نحنُ و«استخبارات» فرنسا
المكاتب السرية لإدارة استعلامات فرنسا في المغرب كشفها تقرير الكولونيل «بيريو» في ماي 1918
«منها الشؤون الأهلية، والشؤون الفرنسية. مراقبة المغاربة والفرنسيين وكل من يتحرك. في ماي 1918، كان مدير الاستعلامات الفرنسية في المغرب الكولونيل «بيريو» مطالبا بالحديث أمام صحافة بلاده وسياسييها، عن الطرق التي يشتغل وفقها ضباط الاستعلامات الفرنسية. إذ إن الفرنسيين أرادوا أن يعرفوا أكثر عن الخطة التي تريد بها فرنسا حمايتهم، أثناء وجودهم في المغرب، بينما كان المكتب في الحقيقة يرعى مصلحة فرنسا أولا، ثم الفرنسيين.
الاستعلامات الفرنسية لعبت دورا كبيرا في إدارة الشأن السياسي في المغرب.. وهذه ملامح منسية من زمن المخبرين وضباط الاستعلامات، الذين كان مجرد ذكر أسمائهم، على طريقة الأفلام الأمريكية والفرنسية التي تناولت عوالم الدار البيضاء وفنادقها ومقاهيها، كافيا لفض المجالس، وفرض الرقابة على الذات».
يونس جنوحي:
+++++++++++++
«البيرو».. مكاتب «حاول» الفرنسيون حكم المغرب من خلالها
في ماي 1918، جلس الكولونيل الفرنسي السيد «بيريو» على الكرسي الرئيسي فوق المنصة، كانت القاعة التي تحتضن «الندوة» تقع بمكناس.
المدينة وقتها كانت تعيش على إيقاع رتيب، لكن تتخلله بين الفينة والأخرى أحداث «غير سارة»، من قبيل الاعتداء على فرنسي في الشارع، أو محاولة رشق عربة مواطنين فرنسيين بالحجارة، وهي في طريقها إلى مكناس. حوادث من هذا القبيل، لكنها لم تكن ترقى إلى عمل منظم ضد فرنسا، مثل ما كان الأمر عليه في القرى والمداشر والقبائل التي رفعت راية «الجهاد» ضد كل ما هو أوروبي.
لماذا كان مدير الاستعلامات العامة والشؤون المحلية الفرنسية في مكناس؟
السبب أن هذا المدير كان يريد التواصل مع الفرنسيين من أبناء بلده، لكي يخبرهم عن بنية جهاز الاستعلامات الفرنسية في شكله الجديد بالمغرب.
حيث جاء في نص الكلمة التي ألقاها أمام فرنسيين، بينهم إداريون وعسكريون وصحافيون ومواطنون فرنسيون عاديون، أن مصطلح «مصالح الاستعلامات» يبقى كلمة حديثة، بمعايير سنة 1918، وأنها تعتبر الأولى من نوعها، حيث جرى تجريبها في كل من تونس والمغرب في الوقت نفسه.
الجزائر كانت تخضع لسياق استعماري آخر، بينما كان الأمر في المغرب يتعلق بمحاولة لسيطرة أمنية استباقية، وجمع تقارير تتفاوت بين ما هو محلي وبين ما هو أوروبي، خصوصا لوجود جاليات أوروبية أخرى.
يقول الكولونيل «بيريو» إن الاستعلامات العامة عندما تأسست في المغرب، فإنها تقسمت على مكاتب في عدد من المدن مثل الدار البيضاء، مراكش، مكناس، وأكادير. حيث أنشئ مكتب رئيسي في الرباط، أطلق عليه: «مقر لإدارة للشؤون المحلية»، إذ تولى موظفو هذا المكتب مراقبة البرنامج العسكري في المغرب، حيث تولى ضباط الاستعلامات دراسة كل ما هو سياسي واقتصادي واجتماعي أيضا في العلاقات المغربية الفرنسية، من وجهة نظر سياسية. كما وضعت قائدا عسكريا جهويا أوكلت إليه صلاحيات واسعة، من بينها الإشراف على الاستعلامات. وهذا ما يسفر عن وجود كولونيل على رأس إدارة الجهاز.
حسب هذا التقرير، فإن ضابط الاستعلامات الفرنسية يفترض فيه أن يقوم بثلاثة أدوار، أولها عسكري، والثاني سياسي، والآخر إداري.
