نساء خلدتهن شوارعنا سقطن من الذاكرة فكرمتهن لوحات الشارع العام
يعتقد الكثيرون أن تسمية الشوارع والأزقة مجرد نزوة ذكرى من مجلس جماعي، والحال أن إطلاق اسم شخصية على أي عقار رسمي، له أهميته من الناحية الأمنية والقضائية والاجتماعية، فضلا عن الحمولة التاريخية باعتبار المبادرة فرصة لتخليد اسم وترسيخه في الذاكرة.
حسن البصري:
حضرت المرأة المغربية والأجنبية في ذاكرة المغاربة، وتم تخليد أسمائهن من خلال إطلاقها على أزقة وشوارع وساحات عمومية، فضلا عن مرافق اجتماعية. في البدء، اقتصرت التسمية على الذكور قبل أن تمتد إلى الإناث، وكانت تكتب باللغة الفرنسية قبل أن يجري تعريبها بعد الاستقلال.
وحسب الكتابات التاريخية المتعلقة بالشأن الجماعي، فإنه خلال فترة الحماية الفرنسية والإسبانية، كان المكلفون بالأشغال العمومية في المجالس الجماعية هم أصحاب هذه المبادرات بإشراف من الإقامة العامة، في زمن أصرت سلطات الحماية على فرض رموزها في مختلف أنحاء المدن، حيث لم يقتصر إطلاق أسماء الرموز الاستعمارية على الشوارع والساحات والأزقة، بل طال ذلك أسماء الأحياء والدروب الشعبية التي كانت تستقر فيها جاليات أوروبية، سواء كانت فرنسية أو برتغالية أو إسبانية، ككارتي كوبا، ودرب الإنجليز، ودرب الطاليان، وبوسبير، ودرب السنغال، وبورنازيل.. إلى غير ذلك من الأسماء.
في غمرة الاحتفال بعيد المرأة، لا بد من التوقف عند نساء مغربيات وأجنبيات نقشن أسماءهن في الذاكرة المغربية، لخدماتهن الإنسانية وأياديهن البيضاء وإصرارهن على السير ضد التيار الاستعماري. وحين باشرت السلطات المغربية عملة التخلص من الرموز الاستعمارية صمدت نساء حملن رصيدا كبيرا من الخير.
ماتت الشنا فأطلق اسمها على قاعة للرياضات النسائية
قبل متم عام على وفاتها، أطلقت جماعة الدار البيضاء، ومقاطعة المعاريف، اسم الراحلة عائشة الشنا على القاعة الرياضية المغطاة، متعددة التخصصات بمنطقة النخيل في حي درب غلف. القاعة عبارة عن فضاء رياضي اجتماعي مجاني لفائدة النساء ربات البيوت، وذلك في إطار المشاريع التنموية ذات البعد الاجتماعي، لأنه يمكن ربات البيوت في المعاريف من جلب أطفالهن لهذا الفضاء لأنه يتوفر على حضانة، كما أن ولوجه يكون بالمجان.
كان لا بد من مرفق اجتماعي يحمل اسم هذه الناشطة الاجتماعية المغربية والمدافعة عن حقوق المرأة، عائشة الشنا، والتي ماتت عن عمر ناهز 82 عاما، إثر أزمة صحية ألزمتها الفراش، وحتمت عليها الاستعانة في آخر أيامها بكرسي متحرك.
نذرت الشنا حياتها للدفاع وبشراسة عن «الأمهات العازبات» في المغرب، وتحولت إلى رمز لكفاح النساء من أجل النساء في المملكة وفي العالم العربي. وعندما هدد متشددون الفاعلة الجمعوية عائشة بالتصفية الجسدية، قررت التوقف عن دعم ومساندة الأمهات العازبات بالمغرب، قبل أن تطرق بابها فاعلات حقوقيات رفضن رضوخها لضغط المتشددين، الذين توعدوها ونعتوها بالكفر وتشجيع الرذيلة. وفي العام ذاته، وتحديدا سنة 2000، جاء الرد من العاهل المغربي الملك محمد السادس، الذي منحها وساما ومساعدة مالية قدرها مليون درهم، ودعا السلطات إلى تسهيل مساطر العمل الاجتماعي حين يتعلق الأمر بمشاريع مدرة للدخل لفائدة الفئات الهشة. من جهتها، قالت الشنا إن هذا التوشيح هو اعتراف آخر بـ «العمل اليومي» لجمعية «التضامن النسوي» وبالقيم الإنسانية التي ناضلت من أجلها لأزيد من 50 عاما.
