عندما ظهرت القاعات السينمائية في المغرب، كانت أصوات التصفيقات التي تتعالى تحت أسقفها، ليست بفضل انبهار المتفرجين من روعة المشاهد في الأفلام أو اندماجهم مع السيناريو أو أداء نجوم الشاشة، ولكن بسبب حماس الفرنسيين من الجمهور وهم يرون غواصات الألمان وسفنهم تتحطم في عرض البحر بقصف الطائرات البريطانية والأمريكية، خلال الحرب العالمية الثانية. إذ إن قاعات السينما وقتها كانت تعرض “أشرطة وثائقية”، على شكل نشرات أخبار مسجلة تطوف بها الخارجية الفرنسية قاعات السينما حول العالم، لرفع منسوب الثقة لدى مواطنيها في كل مكان.
اليوم، لم تعد الخارجية ولا وزارة الدفاع الفرنسية إلى إخراج نشرات أخبار مسجلة، لكي تبثها في قاعات السينما. فالعالم قد تغير وأصبحت نشرات الأخبار تتجدد على مدار الساعة وتعرض حوارات ومداخلات ومراسلات من قلب الحدث، لكن “التلميع” و”البروباغندا” لا تزالان هوايتين فرنسيتين في الإعلام.
بعد تدهور علاقات باريس بدول شمال إفريقيا، بسبب التطورات السياسية الأخيرة وأزمة التأشيرات، وسحب الجزائر لسفيرها وإنهاء المغرب مهام سفيره، ها هو الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون قد أعلن مؤخرا أن بلاده سوف ترسل سفيرها إلى باريس لاستئناف العلاقات. يحدث هذا في فترة أزمة سياسية فرنسية خانقة قد تعصف برئاسة الجمهورية، التي لم تُحسن التعامل مع المطالب الاجتماعية بخصوص ملف تمديد سن التقاعد.
والواضح أن الرئاسة الفرنسية تريد إزاحة نقاش تمديد سن التقاعد عن الواجهة، ودفعت بمشروع آخر يتعلق بالقتل الرحيم لكي يجذب انتباه الرأي العام الفرنسي. إذ إن مجموعة النقاش الوطنية الفرنسية طرحت الأحد الماضي تقريرها المُنتظر، الذي يتضمن مقترحات لتطوير التشريعات المحلية الفرنسية والسماح بتفعيل القتل الرحيم في حالات طبية معينة.
وكان الرئيس “ماكرون” قد أطلق هذه المبادرة، منذ غشت الماضي، وها هي اليوم تُلعب كورقة لتقسيم الشارع الفرنسي من جديد، بين مؤيد ومعارض لهذا القانون، خصوصا وأن نسبة تفوق تسعين بالمائة من أعضاء اللجنة، التي انكبت على دراسة الموضوع، تتفق مع موضوع التقرير وتؤيد تفعيل القتل الرحيم.
بعض الأوساط الفرنسية تُسمي هذا الإجراء “الانتحار تحت الرعاية” أو إشراف جهة طبية. وهو ما يجعل القضية كلها أمام مشكل أخلاقي يتعلق بتأطير الانتحار.
ومن بين المقترحات، التي خلصت إليها اللجنة، أن الفرنسيين يجب أن يحصلوا على المزيد من المسكنات الطبية، وسُجلت حالات نقص حاد في هذه المواد للسيطرة على بعض الحالات المتقدمة من الأمراض النفسية المُفضية إلى الانتحار.
الداعمون للمشروع يقولون إن فرنسا تشهد حالات إجراء للقتل الرحيم بشكل سري، في كل ربوع فرنسا، وأن وقت تقنينها قد حلّ. فهل يُنسي هذا النقاش الفرنسيين أزمة تمديد سن التقاعد؟
يبدو أن هؤلاء الفرنسيين أشقياء؛ فإما أن يُجبروا على العمل إلى أن يقتربوا من السبعين، وإما أن تساعدهم الدولة على وضع حد لحياتهم بأنفسهم.
هذا الجيل المعني اليوم بموضوع سن التقاعد، والقتل الرحيم، هو نفسه الجيل الذي قضى طفولته في التصفيق تحت أسقف قاعات السينما للأشرطة التي عُممت في فرنسا كلها لجعل الفرنسيين يصدقون الرواية الرسمية لبلدهم بشأن تقدمهم في الحرب ضد النازية. ولولا تدخل الولايات المتحدة في الحرب، من خلال عملية إنزال “نورماندي” لما حُسمت النتيجة لصالح فرنسا وحلفائها.
يحتاج الفرنسيون اليوم إلى من يعيد إليهم الثقة في المؤسسة التشريعية، التي أصبحوا يرون أنها باتت تعمل ضد مصالحهم. لكن الزمن تغير كثيرا، وصار إقناع الناس يتطلب أكثر من ترويج نشرة أخبار مُسجلة على شريط بالأبيض والأسود.
يونس جنوحي