وهذا يعني أن ضباط الاستعلامات الفرنسية كانوا يقومون بأدوار ثلاث مصالح سيادية فرنسية، وكانوا يجمعون بين ثلاث إدارات حيوية. وهو ما كان يعني أنهم كانوا موظفين «فوق العادة».
لكن أين كانت تكمن خطورة هؤلاء الضباط؟ يقول الكولونيل «بيريو» إن المهمة الكبرى لهؤلاء الضباط، هي تمشيط المناطق التي يتم إخلاؤها عسكريا، بعد إخضاعها للعلم الفرنسي. إذ كانت العادة، خصوصا خلال فترة 1918، أن يتم تشييد ثكنة وتعيين فريق عسكري في كل منطقة تسيطر عليها القوات الفرنسية. لكن لا أحد من هؤلاء العسكريين كانوا يعلمون أن بينهم ضابطا للاستعلامات مهمته نقل المعلومات عن المنطقة، بما فيها المعلومات عن الأعيان والوضعية الاجتماعية للسكان والتجسس على الوطنيين كبار الشخصيات، بمن فيهم التجار والأثرياء الذين كان بينهم «محظوظون» يتمتعون بامتيازات «المخزن»، وهؤلاء بالضبط كانوا محور اهتمام الاستعلامات.
لكن أهم ما أورده هذا الكولونيل في تقريره في ماي 1918، ما يتعلق بشروط انسحاب «المخبر» أو الضابط الذي يشتغل في الاستعلامات الفرنسية. إذ إن الكولونيل وضع شرطا لا نقاش فيه أمام كل ضابط يريد الانسحاب من عملية تجسس أو مراقبة، وهو أن يقدم تقريرا مُرضيا يتضمن النتائج التي تحصل عليها. لا «مخبر» ينسحب إذا لم يحقق النتائج المرجوة، كان هذا هو الوجه الآخر لعمل الاستعلامات الفرنسية في المغرب، والتي لم تتكن تتساهل حتى مع ضباطها، لكنها كانت كريمة جدا مع المتعاطفين معها في المغرب، كما سوف نرى في هذا الملف.
نحنُ و«استخبارات» فرنسا
ينقل أرشيف الاستخبارات الفرنسية، معلومات عن مخبرين وضباط اشتغلوا في المغرب وأعدوا تقاريرهم. لكن أبرز عملية اشتغل عليها ضباط الاستعلامات الفرنسية في فترة حرجة من تاريخ المغرب، أي قبيل انتهاء مهام هذا الجهاز سنة 1955، وتوقيع الاستقلال، وانسحاب وحدات الاستعلامات العامة التي حافظت على هيكلتها القديمة منذ سنة 1918، تلك التي تتعلق بمصير واحد من أقرب المقربين إلى شخصية محمد المعمري، المرافق الدائم للملك الراحل محمد الخامس. إذ إن هذه العملية كانت من بين أبرز العمليات التي اشتغلت عليها مكاتب الاستعلامات بالرباط.
ويذكر تقرير أمني يعود إلى ربيع سنة 1955، أن الموظف محمد المعمري الذي أتم عقده الثالث وقتها، كان قد تقدم بطلب إلى السلطات الفرنسية لتسهيل الإجراءات الإدارية أمامه، لكي يفتتح مشروعا خاصا به في مدينة الدار البيضاء، في ما يشبه تقاعدا من مرافقة المعمري خلال المهام الرسمية التي كان يشغلها في المغرب، باعتباره مستشارا فوق العادة في القصر الملكي بالرباط.
وقبل أن يضع طلبه، كانت السلطات الفرنسية قد توصلت بتقارير من الاستعلامات العامة الفرنسية في الدار البيضاء، تقول فيها إن قريب مرافق الملك محمد الخامس يقوم بأنشطة مشبوهة في الدار البيضاء والرباط، ويبذل مجهودا خرافيا لكي يقنع أحد الأثرياء الفرنسيين، بأن يبيع إليه ضيعة فلاحية كبيرة تقع بين الدار البيضاء والجديدة، وتطل على المحيط الأطلسي. إلى هنا بدا الأمر عاديا، فمن حقه أن يلج عالم المال والأعمال، لكن التقرير يذكر إشارة مهمة وهي أن قريب المعمري مُفلس تماما!