برحيل الشنا أو «ماما عيشة»، كما تناديها النساء اللواتي يلجأن إليها لطلب الحماية والمساندة، طُويت صفحة واحدة من أبرز الوجوه الحقوقية المدافعة عن حقوق النساء، سيما الأمهات العازبات وضحايا الاغتصاب اللائي وجدن فيها على امتداد ما يقارب أربعة عقود الحضن الدافئ الذي يحتضنهن ويحن عليهن في مواجهة نبذ ورفض الأسر والمجتمع لهن.
إيناس.. زوجة ليوطي التي أعلنت الحرب على التداوي بالكي والأعشاب
تعرفت إيناس دو بورغرانغ على الجنرال هيبير ليوطي في وهران الجزائرية سنة 1907، وكانت حينها أرملة فقدت زوجها الضابط العسكري. هذه الشابة الفرنسية التي كانت في مهمة بالجزائر، ضمن فريق للصليب الأحمر الفرنسي، حين عين ليوطي مقيما عاما في المغرب دعاها للاشتغال في الحقل الطبي بالمملكة الشريفة، وبعد خمس سنوات تم عقد القران بين هيبير وإيناس.
قضى الجنرال هيبير ليوطي ثلاثة عشر سنة كمقيم عام لفرنسا في المغرب، فيما قضت زوجته إيناس ثمانية عشر سنة في البلد الذي ظلت تصر على تسميته «مسقط القلب»، قبل أن تدفن في تربته في إحدى المقابر المسيحية بالرباط.
اشتغلت إيناس في المجال الطبي كأول أخصائية اجتماعية بمستشفيات المغرب، علما أن تكوينها الأساسي هو التمريض، لكنها مزجته بالعمل الإنساني في مصحات كانت وراء تشييدها إلى جانب زوجها المقيم العام، كما أشرفت على تكوين الرعيل الأول من الممرضات تحت لواء الصليب الأحمر الفرنسي، كما نظمت أول مخيم صيفي في بلادنا وكان في مدينة فضالة.
لعبت إيناس دورا كبيرا في علاج المغاربة، وعملت على محاربة ظاهرة «الكي» والتداوي بالأعشاب، ولم يحل مركزها كحرم المقيم العام من القيام بحملات طبية في ربوع الوطن، لتصبح رئيسة للصليب الأحمر الفرنسي، قبل أن تتحول هذه المنظمة بعد الاستقلال إلى «الهلال الأحمر المغربي».
في مذكراتها، تتحدث إيناس عن نضالها في المجال الطبي، وعن علاجها لكثير من المغاربة البسطاء، وعن خادمتها التي ودعتها بدموع حارقة، ومشاعر الحزن التي سيطرت عليها حين ركبت الباخرة رفقة زوجها عائدين إلى فرنسا، هناك أصبحت تعيش في المنفى بعد أن استبد المرض بزوجها، لكن السلطان مولاي يوسف ووارث سره محمد الخامس زاراها في باريس حين ذهبا لتدشين مسجد هناك.
بعد انتهاء وفاة زوجها ليوطي عام 1934، ومباشرة بعد عملية الدفن عثرت إيناس على وصية كتبها الجنرال لأرملته، فقرأتها أمام أفراد الأسرة، فوجئ الجميع بوصية دفنه في المغرب، وتبين أن الراحل قد هيأ قبل رحيله قبرين بالمغرب، أحدهما له والآخر لزوجته، وفي ثلاثين أكتوبر نقل رماد ليوطي ليدفن في المغرب بحضور إيناس، بينما دفن جثمانه في فرنسا.
في عام 1953، اشتد المرض بإيناس وقررت العودة إلى المغرب، وقبل أسابيع من وفاتها وشحها محمد الخامس بالوسام العلوي، كما تم توشيحها في سنة 1951، بالميدالية الذهبية لخدمة الطب العسكري بالدار البيضاء، ماتت في عز الاحتقان الشعبي المغربي، أسلمت الروح لباريها بعد سبعة أشهر عن نفي السلطان محمد الخامس، ودفنت في تربة البلد الذي أحبته.
