نصوص خطها محمد بن عبد الكريم الخطابي بيده في منفاه
مذكرات لاريونيون :كتب تنقل تفاصيل حياة ابن عبد الكريم الخطابي في لاريونيون
من بين الدارسين الذين اهتموا بحياة ابن عبد الكريم في لاريونيون، الأستاذ علي الإدريسي في كتابه: “عبد الكريم الخطابي: التاريخ المحاصر” والذي اعتمد حينما تناول مرحلة المنفى، على الكتابات سالفة الذكر، وكذا على ما استقاه من معلومات ووثائق (الصور بالأساس) مباشرة من أبناء الأمير عبد الكريم الخطابي.
كتاب الباحثة ماريا روسا دي مدارياغا
في الأخير نشير إلى كتاب الباحثة ماريا روسا دي مدارياغا: “محمد بن عبد الكريم الخطابي والكفاح من أجل الاستقلال” الصادر سنة 2009 باللغة الإسبانية، وقام بنقله إلى لغة الضاد كل من محمد أونيا، عبد المجيد عزوزي وعبد الحميد الرايس سنة 2013 والذي تحدثت فيه عن مرحلة المنفى ما بين ص. 527 وص. 543، شكل فيها مؤلف محمد أمزيان مرجعا أساسيا. وهكذا تعرضت في مضمون هذا الفصل لصعوبات الاستقرار في بداية الأمر بقصر مورانج، موردة جردا لأثاثه الذي كان “يتسم بطابع الزهد والتقشف، الأمر الذي لم يكن ليشغل بال عبد الكريم كثيرا مادام تعود على شظف العيش”، وتحدثت عن الرقابة والمرض ومحاولات تهريب ابن عبد الكريم و”محاباته” للسطات الفرنسية حتى تعيده إلى المغرب.
ولا بد من الإشارة كذلك إلى الكتاب الذي نشره مؤخرا الدكتور حسن البدوي بمصر، وقد استقى معظم مادته التاريخية من مذكرات محمد بن عبد الكريم الخطابي التي حررها كل من علي الحمامي ومحمد سلام أمزيان بشكل أساسي، ومحمد عبد الوارث الصوفي ومحمود الكبير بصفة جزئية، علما بأن هذه المذكرات المعروفة بمذكرات القاهرة تقع في أربعة كتب هي: “مأساة مراكش” في جزء واحد، و”الشعب يواجه الاستعمار الإسباني” في جزء واحد أيضا، و”المنفى” في جزأين، وهو الكتاب الذي دونه محمد سلام أمزيان انطلاقا من الإملاء الشفاهي من طرف الأمير، فيما يعتبر الكتاب الرابع الذي دونه علي الحمامي نسخة مختصرة من مجموع مذكرات ابن عبد الكريم المحررة في القاهرة.
كل الدراسات التي أشرنا إليها هي باللغة العربية إذ ما استثنينا كتاب الباحثة الدقيقة والصارمة في تعاملها مع الوثيقة والتي جابت مختلف أرشيفات أوربا من أجلها، الدكتورة ماريا روسا ذي مدارياغا. كما أنها كتبت في مرحلة لاحقة ولم تعايش الأمير في منفاه، نظرا لتعذر اطلاع أصحابها، لسبب أو لآخر، على مجال الجزيرة وفضاءاته ليدركوا فعلا ردود فعل المنفيين وسلوكاتهم ومعاناتهم، وكذا قرارات وطبيعة علاقات رب الأسرة مع السلطات الفرنسية، سواء بالجزيرة أو المتروبول.
مرحلة المنفى بجزيرة لاريونيون
عكس هؤلاء، فإن كاتبا ينتمي إلى جزيرة لاريونيون وهو الدكتور تيري مالبير Thierry Malbert الأستاذ المحاضر بجامعة لاريونيون، تمكن من الوصول إلى المادة المصدرية بيسر من جرائد وصحف، وأرشيف إدارة المستعمرة، وحتى الذاكرة الجماعية باللقاء والاستجواب مع شخصيات كانت لها علاقة مع الأسرة الخطابية في الجزيرة، جمعها في كتابه: L’exil d’Abdelkrim El-Khattabi à la Réunion 1926-1947 (مرحلة منفى عبد الكريم الخطابي بجزيرة لاريونيون 1926-1947) الصادر عن منشورات “أورفي” Orphie، في أبريل 2016، فجاء حافلا بالصور والوثائق التي ينشر بعضها لأول مرة.