وأنه في الوقت الذي كان يلح في طلب المعمر الفرنسي لكي يفوت له تلك الهكتارات من الأراضي الممتازة، سبق له في الأسبوع نفسه أن طُرد من حانة في قلب الرباط، لأنه لم يكن يملك ثمن ما شربه.
وهنا انتبهت عناصر الاستعلامات العامة التي كانت مزروعة في كل مكان، إلى أن قريب الحاج محمد المعمري قد يكون يعد لعملية نصب معينة. وهكذا تم استدعاؤه للتحقيق معه، بل وتم تهديده بترحيله إلى خارج المغرب نهائيا، إذا ثبت أنه كان ينوي القيام بعملية نصب على المعمر الفرنسي.
أثناء التحقيق معه اعترف بأنه كان ينوي القيام فقط بدور الوساطة لفائدة ثري فرنسي كان يستقر في الجزائر، لكن المحققين لم يصدقوا هذه الرواية. فجل المعمرين الفرنسيين مع نهاية شهر شتنبر 1955، كانوا يفكرون في النجاة بجلدهم والفرار نهائيا من المغرب، وليس توسيع أعمالهم ومشاريعهم داخله.
لا أحد علم في ما بعد النهاية التي آل إليها قريب المعمري، الذي كان أقوى من وزير وأقرب إلى الملك محمد الخامس من مستشار. لكن ما عرفه الرأي العام وقتها، أن الملك محمد الخامس عندما عاد من المنفى لم يكن الحاج المعمري معه.
ولكي نفهم الأمر جيدا، فإن الحاج المقري، الذي كان رئيسا للوزراء أيام الملك محمد الخامس قبل المنفى، كان أيضا جزائري الأصل، لكن اسمه كان في أعلى لائحة الذين انتقم منهم المغرب بعد عودة الملك محمد الخامس من المنفى، وصودرت ممتلكاته كلها في المغرب ووجهت إليه تهمة الخيانة، ولم يعد إلى المغرب نهائيا. في حين أن المعمري لم يتم تداول اسمه نهائيا، في أوساط الوطنيين والرأي العام. عاد الملك محمد الخامس من المنفى، ولا أحد تساءل عن مصير مرافقه الدائم منذ بداية الأربعينيات، ولا عن مصير ممتلكاته في المغرب.
أول عناصر المخابرات الفرنسية التي حلت بالمغرب
كانت قد جاءت في مهمات للتجسس على جنسيات أوروبية أخرى، خصوصا خلال الحرب العالمية الأولى. إذ إن سنة 1914 كانت فارقة جدا في تاريخ العلاقات المغربية الفرنسية. سنتان فقط على الحماية، والسلطان مولاي يوسف كان قد وقع اتفاقيات يحتفظ بموجبها بصلاحيات توقيع الظهائر، بينما الجيش الفرنسي كان يتوغل في المغرب، خصوصا نواحي الأطلس.
وكانت القوات العسكرية الفرنسية تحل في جنوب مدينة أكادير للتوغل جنوبا، في الوقت نفسه الذي تدور فيه رحى الحرب العالمية الأولى، حيث كان الألمان يتربصون بفرنسا.
هؤلاء الجواسيس الفرنسيون كتبوا تقارير عن تحركات ألمانية في المغرب، من بينها أزمة الغواصة الألمانية التي رست في أكادير وهددت فرنسا بالقيام بعمل عسكري، وتم حل الأزمة بالجلوس إلى طاولة المفاوضات.
اندلعت حرب الجواسيس بين الألمان والفرنسيين، ووصلت «شظايا» منها إلى المغرب. إحداها تلك التي تتعلق بوفاة عميل ألماني في مدينة طنجة، حيث اتهمت ألمانيا عملاء فرنسيين بالوقوف وراء الاغتيال. والحقيقة أن الإقامة العامة الفرنسية في المغرب، كانت تتوفر على مكتب استعلامات في مدينة طنجة، كان يشتغل في أوج نشاطه خلال فترة الحرب العالمية الأولى، حيث عمل على مراقبة ممثلين دبلوماسيين ألمان بطنجة، باعتبارها منطقة دولية، وأيضا لمراقبة حركة الملاحة ومرور البواخر العسكرية المقاتلة من مختلف الجنسيات، حيث كانت ترسو في طنجة للتزود بالمؤونة.