عملت جمعية ليوطي التي يرأسها كولونيل سابق في الجيش الفرنسي، على تكريم إيناس وخصص لها حفل بمنظمة الصليب الأحمر الفرنسي، كما سعت الجمعية بكل ما أوتيت من جهد لأطلاق اسمها على مؤسسة صحية في المغرب، أو شارع أو زقاق بالبلد الذي أحبته، وافقت المجموعة الحضرية للدار البيضاء في الثمانينات على الملتمس دون أن يظهر اسمها على شوارع العاصمة الاقتصادية على الأقل في مصحة قريبة من ثانوية تحمل اسم زوجها.
ماري فويي.. قتلتها «الكوليرا» بتيفلت فحمل المستشفى العسكري اسمها
في كتاب بعنوان «مستشفى ماري فويي بالرباط»، يخصص الكاتب علي أخضار حيزا لممرضة فرنسية حمل المستشفى العسكري اسمها، من بين عشرات الممرضين والممرضات العاملين في هذا المرفق الصحي خلال فترة الحماية الفرنسية.
عاشت ماري في فترة زمنية دقيقة واكبت تقريبا الحقبة الاستعمارية، كما عاشت الحرب العالمية الأولى ميدانيا. فقد رأت النور في 30 ماي 1864 بمدينة «ريتيل» الفرنسية، تزوجت مبكرا عن سن 16 عاما، لكنها فقدت زوجها مبكرا، وعمرها لا يتجاوز 18 عاما، لتندر حياتها لتربية ابنتيها من زوجها الراحل، حيث أصبحت ممرضة رغم أنها نظرا لإصابة فلذتي كبدها بداء «بوحمرون»، لكن هذه الأرملة قررت أن تصبح ممرضة معترف بها من طرف الدولة الفرنسية.
بعد تخرجها، أرسلتها وزارة الصحة الفرنسية إلى مدينة وهران الجزائرية، حيث عينت سنة 1907 ممرضة رئيسة بالمستشفى العسكري لهذه المدينة، بعد مقام لم يتجاوز السنة الواحدة انتقلت رفقة فريق من الممرضات إلى المغرب بقرار من المقيم العام ليوطي كي تشرف على تأطير مجموعة من الممرضات في مستشفيات المغرب، وكان مقر عملها في بداية الأمر بالدار البيضاء قبل أن تنتقل للعمل في الرباط. ولأنها عرفت في الوسط الطبي بجرأتها وإقدامها على ركوب الأهوال واختراق المخاطر فقد منحتها الإقامة العامة الفرنسية وسام الشرف في شهر فبراير 1912.
في منتصف شهر غشت من السنة نفسها، كانت ماري في طريقها نحو مدينة مكناس، حيث كان لها لقاء تكويني بالمستشفى العسكري للمدينة، وفي طريقها إلى العاصمة الإسماعيلية صادفت أثناء توقفها في مدينة تيفلت انتشار داء «الكوليرا» وكانت الحرارة جد مفرطة، فقررت أن تنخرط مع الطاقم الطبي للمدينة في حملة بالمنطقة والمداشر لمدة أسبوع على أن تستكمل طريقها في الفترة المسائية، لكنها تعرضت لنفس الوباء ولم تنفع تحذيرات زملاءها الأطباء من التوقف عن عمل الإغاثة، إلى أن سقطت فتم حملها في سيارة إسعاف إلى جانب المرضى إلى مستشفى مكناس العسكري، وبعد ثلاثة أيام توفيت ماري وسط ذهول الجميع.
وفي المغرب، تقرر أن يحمل اسم المستشفى العسكري للرباط اسمها «ماري فويي» والذي أصبح المغاربة يطلقون عليه اختصارا اسم «ماريفي»، كما حمل المستشفى العسكري لوهران اسم هذه الممرضة.
مدام شابو.. طبيبة عاشت طريدة ودفنت بالجديدة
في مدينة الجديدة وبالقرب من مستشفى محمد الخامس، يتفرع عن شارع «باستور» زقاقان الأول يحمل اسم «أوجيني دولانوي» والثاني بمحاذاته لزوجها «بيار دولانوي»، ولأن باستور طبيب ودولانوي أسرة امتهنت الطب، فإن مجال المستشفى كان محاطا بأسماء رجالات الطب.