خصص تيري مالبير القسم الأول من كتابه لأطوار حرب الريف إلى أن استسلم بطلها للقوات الفرنسية بترجيست حيث نقلته إلى فاس، ومنها بعد شهرين، إلى الرباط، ثم الدار البيضاء ليصعد، هو وعائلته، على ظهر باخرة عبدة ويغادر المغرب يوم 28 غشت 1926 صحبة الضابط صاني المكلف بمرافقته ومراقبته حتى الجزيرة حيث سيسلمه إلى سلطاتها.
وبعد هذا القسم الأول، أسهب الباحث في القسم الثاني من كتابه (من صفحة 35 إلى صفحة 165) في اقتفاء أثر ابن عبد الكريم وعائلته منذ حلولهم بجزيرة لاريونيون يوم 10 أكتوبر 1926 حتى مغادرتهم لها يوم 30 أبريل 1947. لقد تتبع المؤلف حياة العائلة الخطابية بالجزيرة خطوة بخطوة، بدءا بالتعريف بقصر مورانج الذي سيحضن الأسرة قبل انتقالها إلى كاستل فلوري Castel Fleuri والأحواض الثلاثة Les Trois bassins، ثم صعوبات الاستقرار والاندماج التدريجي مع الساكنة، والتكيف مع الخصائص المناخية الجديدة، وأشكال المراقبة التي تغيرت من الشدة والعزلة التامة إلى التخفيف منها، وكيف تعامل ابن عبد الكريم مع سلطات الجزيرة التي ارتابت منه في بداية الأمر حتى تأكدت من “حسن نواياه” تجاههم وتجاه فرنسا. كما تناول في هذا القسم أيضا الصعوبات الصحية والمالية التي واجهتها الأسرة الكبيرة العدد (40 فردا) وتربية الأبناء وتعليمهم، وعما قامت به من مجهودات لتجاوز تلك العقبات. هذا إلى جانب المواقف السياسية لمحمد بن عبد الكريم وتفاعله مع المستجدات العالمية الكبرى من قبيل الأزمة الاقتصادية لسنة 1929، والحرب العالمية الثانية ومحاولات تهريبه وليس هروبه، كما رددت بعض الأبواق الإسبانية وقتذاك، ثم دخوله مجال التجارة وعالم الأنشطة الفلاحية لتتحسن بذلك الوضعية المالية للعائلة.
ما يشد الانتباه في هذا القسم من الكتاب هو أن الباحث استطاع أن يقدم لنا موضوعا متكاملا مهما عن مرحلة منفى الأمير بتلك الجزيرة، وذلك بما توفر له من مادة مصدرية غنية تكمن في الرسائل والتقارير العسكرية والصور والشهادات. وما يميز هذه الوثائق كون الكثير منها جديدة لم يسبق في مجملها أن تناولها أحد قبله، مما يجعل الكاتب يتفرد بهذه الخاصية، وستسجل له دوما على أنه كان الأول الذي بادر إلى البحث في هذا النوع من التيمات التي انضافت كقيمة مهمة في البحث التاريخي.
نمط حياة الخطابي بالجزيرة
لتقريب القارئ أكثر من نمط الحياة التي عاشها الأمير الخطابي وعائلته في ذلك المنفى، نستأذن الأستاذ تيري مالبير في إيراد بعض الفقرات الدالة من كتابه المذكور على الشكل التالي:
“استُقبل الأمير يومين بعد صوله من لدن الحاكم Repiquet. وكان عبد الكريم معجبا بحسن الاستقبال الذي حظي به، وأوضح الضابط صاني الذي رافعه من المغرب إلى أنه قام بسفر طويل دام أربعين يوما وأن كل شيء مر بسلام وأن عبد الكريم وعائلته حظوا بتقدير القائد لحسن سيرتهم. وقد شكر عبد الكريم الضابط صاني على تفانيه، وكذا مؤهلاته كمترجم ووسيط (…) لقد نصح الحاكم عبد الكريم بتجنب المجموعات الإسلامية الصغيرة بالجزيرة، سيما الهندية إذ أن السلطات كانت تتخوف من أن هذه الأخيرة قد تعتبره زعيما روحيا لها. وقد وعد الأمير بذلك”.(ص. 51).