كانت المقاهي فضاء لاشتغال هؤلاء المخبرين الفرنسيين الذين كانوا يشتغلون لصالح الاستعلامات الفرنسية، حيث تشير بعض التقارير التي تعود إلى سنة 1918 إلى أن الاستعلامات العامة الفرنسية، والتي كانت تعتبر من أعرق الأجهزة الأمنية بأوروبا، راقبت بعض الشخصيات الألمانية والبريطانية في طنجة، ورصدت اتصالات بين القناصة والممثلين الدبلوماسيين لدول عظمى، خلال فترة الحرب العالمية الأولى، وجندت أيضا شخصيات فرنسية وأخرى جزائرية، للعمل في عاصمة البوغاز كمخبرين دورهم التجسس على شخصيات مغربية أيضا، سيما الأعيان المغاربة الذين ربطوا اتصالات مع الدبلوماسيين الألمان مثل الحاج غرنيط، الذي عرف كأحد المغاربة الأوائل الذين حصلوا على الحماية الألمانية في مدينة فاس بعد سنة 1903. وكانت الاستعلامات العامة الفرنسية قد رصدت وجود تنسيق بين شخصيات مخزنية مغربية، مثل الحاج غرنيط، والحاج مكوار، وشخصيات دبلوماسية ألمانية، خصوصا المشرفين على البعثة الألمانية التي كان مقرها في قلب مدينة طنجة، لكي يحظوا باتصال مع «المخزن» أيام المولى يوسف، وهو ما كان يخشاه الفرنسيون بحكم أن ألمانيا خلال الحرب العالمية الأولى كانت لا تضيع فرصة، لكي تعلن عن مواقف عدائية للسياسة الفرنسية في شمال إفريقيا. وعلى خلفية هذه التوترات، ازدهر عمل الاستعلامات العامة الفرنسية بالمغرب.
مخبرو الاستعلامات العامة الفرنسية، على عكس بعض التقارير التي تعود إلى ثلاثينيات القرن الماضي، والتي تجمعها الصحافة الفرنسية، لم يكونوا من الهواة، بل كانوا من خيرة الضباط الفرنسيين الذين تألقوا في فترات التدريب العسكرية، وتم اختيارهم بعناية لكي يذهبوا في مهام سرية إلى المغرب، حيث اشتغلوا لصالح الاستعلامات العامة، سيما بالدار البيضاء وطنجة.
الدار البيضاء.. وكر «الجواسيس»
على طريقة الأفلام الغربية، كان مخبرو وضباط الاستعلامات العامة الفرنسية يشتغلون في الدار البيضاء، خصوصا خلال سنة 1918، التي تطرق إليها الكولونيل «بيريو»، الذي كان مديرا للشؤون المحلية ومصالح الاستعلامات بالمغرب.
هؤلاء المخبرون والضباط كانوا يصلون عبر ميناء الدار البيضاء، والذي كان وقتها أحد أحدث الموانئ المطلة على المحيط، ونقطة عبور أساسية للسفن الفرنسية صوب الغرب والجنوب الإفريقي.
كان هؤلاء المخبرون والضباط يتبعون الطريقة التقليدية، حتى لا يثيروا الشبهات. يأتون من طنجة في اتجاه الدار البيضاء بحرا، لأنهم لم يكونوا يضمنون سلامتهم الجسدية في حالة العبور برا، بحكم أن الأجانب كانوا مُستهدفين في مختلف المناطق التي قاد زعماؤها حربا ضد الوجود الفرنسي في المغرب، رغم توقيع معاهدة الحماية.
كانت الدار البيضاء تعرف وجودا كبيرا للجالية الإسبانية إلى جانب الفرنسيين، وقلة فقط من الإنجليز الذين لم يكن لديهم حضور كبير في المدينة وقتها، بحكم أن معاهدة الحماية بين فرنسا والمغرب وضعت حدا للطموح البريطاني، وبقي حضورهم مقتصرا في المنطقة الدولية بطنجة.