لكن فئة قليلة من سكان الجديدة تعرف أن «أوجيني دولانوي»، هي تلك الطبيبة التي عرفت في أيام الحماية الفرنسية بلقب «مدام شابو»، ربما لأنها كانت ترتدي دوما قبعة على رأسها، بينما يرى البعض أن اسمها الأصلي هو «شابو» وحين تزوجت من فرنسي قادم من جزيرة لارينيون نالت اسمه، إلا أن هذه الرواية ضعيفة.
رأت أوجيني النور في بولونيا وتحديدا في مدينة سوفالكي سنة 1887 بمنطقة توجد في الحدود ما بين روسيا وبولونيا. وانخرطت باكرا في مجال الكفاح ضد النظام القيصري في لجنة المدرسة الثانوية المقاومة التي كانت ترمي إلى تعزيز تعليم أبناء الطبقة المحرومة. وتوجهت إليها الأنظار بسبب نشاطها، وهي الشابة التي لا يتجاوز عمرها سبعة عشر عاما، فتتبعت الشرطة السياسية خطواتها، وأجبرتها على الفرار من روسيا نحو باريس، لدراسة الطب. تابعت دراستها بمونبوليي وكانت تقوم بالترجمات للحصول على قوتها إلى أن قدمت أطروحتها، حول موضوع حمى «التيفويد».
كتبت حفيدة «مدام شابو» سيرة، وهي الطبيبة التي ارتبطت وجدانيا بالجديدة، وقام الكاتب سعيد بلمبخوت بترجمتها تعميما للفائدة، حيث تروي قصة «ملاك الرحمة» التي اهتمت بصحة الجديديين وجعلت المركز الصحي الذي كانت تشتغل فيه والذي يسميه الدكاليون «سبيطار مدام شابو» مقصدا لهم في زمن كان من المستحيل عرض سيدة مغربية على طبيب «نصراني». أما زوجها الطبيب أيضا، فقد قضى أيامه متجولا على عربة تجرها الدواب بين دواوير ومداشر الناحية ليفحص الناس ويحقنهم بالأمصال الواقية من الأمراض والأوبئة.
خصص الكتاب فصلا لهذه السيدة تحت عنوان «سيدة مازاغان»، تحدثت فيه الكاتبة عن حياتها المهنية والخدمات الطبية والاجتماعية التي قامت بها ودورها في إنشاء جمعية «قطرة الحليب»، وعلاقتها بالسكان.
حكت الحفيدة نيلسيا عن سبب هجرة جدتها أوجيني إلى أمريكا بعد فصلها فجأة من هيئة الأطباء بسبب أصولها اليهودية، وعن المضايقات التي تعرض لها جدها بيار دولانوي، وتطرقت للمشاكل التي تعرض لها والدها الطبيب غي دولانوي الذي اعتبرته فرنسا خائنا لأنه كان يساعد المغاربة، فاضطر إلى مغادرة المغرب صوب الولايات المتحدة الأمريكية وتحديدا في ولاية كاليفورنيا إلى نهاية الحرب العالمية الثانية.
في عام 1945 عادت «مدام شابو» إلى المغرب من جديد. لكنها أصيبت بمرض في القلب ظلت تعاني من تبعاته إلى أن توفيت في عام 1951، فدفنت في مقبرة بمدينة الجديدة بناء على وصيتها.
راشيل.. يهودية دخلت مكتبة «الأعمدة» كمساعدة فحولتها إلى صرح ثقافي
ولدت راشيل عام 1933 في مدينة طنجة وسط أسرة يهودية عائدة من إسبانيا، عاشت طفولتها وشبابها بين حي مرشان وشارع «باستور»، حيث فتحت عينيها على المحلات التجارية والمقاهي العريقة في هذا الشارع الذي يعد من الشرايين الهامة للمدينة في عهد الحماية الدولية.
انخرطت مبكرا في العمل الجمعوي، وأصبحت عضوا في المنظمات الطفولية اليهودية، كما انضمت إلى الرابطة الفرنسية للأدب، ما دفعها للتردد على مكتبة لا تبعد إلا بأمتار عن مقر سكناها، «مكتبة الأعمدة» المعروفة في الوسط الثقافي باسمها الفرنسي «ليكولون». لم تكن هذه المكتبة تقتصر على بيع وتسويق الكتب، بل كانت تمنح لساكنة المدينة فرصة للاستمتاع بالقراءة في هذا الفضاء الثقافي بسعر بسيط. يذكر أهل طنجة حضورها المميز يوم 9 أبريل 1947 لاستقبال المغفور له محمد الخامس، وتحتفظ بصور هذا الحدث الذي تفتخر به في مذكراتها.