يزودنا الكاتب أيضا بفكرة عن المدة التي استغرقها الأمير في تدوين مذكراته المسماة “مذكرات لاريونيون”، إذ يقول إنه مباشرة بعد وصوله إلى تلك الجزيرة عكف لمدة شهر على كتابة “مذكراته عن الحرب” رفقة العقيد صاني، غير أن الأمر على ما يبدو قد التبس على مالبير، حيث لم يميز بين هذه المذكرات وتلك التي كان قد أملاها الأمير على فرنسي آخر قبله هو الصحافي روجي ماثيو فاعتقد أن المذكرات التي طبعها هذا الأخير بباريس سنة 1927 هي نفسها التي حررها الأمير في جزيرة لاريونيون. (ص.53).
استقرت الأسرة في البداية “في قصر مورانج الواقع في منطقة تنتشر فيها الملاريا بشكل كبير. ولم تكن الحياة يسيرة ولم تنج أسرة عبد الكريم من هذا المرض. لقد أصابت الحمى الصفراء والدة الأمير وخدمه منذ الأشهر الأولى”. (ص. 54).
وحول حراسة الأسرة الخطابية، يقول الكاتب أن ابن عبد الكريم كان “مراقبا أربعا وعشرين ساعة على أربع وعشرين، وحرا في التنقل داخل حديقته، عبد الكريم، القائد الكبير للحرب، دخل في مرحلة انتظار طويلة (…) لقد كان هدف السلطات هو الاحتفاظ به معزولا عن ساكنة الجزيرة. وفي أفق خلق مناخ الخوف من القائد الريفي السابق، أقدمت السلطات، انطلاقا من لغة “كريول” المحلية إلى نحت أساس فرنسي لمقطع “الكريم” التي تعني في العربية “الجواد” وقابلته في الفرنسية المتداولة في الجزيرة بلفظة متماثلة صوتيا «Krim» أي “الجريمة” «crime». (ص. 55).
ومع تزايد عدد أفراد الأسرة، تزايدت معها تكاليف العيش والعلاج والتكيف مع الوسط الاجتماعي الجديد: “تكاليف العيش ارتفعت بشكل مطرد، كما ارتفع عدد أفراد الأسرة بسرعة إذ انتقل بين 1926 و 1937 من واحد وثلاثين إلى أربعين (…) كثر الأطفال وارتفعت مصاريف تمدرسهم وملابس الذكور غالية سيما لما ولجوا الثانوية، لقد كانوا يلبسون مثل التلاميذ الفرنسيين. على مستوى الصحة، كانت أسعار الأدوية للعلاج من الملاريا مرتفعة (…) مقابل هذه الصعوبات لم يشتك عبد الكريم قطعا، بل كان مسلما جيدا معتمدا على العناية الإلهية لتجاوزه”. (ص. 57).
مراسلة السلطات الفرنسية
بعد مرور ست سنوات من النفي، وهي المدة التي كانت قد حددتها له السلطات الفرنسية كأقصى حد لما غادر فاس كي يعود بعدها إلى بلده الأم، بادر الأمير الأسير بمكاتبة السلطات الفرنسية سنة 1932 قائلا:
“إن نفيي أضحى ست سنوات. صحيح أنني أعامل بشكل جيد (…) والسيد الحاكم Repiquet الذي كلف النقيب فيرين، عاملني بكل الاحترام ويلبي كل طلباتي، لكن المنفى صعب جدا، وهو العقوبة الأشد التي يمكن إلحاقها بي. معي والدتي الطاعنة في السن والتي لا تبتغي الموت دون العودة لبلدها الأصلي وترى بناتها وأخواتها اللواتي مكثن هناك. نسائي اللواتي عائلاتهن هناك في المغرب، أولادي وأولاد أخي وعمي، تربوا على احترام وحب فرنسا، وإني متشبث بمنحهم تعليما وتربية فرنسية، ومن قلبي أتمنى، حينما يكبرون، أن يصبحوا ذوي فائدة لفرنسا. إن سعادتكم لا تبغي لهؤلاء الذين براءتهم واضحة لا تريد بقاءهم في المنفى”. (ص. ص. 47-75).