كان طبيعيا أن تنشر فرنسا قوات أمنية في الدار البيضاء، لتجنب سيناريو مشابه لما وقع سنة 1907، حيث استهدف تمرد محلي الجالية الفرنسية في المدينة، وأدى إلى مقتل المئات في يوم واحد فقط. وكان شعار فرنسا بعد توقيع معاهدة الحماية، ألا تتعرض جاليتها في المغرب لأي سيناريو مشابه، خصوصا وأن الحكومة الفرنسية كانت تشجع مواطنيها على المجيء إلى المغرب. لكن هل كانت الاستعلامات العامة الفرنسية فعلا تجند عملاءها للسهر على حماية أمن الفرنسيين بالدار البيضاء؟
من خلال بعض التقارير المتعلقة بفترة وجود «الكولونيل بيريو» في المغرب، فإن الاستعلامات العامة كانت ترعى مصالح الدولة الفرنسية بشكل أكبر، أكثر مما كانت تهتم بالسلامة الجسدية لمواطنيها.
إذ عندما يتعلق الأمر باعتداء على مواطن فرنسي، يتدخل الأمن الذي بدأ ينشئ نواته في الدار البيضاء، ويحال الملف على الشرطة بشكل عادي، حتى لو كان الأمر يتعلق بوفاة مواطن فرنسي، حيث يجري البحث عن منفذ الهجوم. بينما إذا كان الأمر يتعلق بمعلومات بخصوص أنشطة مشبوهة لقوات أجنبية، أو اتصالات بين مغاربة وجنسيات أخرى، أو اتفاق يتعلق بميناء الدار البيضاء، الذي كان يعتبر وقتها قطبا اقتصاديا الأول من نوعه بإفريقيا، فإن الموضوع يتحول إلى مكتب الاستعلامات العامة، ويتولى العملاء، خصوصا سنة 1918، عند انتهاء الحرب العالمية الأولى، مسألة التحقيق في تداعياته وأسبابه. إذ إن فرنسا كانت متخوفة من أي تدخل أجنبي آخر في المغرب، سيما وأنها كانت مثل بقية دول أوروبا، منهكة من تداعيات الحرب العالمية الأولى وبالكاد ترمم صفوفها في المغرب، خصوصا وأن التمرد ضد فرنسا في منطقة الأطلس، وانتشار العصيان المسلح في مختلف أقاليم المغرب ضد الإقامة العامة، كلها عوامل جعلت الاستعلامات العامة تبقى متيقظة، لتهتم أكثر بموضوع المناجم التي كانت فرنسا تشيدها نواحي مكناس والحاجب وصفرو، نزولا صوب الريش ونواحي الجنوب الشرقي على الحدود الجزائرية. وكانت الاستعلامات العامة مهتمة بمعرفة تفاصيل دقيقة عن تقدم العمل في تلك المناجم، وجمع معلومات عن القبائل والشخصيات التي تقودها والتأكد من ولائها، وتصنيفها حسب علاقاتها مع القياد، الذين كانوا موالين لفرنسا أو ضدها.
وكل هؤلاء العملاء على الأرض، كانوا ينتشرون في الحانات والفنادق والمقاهي بالدار البيضاء، للاحتكاك بشخصيات مغربية، خصوصا الوطنيين منهم ورجال الأعمال المغاربة الأوائل الذين شاركوا الفرنسيين في شركات تجارية، مثل عائلتي بنجلون والتازي. حيث نزحت هذه الأسر الثرية التي تمثل الأعيان المغاربة، من فاس صوب الدار البيضاء بحثا عن مستقبل أفضل. وكان ضباط الاستعلامات العامة الفرنسية يتجسسون عليهم ويجمعون معلومات عن أنشطتهم وخلفياتهم وصداقاتهم، ويرفعونها إلى مكتب الرئيس، الذي يحولها بدوره إلى مصالح المخابرات في باريس، لتكون قاعدة بيانات عن النخب المغربية التي بنت اقتصاد الدار البيضاء، والأهم، لكي تضمن أنهم لن يخرجوا أبدا عن الطوق الذي رُسم حولهم.
المهدي اعبابو.. الاستعلامات العامة راقبت صديق السلطان سنة 1920
عندما كان الرهبان الفرنسيون يرابطون في كنائس ودور للعبادة، والتي لا يزال بعضها قائما إلى الآن في مدن مغربية عديدة، كان ضباط الاستعلامات الفرنسية يكتبون تقارير عن الأعيان المغاربة.