تقول مويال في مذكراتها «سنوات عمري في مكتبة دي كولون»: «مرة في 1973 عبرت الشارع لشراء كتاب سهل القراءة وحاجيات أخرى للاستمتاع بعطلتي على الشاطئ، ولكن دزينة من صناديق الكتب كانت قد وصلت للتو من فرنسا قد أوقفتني. كانت لموزعين عن دار غاليمار للنشر، هرعت فورا لمساعدتهم في إنزالها إلى جانب السيدة إيزابيل جيروفي». وتقول الكاتبة الفلسطينية وصال الشيخ في «سيرة مكتبة»، إن راشيل مسكت خيوط هذا الفضاء الفكري مباشرة بعد تقاعد مالكي المكتبة عائلة جيروفي البلجيكية عام 1976.
أصدرت مويال مذكراتها عام 2010، تضمنت نبض المشهد الفكري في فترة هامة من تاريخ المغرب. تقول مويال: «بعد 25 عاما مضت سريعا على وجودي في المكتبة، اكتشفت السعادة النادرة التي لبت عطشي في إيجاد التفسيرات الممكنة للأشياء واكتساب المعرفة».
حطمت المكتبة رقما قياسيا في المبيعات حين عرضت للبيع مذكرات الملك الحسن الثاني «التحدي»، كما شهد هذا الفضاء حفلات توقيع أشهر المذكرات خاصة للأدباء الذين عاشوا أو عبروا المدينة. «استقبلت في المكتبة أيضا أربعة ممن فازوا بجائزة غونكور: أمين معلوف، ديدييه فان كوليرت وفرانسوا وييرجونس، وامرأتين أكاديميتين هما: مارغريت يورسنار، وآسيا جبار»، كما استقبلت المكتبة الكاتب والموسيقي الأميركي بول بولز».
تقاعدت مويال من خدمتها عام 1998، ففقدت المكتبة بريقها وكادت أن تتحول إلى مخبزة، لولا مبادرة رجل الأعمال الفرنسي بيير بيرجي الذي أنقذها باعتبارها مشروعا إنسانيا، فعادت الحياة إلى الرفوف. في 27 يناير الماضي توفيت مويال وعرفت جنازتها أكبر حضور للأدباء.
مدام لوسيور.. نجلة مدير معمل الزيوت تتحول إلى رمز للعمل الخيري
كانت تسمى قيد حياتها سيموني، عرفت في العشرينيات من القرن الماضي بجمالها الساحر وكانت سباقة إلى عمل الخير والمشاركة في المبادرات الإنسانية، أقنعت والدها جورج لوسيور، مؤسس شركة زيوت المائدة التي تحمل اسمه، بتخصيص هبة عينية شهرية من الزيت والصابون للعمال المغاربة، وأقنعت والدها بخلق مصلحة اجتماعية في المصنع.
أغضبت تحركات سيموني الحماية العامة الفرنسية وطالبت والدها جورج بحث ابنته على تخفيض سرعتها في منعرجات العمل الخيري، خوفا من أن تمتد الأيادي البيضاء لنجلة الزيات إلى الحركة الوطنية، لكن البوليس الاستعماري الفرنسي لم يكن له علم بظهور أعراض حب على وجه سيموني، حيث نسجت علاقة عشق كاتم للصوت مع مدير انتدبه والدها للإشراف على مصنع الزيوت واسمه الكامل جاك لوميغر دوبروي، وفي عهده حقق المعمل أرباحا طائلة وعزز النوايا الخيرية لنجلة «الباطرون».
تقدم جاك لخطبة سيمون من والدها، وعلى الفور تم تطبيق المثل المأثور «زيتنا في دقيقنا»، وأقيم حفل زفاف في المصنع رقص فيه العمال وباركوا الزواج النضالي، وسط مخاوف البوليس السياسي الفرنسي الذي كان ينظر بقلق لهذه الزيجة، حاول عبثا ترويض «الكوبل» الوطني، لكن دون جدوى.
