نذر أدهى من أخطار ترامب
صبحي حديدي
نُذُر الأخطار التي تحيق، اليوم، بالديمقراطية الأمريكية في صلب مكوناتها الكبرى، وبمعزل عن الاتفاق أو الاختلاف حول مصداقيتها الشعبية الفعلية؛ لم تعد تقتصر على أنساق الأذى التي يلحقها بها سلوك دونالد ترامب، سواء من موقع الرئيس الأمريكي الحالي أو من كونه مرشح الحزب الجمهوري، باتت معروفة، ويندر أن يضاف إليها كشف جديد، مواقفه التشكيكية إزاء التصويت عبر البريد، أو حجب هذا الحق عن فئات معينة من المواطنين؛ وإصراره على تحويل المحكمة العليا إلى متراس محافظ، لا يكرس فلسفات قانونية بالغة التشدد والرجعية إزاء سلسلة من الحقوق المدنية الجوهرية فحسب، بل يبطل قوانين مركزية حول الصحة والتأمين الاجتماعي تمس حياة الملايين من الأمريكيين.
ولعل ذروة إيحاء ترامب بإمكانية تعطيل الديمقراطية الأمريكية، أو حتى الانقلاب عليها عبر مؤسسات مثل المحكمة العليا ومجلس الشيوخ، هو تملصه من تعهد قطعي بتأمين الانتقال السلمي للسلطة في حال خسارته الانتخابات؛ الأمر الذي يتمسك به، أيضا، نائبه مايك بنس وعدد من كبار أتباعه الموالين في الكونغرس. ولم تكن جلسات الاستماع التي عقدتها اللجنة القضائية في مجلس الشيوخ لإقرار تعيين إيمي كوني باريت في المحكمة العليا، بدل القاضية الراحلة روث بيدر غنسبورغ، سوى الكاشف الأوضح على مقدار الانحطاط الذي أصاب هذه اللجنة تحديدا، وما يعنيه من انحطاط مماثل أكبر ضرب مؤسسة الكونغرس ذاتها في نهاية المطاف.
فإذا كان من حق أي رئيس أن يختار عضوا للمحكمة العليا تتلاءم فلسفته القانونية مع عقائد الرئيس وحزبه، فإن اللجنة القضائية ذاتها، التي يملك الجمهوريون الأغلبية فيها، كانت قد حجبت هذا الحق عن الرئيس السابق باراك أوباما، بذريعة أنه لا عضوية جديدة في المحكمة العليا خلال سنة انتخابية. ما فعله ترامب، وتسابق الجمهوريون في السير خلفه، لم يقتصر على تعيين قاضية هي نقيض القاضية الراحلة في مسائل حقوقية حاسمة مثل الإجهاض وحمل السلاح والتصويت ومناهضة قانون أوباما حول الضمان الصحي؛ بل أعلن صراحة أن تحويل كفة المحكمة لصالح المحافظين (والجمهوريين استطرادا) بمعدل 6 مقابل 3، إنما يستهدف احتمال وصول الخلاف حول الفائز في انتخابات 2020 الرئاسية إلى المحكمة العليا.
ولقد بدا المشهد أقرب إلى مسرح فاضح، يعكس انقلاب أعضاء اللجنة القضائية على أقوالهم السابقة حول محظور استكمال المحكمة العليا خلال السنة الانتخابية، أو بالأحرى أثناء إجراء الانتخابات فعليا في نحو 40 ولاية، عدا التصويت بالبريد، كما هي الحال هذه الأيام. وهؤلاء لم ينقلبوا على أنفسهم، وناقضوا مواقفهم قبل ثلاث سنوات فقط، بل سفهوا سوابق تاريخية لرؤساء جمهوريين كبار رفضوا هذا الإغراء، على غرار ما فعل أبراهام لينكون دون سواه. أكثر من هذا، وإذ تجنب الأعضاء الديمقراطيون في اللجنة القضائية مساءلة باريت حول تأثير كنيستها الكاثوليكية على آرائها القضائية، تعمد الأعضاء الجمهوريون الاستغراق في مساجلات مسهبة من طرف واحد، حول حرية الاعتقاد الديني في الولايات المتحدة!
وكان الباحث الاجتماعي، ماثيو ماكوليامز، قد قرأ استطلاعات رأي 358 من ناخبي الحزب الجمهوري في ولاية كاروليينا الجنوبية، حول العامل الأكثر تأثيرا في دوافع أنصار ترامب، فاتضح أنه ليس الجنس أو العمر أو المستوى التعليمي أو الإيديولوجيا أو الهوية الحزبية، أو حتى الباعث الإنجيلي كما يظن البعض؛ بل هو تبجيل السلوك التسلطي الذي يتعبد السلطة وخرافة التفوق العرقي. كذلك استخدم ماكوليامز معايير كلاسيكية في الاستجواب، أفضت إلى نتائج سلوكية معيارية بدورها: الخوف من «الآخر»، والاستعداد بالتالي للسير خلف زعيم قوي، ورؤية العالم بمنظار ثنائي أسود/ أبيض، والتمسك بما يفرزه هذا المنظار من تصنيف للصديق/ العدو…
وهكذا فإن أطروحات الجمهوريين في اللجنة القضائية ليست سوى مرآة أمينة لتلك النذر الأدهى، بكثير ربما، من أخطار سلوك ترامب.