الصحافة الفرنسية التي تعود لعشرينيات القرن المنصرم، كانت تستنكر بعض عمليات الاعتداء على رجال دين فرنسيين في شمال إفريقيا، خصوصا وأن مجازر ارتكبت في حق الرهبان بالجزائر، خلال الفترة الاستعمارية. إلا أن المغاربة كانوا يؤمنون أنه لا يجوز الاقتراب من دور العبادة أو تدنيسها بالحروب، لذلك كان الرهبان الفرنسيون يشتغلون بأريحية في المغرب، ومنهم من ربط صداقات متينة مع المغاربة، مثل دير صفرو الذي اشتهر بكونه كان ملجأ للأيتام المغاربة.
في هذا السياق، كانت الاستعلامات العامة الفرنسية تراقب الشخصيات المغربية التي ترى أنها سوف تكون مؤثرة في المغرب، خلال السنوات التي تلت عشرينيات القرن الماضي.
ففي 1918، تاريخ التقرير الذي تلاه الكولونيل «بيريو»، كان هناك اهتمام بالشخصيات المغربية التي كونت صداقات مع الفرنسيين. حيث قال هذا الكولونيل عند تلاوته للتقرير، إن المغاربة أصبحوا أصدقاء لفرنسا، وإنهم لم يكونوا موضوع شبهات لدى المصالح الأمنية. لكن الحقيقة أن التقارير التي كانت ترفعها الاستعلامات العامة الفرنسية بخصوص الشخصيات المغربية، كانت تراقب كل جوانب حياتها وعلاقاتها مع الفرنسيين خصوصا.
ولم تكن مصالح الاستعلامات ترى أي خطر في رصد علاقات بين هذه الشخصيات، ومنها موظفون مخزنيون سابقون أعفاهم المولى يوسف من مهامهم، بسبب تهم تتعلق بالمسؤوليات المخزنية التي زاولوها، أو عداوات مع رجال المخزن الذين كانوا بجانب السلطان مولاي يوسف دائما، وبين الشخصيات الوطنية التي كانت تعارض الوجود الفرنسي في المغرب. بل كانت تعتبر تلك العلاقة صحية.
لكن المثير أن الاستعلامات العامة الفرنسية راقبت أصدقاء السلطان، وأبرزهم المهدي اعبابو.
هذا الأخير كان صديق دراسة المولى يوسف، وأصبح منذ سنة 1912، مستشارا قويا في الدولة وبلغت قوته حد التحكم في تعيينات الوزراء، بحكم أن السلطان منحه صلاحيات واسعة لتمثيله وفتح الحوار مع القياد والباشوات.
انتبه الفرنسيون إلى قوة المهدي اعبابو، خصوصا أنه كان يحظى بشعبية كبيرة جدا في مدينة الدار البيضاء خلال تلك الفترة ويتحكم في تعيينات القضاة، وكان تأتي إليه الشخصيات المخزنية الكبيرة، لأنها كانت تعرف قربه من السلطان شخصيا لكي يحل مشاكلها، ويتوسط لها لدى السلطان، سيما الشخصيات التي تم إعفاؤها بسبب التقصير في المهام، وهذا ما جعل المهدي اعبابو يراكم ثروة كبيرة، ويصبح صديقا مقربا لكبار الشخصيات الفرنسية في المغرب.
التقارير التي تناولت حياة المهدي اعبابو و«أسراره» أيضا، لم يتطرق إليها تقرير الكولونيل، لأن إثارة اسمه المهدي اعبابو سنة 1918 كانت مصدر حساسيات، بحكم أن بعض ضباط الاستعلامات اتهموا في الصحافة الفرنسية بأنهم كانوا يحاولون التقرب منه.
لكن حقيقة علاقة المهدي اعبابو بالفرنسيين توضحت أكثر سنة 1927، عندما جاء السلطان محمد بن يوسف خلفا لوالده الراحل، وأجرى إصلاحات جذرية في أجهزة الدولة ووضع حدا لقوة وهيمنة المهدي اعبابو، فتدخلت فرنسا بكل ثقلها لدى القصر الملكي وطلبت من السلطان الشاب محمد بن يوسف أن يعفو عن المهدي اعبابو، حتى أن الإقامة العامة الفرنسية دفعت مبلغ الغرامة ضد اعبابو كاملا وأبعدته عن دائرة العقاب. وهنا، طرح المغاربة أكثر من سؤال حارق بخصوص علاقة اعبابو بمكتب الاستعلامات العامة الفرنسي، وحقيقة ما إن كان متعاونا مع الجهاز، أم مجرد مصدر من مصدر معلوماته.