حصل ما لم يكن متوقعا، إذ على الرغم من مكانته الاجتماعية ونفوذه المالي، إلا أن جاك ظل مساندا للقضية الوطنية، مدعما لحركة المقاومة بأفكاره ومال زوجته لوسيور، مما جعله «عدوا» للمحافظين الفرنسيين الذين اعتبروا وقوفه إلى جانب الطرح المغربي خروجا عن النص.
في كتابه «جوانب من ذاكرة كريان سنطرال» يروي الباحث نجيب تقي، قصة لوسيور ودعم زوجها جاك للمشاريع الاجتماعية ومساهمته في بناء قرية سكنية لعمال الشركة بجوار المصنع بعين السبع تتكون من 300 مسكن، إضافة إلى مدرسة من بضع حجرات، حصل هذا في زمن كان فيه بعض السلفيين يدعون المغاربة إلى مقاطعة زيت «النصارى».
آمن مدير الشركة بالقضية الوطنية، بعد أن تكون لديه وعي واضح بالحالة المأساوية الذي كان يعيشها المغاربة، وأصبح يعلن جهرا مساندته للاستقلال من خلال اتصالاته بالأوساط السياسية، وفي الصحافة التي كان ينقل فيها أفكاره. اقترحت عليه زوجته مدام لوسيور إنشاء صحيفة، فزادت من غضب الإقامة العامة الفرنسية.
في مساء يوم السبت 11 يونيو 1955، تعرض جاك لوميكر للاغتيال، قرب مسكنه في عمارة الحرية، بالمكان الذي أصبح يحمل اسمه، تمت تصفيته برصاص فرنسي متطرف، وفي 14 يونيو دفن الرجل في الدار البيضاء، بعد مراسيم التأبين بكنيسة «القلب المقدس». قالت السلطات الفرنسية إن جاك مات منتحرا، وقال شاهد عيان إنه قُتِلَ، وظل التحقيق في القضية لسنوات، قبل أن يتبين أن الجريمة من فعل فاعل فرنسي.
ماتت سيموني لوسيور وتم تحرير سوق الزيوت وتعددت العلامات التجارية، ولم يعد أحد يذكر سيرة هذه السيدة وزوجها، باستثناء اسميهما في لوحة ساحة ومرفق إنساني.
ماريس.. طيارة حلقت في سماء وجدة محملة بمساعدات لتلميذات ثانوية البنات
تحتاج سيرة ماريس باستيي التوقف عندها للتأمل، في إصرار فتاة على ركوب التحدي مهما كان الثمن. فقد ولدت ماري يوم 27 فبراير 1898، في مدينة ليموج الفرنسية، وتوفيت في مدينة بورن يوم 6 يوليوز 1952، وفي رصيدها رقم قياسي في ساعات التحليق الجوي، كما أنها حطمت رقما قياسيا في تخليد اسمها، الذي أطلق على أكثر من شارع ومدرسة ومسرح ومدارس لتكوين فن الطيران.
ولدت ماريس في بيت صغير بزنقة «بومونت» في ليموج، وهو الزقاق الذي يحمل اليوم اسمها، عاشت حياة اليتم بعد وفاة والدها وعمرها لا يتجاوز عشر سنوات، ما حولها إلى يافعة صعبة المراس، خاصة بعد أن اختارت دخول عالم الشغل لمساعدة والدتها على تدبير لقمة العيش، حيث اشتغلت في مصنع صغير للأحذية. تزوجت مبكرا وعمرها لا يتجاوز 17 ربيعا، لكن زوجها سرعان ما توفي، فتعرفت حينها على طيار يدعى لويس يتحدر من مدينة تولوز الفرنسية، ومعه اكتشفت فن التحليق الجوي وأصرت رغم ضعف رصيدها الدراسي على الطيران.
ساعدها زوجها على دخول المغامرة، وفي شهر شتنبر من عام 1925 حصلت على شهادة الكفاءة المهنية في الطيران، وأمام استغراب لجنة الاختبار تمكنت من التحليق دون خطأ في أجواء مدينة بوردو الفرنسية، والأغرب أن تمارس تحليقا استعراضيا خلال الاختبار التطبيقي.