و”في 1936، أصدر حاكم الجزيرة رأيه في أفق منح عفو ما على المنفيين والتفكير في عودتهم إلى وطنهم. في المقابل، كان رد المقيم العام هو الرفض. ذلك أن هذه العودة قد تثير بعض الاضطرابات. كما أن الاتفاقات مع الإسبان تتنافى وأية عودة محتملة”. (ص.84)
ويستطرد الكاتب “في 1937، غادر الجزيرة النقيب فيرين Vérines الذي تكفل بمراقبتهم منذ وصولهم سنة 1926. وخلال الإحدى عشرة سنة، كان الرجل يتردد يوميا على المسكن المراقب لعبد الكريم. تعلم الرجلان كيف سيتفاهمان. وحول شاي الصباح تمكنا من نسج علاقات الصداقة. لقد سهل النقيب فيرين تسجيل الأبناء بثانوية لوكونت دو ليسل Le Conte-de-Lisle، وكان فيرين يناديهم “أبنائي”. في تقريره، وضح بشكل دقيق كون تصرفات وسلوكات زعيم الريف السابق جيدة، لائقة وجادة، وأنه “خاضع” لفرنسا. لقد كانوا يعيشون بإمكانيات قليلة، ومع ذلك لم يشتكوا”. (ص. 92).
لقد ظل ابن عبد الكريم متشبثا بأمل العودة إلى بلده المغرب، كما تمسك بتقاليده اليومية: “طيلة منفاه، حافظ عبد الكريم على لباسه الريفي التقليدي. كان يخرج دائما متدثرا عمامته، جلابته وبلغته (…) وكل صباح كان يتمشى حول منزله وهو مستغرق في التفكير”. (ص.84)
واستكمالا لهذه المقاطع المعبرة عن حياة ابن عبد الكريم في منفى لاريونيون، نورد بعض الفقرات التي أوردها حسن البدوي في كتابه الآنف الذكر:
“إن أول نشاط قام به عبد الكريم هو أن افتتح محلا تجاريا بالعاصمة سان دوني بما تبقى معه من أمواله (…)، وظلت أرباح هذا المحل تغطي نفقات الأسرة المتزايدة قرابة العامين أو يزيد”. (الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي ودوره في تحرير شمال إفريقيا 1920 ـ 1963. ص. 70 من المسودة).
في سنة 1939 اقترح عليه أحد أبناء صديقه الشيعي (كريم جي) “شراء مزرعة تبعد عن العاصمة بحوالي 70 كلم ناحية الغرب، تقع في قرية تسمى Les Trois Bassins (الأحواض الثلاثة)، أما عمه عبد السلام وشقيقه فبقيا بأسرهم في شاتو فلوري بالعاصمة لمتابعة نشاطهم التجاري…”.
انتقل ابن عبد الكريم للمنزل الجديد الواقع في مزرعة كبيرة “وتمكن بدوره من تطوير المزرعة، والتوسع في زراعة عصر الجيرانيوم (نبات عطري يستخدم زيته في صناعة العطور والمواد الطبية)… ولم يكتف عبد الكريم بهذا، فأدخل زراعة قصب السكر في مزرعته”. (ص. 76)
ومع ذلك “لم يكن أمر تأمين أوضاع أسرة الخطابي المادية ليشغله يوما عن تتبع الأحوال السياسية في العالم، فكان يذهب للعاصمة هو وأولاده ويختلطون بأهلها ويترددون على مكاتبها ومحلاتها، حتى وجد مكتبة اسمها (دودي) نسبة لاسم صاحبها، فاتفق معه عبد الكريم على أن يمدهم بالجرائد والمجلات بصورة دائمة، على أن يعطيه ثمنها دفعة واحدة مع بداية كل شهر”. ص.71.