وتتدهور قيمة عملته بسبب سياساته الخرقاء.
هذا غيض من فيض نتائج سياسة الفهلوة واللعب بالنار. ويبدو أنها سياسة لن تتوقف إلا برحيل «حزب العدالة والتنمية» عن سدة السلطة في أنقرة.