بعد عام واحد من حصول ماريس على شهادة الطيران، توفي زوجها الطيار برتبة رائد، في حادثة جوية خلال نزوله أرض المطار في ظروف مناخية مضطربة، حينها قررت المرأة الثكلى أن تخصص ما تبقى من حياتها لتكوين جيل جديد من الربابنة، لكن التجربة دامت ستة أشهر، قبل أن يتم إغلاق مدرسة التكوين في فنون الطيران، حينها قررت شراء طائرة خاصة بها تمكنها من التحليق متى شاءت، سيما وأنها أول فرنسية تمارس مهنة الإشهار من الجو، حيث كانت ترسل وهي فوق باريس قصاصات إشهارية ملونة، كما حطمت الرقم القياسي الفرنسي في عدد ساعات التحليق جوا والذي بلغ 37 ساعة، ما مكنها من الحصول على أوسمة ونياشين من الحكومة الفرنسية.
لكن حلمها الكبير هو إنشاء مدرسة لتكوين الطيارين، وهو ما تأتى لها في مطار أورلي، حيث أنشأت «مدرسة ماريس للطيران»، كما شاركت في الحرب العالمية الثانية وكانت تقطع المسافات بين باريس والجزائر أو الدار البيضاء كل أسبوع، لكنها كانت تتوقف في وجدة، المدينة التي نسجت معها علاقة مودة وحرصت على زيارتها كلما حلقت نحو الجزائر، بل إنها نظمت مبادرات إنسانية في ثانوية البنات بوجدة والتي حملت اسم «ماريس»، قبل أن يحصل المغرب على الاستقلال.
ساندت السجناء الفرنسيين المعتقلين في سجون ألمانيا، ما جعلها تتعرض لهجوم من طرق متطرفين ألمان أحدثوا بذراعها عاهة دائمة حالت دون قيادتها للطائرات، لكنها أصرت على التحليق فماتت في حادث جوي يوم 6 يوليوز 1952 بمطار ليون، ودفنت في باريس بمقبرة مونبرناس، وهي برتبة قبطان.
مؤطر
اسم فاطمة المرنيسي في ساحة عمومية بأصيلة
في سياق تكريس الطابع الثقافي لفضاءات أصيلة، أطلقت بلدية أصيلة أسماء شخصيات ثقافية وفنية وفكرية على شوارع وميادين في المدينة، مثل الفنانة والوزيرة الراحلة ثريا جبران، والكاتبة والباحثة الراحلة فاطمة المرنيسي، والكاتب الروائي الراحل محمد شكري، والفنان التشكيلي الراحل ميلود أبيض، وآخرين.
ماتت عالمة الاجتماع، فاطمة المرنيسي، في غفلة من الجميع أسلمت الروح إلى بارئها في إحدى مصحات ألمانيا، عن عمر يناهز 75 عاما. اختارت فاطمة أن تتقاسم مرضها مع الحد الأدنى من أفراد أسرتها، إذ ظلت تحرص على الظهور بمظهر السيدة الصامدة أمام عوادي الزمن، وهي تبتلع في صمت معاناتها مع المرض، بل إنها ظلت في عزلتها الطبية تتردد على المكتبات وتجالس عشيرة السوسيولوجيا من المفكرين العرب المغتربين في ألمانيا، وتخطط لمشاريع علمية، كما التقت ببعض الفاعلين الجمعويين وعرفتهم بمبادراتها الجمعوية، «قوافل مدنية»، مصرة على ضرورة دعم جهود إثبات المرأة لذاتها وتحررها من هيمنة المجتمع.
قبل السفر إلى أوربا، أصرت الراحلة فاطمة المرنيسي على القيام بجولة دراسية في الجنوب الشرقي للمغرب، أياما قبل وفاتها، حيث توقفت في إقليم تنغير وزارت دوار تملالت ببومالن دادس، حيث حلت ضيفة لدى الفنانة التشكيلية «ملال»، التي كتبت فاطمة عن تجربتها.
قبل أن تغادر المرنيسي القرية وتحجز تذكرة ذهاب بلا إياب إلى ألمانيا، تذكرت السجل الذهبي، وخطت في بيت التشكيلية الأمازيغية، كلمات أشبه بالوصية الأخيرة إلى بنات جنسها، تتحدث فيها عن مفهوم السندباد التواصلي.