هكذا كان «مُخبرو» الخمسينيات وراء اغتيالات الوطنيين
هناك تقارير يجمعها أرشيف المقاومة وجيش التحرير، والتي صدر بعضها في سجل تجميعي لمجموعة من المحاضر الفرنسية، حيث جرت ترجمتها إلى العربية، لتكون بمثابة تجميع للأحداث وتأريخ لها، وأيضا لكي تكون دليلا على الممارسات التي قامت بها الآلة الأمنية والعسكرية الفرنسية في المغرب. والتي لم تكن تشتغل خارج دائرة تحكم الاستعلامات العامة، التي كانت في منتصف الخمسينيات، قد قطعت شوطا مهما من مرحلة الاشتغال في المغرب، وراكم ضباطها ومُخبروها تجارب «مغربية» لا تحصى..
خلف ضحايا كثر.
جرت موجة من الاعتقالات، وسُحب عدد من الشبان من داخل المظاهرات، وتم اختطافهم، بتعاون مع مخبرين مغاربة يتولون مهمة توجيه الأمنيين إلى الأشخاص المشكوك في انتمائهم إلى المجموعات المسلحة، أو تزعمهم للمظاهرات.
الذريعة التي قدمت في الإعلام الناطق بالفرنسية، كانت تقول إن بعض «الفوضويين» تم اعتقالهم حتى لا تتجه الأمور إلى الأسوأ. وبرر الأمن الفرنسي فعلته بالقول إنه كان يحمي المظاهرات من بعض العناصر «التخريبية»، بناء على معلومات أمنية توصل بها البوليس من طرف «الاستعلامات العامة» تؤكد أن بعض الأطراف السياسية والتنظيمات السرية المسلحة، كانت تخطط للركوب على المظاهرات السلمية، وتنفيذ بعض عمليات التخريب في الشوارع الكبرى التي كانت تمر منها المظاهرات.
كان المغاربة، في العموم، يعلمون أن البوليس الفرنسي لا يتردد في استعمال الرصاص الحي. وهذه النقطة وحدها كانت موضوع خلاف كبير بين مكونات المقاومة في المغرب. إذ إن بعض عمليات المقاومة تسببت في مقتل أبرياء مغاربة، أكثر مما استهدفت متعاونين مع الحماية الفرنسية.
لنأخذ على سبيل المثال واقعة توضح إلى أي حد كانت بعض مكونات المقاومة، تقدم هدايا إلى الحماية الفرنسية، لكي تبرر موجة الاعتقالات والتجاوزات.
في السابع من شتنبر، مع تمام الساعة الحادية عشرة صباحا، تم اعتقال 12 شابا مغربيا، ووجهت إليهم على الفور تهمة التحريض على العنف، وضبطت بحوزتهم منشورات تدعو إلى التظاهر.
الواضح أن التظاهر فعل مستقل تماما عن العنف، لكن فرنسا كانت تجمع كل شيء في سلة واحدة، وتشير بأصابع الاتهام إلى خلايا التنظيمات السرية للمقاومة، وتتهمها بالركوب على جميع الأحداث، واستغلال جميع التجمعات لارتكاب أفعال «إجرامية» ضد المواطنين الفرنسيين، أو المغاربة المندمجين في السياسة الفرنسية.
تهمة أخرى وجهت إلى هؤلاء الشباب، تتمثل في تبييت نية إضرام النار في منشآت فرنسية وممتلكات لمعمرين فرنسيين مستقرين بالمغرب.
من خلال المحاضر المتوفرة في الموضوع، لم يعترف أحد من أولئك الشبان بأي عملية إضرام نار، لكن التهمة بقيت تلاحقهم، بل وحوكموا بها وتمت إدانتهم بالحبس النافذ لعدة أشهر في السجن المركزي، بسبب المنشورات التي ضبطت معهم، والتي كانت تدعو إلى التظاهر.
وهكذا يتضح أن الإقامة العامة الفرنسية، رغم تعاقب شخصيات مدنية وسياسية على المسؤوليات داخلها، إلا أنها في الأخير كانت تتحرك بإيعاز من تقارير الاستعلامات العامة الفرنسية، حيث كان توقيع RG كافيا لبث حالة من التأهب الأقصى داخل كل الإدارات الفرنسية، حتى العسكرية منها.