ميلادا سعيدا أيها الزلزال
ذكرى زلزال أكادير لا يمكن أبدا أن تمر مرور الكرام. التاسع والعشرون من فبراير، كان دائما ولا يزال محطة أليمة بالنسبة للذين ارتجت حياتهم خلال الثواني القليلة التي حلّ فيها زلزال أكادير تحت المدينة ليحولها إلى ركام.
بعد غد (الاثنين) سيكون زلزال أكادير قد بلغ 56 سنة من العمر، ويكون بذلك قد شاخ، لكن روحه الشابة لا تزال ماثلة في أذهان الذين عاشوا الزلزال لحظة بلحظة، ورأوا الأهوال التي حوّلت مدينة كانت تضج بالحياة إلى كومة من الإسمنت والحديد، وكائنات تائهة تبحث عن يد أب تحت الركام أو سرير رضيع ربما يكون على قيد الحياة.
جولة حالية في مدينة أكادير لا تدع مجالا للشك بأن المدينة قد أصابها زلزال آخر. فنادق فاخرة ومطاعم مصنفة، يهش أصحابها الذباب، ولا أحد يتجول بين الكراسي إلا الرياح، بعد أن كان المكان يعج بسياح من كل الجنسيات تقريبا. ورغم أن الشمس هناك لا تزال على حالها والبحر على وعده أيضا، فإن أحدا ما أخلف وعده مع التجديد وخوض المنافسة مع المدن السياحية الأخرى عبر العالم للإبقاء على الضيوف.
في أكادير تُشرب القهوة على مهل، وتمتد الشوارع إلى ما لا نهاية. يتجول الكسل بين إقامات الأغنياء وأحيائهم، فيما يخرج الفقراء من بين أنقاضهم وتجمعاتهم لاستقبال الشمس القادمة من وراء البحر. في أكادير، يأتي البحارة المغامرون بحثا عن زوجة يضمونها إلى بقية الزوجات اللواتي ينتظرنهم عند كل ميناء.
في أكادير يتجول السياح فوق الرمال، ويضعون لبعضهم مرهما حتى لا تحرقهم الشمس، ولاكتساب السمرة أيضا.. يتجول بينهم أمازيغي لم تفلح الشمس طوال سنوات كثيرة في تحويل لون بشرته إلى اللون الأسمر. الشمس هناك لا تلفح أبناءها.
تتراقص الحياة في محل لبيع المجوهرات، مطل على البحر الممتد إلى ما لا نهاية، ويأتي صوت المذيع كسولا وكأنه غاضب على كل أولئك الذين يسمعون نشرة الأخبار في الهواء الطلق. في أكادير، كل دقيقة تقضيها داخل البيت تعد وقتا ضائعا من عمرك.
عندما زارها الزلزال كانت أكثر من مدينة، كانت قصصا رمضانية تنتظر وقت السحور في أولى ساعات التاسع والعشرين من فبراير 1960. هب نسيم قوي، تلته أصوات عنيفة جعلت العائلات الجالسة أمام البحر، والسيارات الزرقاء الكلاسيكية وملصقات السينما، تحس بأن شيئا ما غير عاد في الطريق إلى أكادير. سمع الناس أصواتا قوية، وحل الظلام، وانتهى كل شيء.
جاءت الدولة، والدولة العميقة، والجيش، بحثا عن الناجين تحت الأنقاض. جاء الفلاحون الطيبون من القرى حيث أشجار الأركان، بالمعاول لتسريع عمليات البحث، وجاء النصابون والنشالون بحثا عن «دُرج» المال بين أنقاض المحلات والمنازل.
قد يروي لك طفل بعمر الخمسين، كيف أنه رأى أمه أمامه فوق الأرض، تئن تحت عمود إسمنتي ثقيل، يعيق حركتها، وكيف يأتي سارق متجول بين الأنقاض، وينزع منها الحلي والدمالج دون أن يفكر حتى في إنقاذها.
لحسن حظ أكادير أن عناصر الجيش الذين شاركوا في عمليات الإنقاذ من تبعات الزلزال، كانوا قد تكونوا عسكريا بين فظاعات الحربين العالميتين الأولى والثانية، وهكذا تعاملوا بقسوة مع الذين تورطوا في السرقات، وكانت لديهم تعليمات من رؤسائهم، بإطلاق النار على كل الذين ينقبون ليلا في الأنقاض بحثا عن أموال الموتى.
اغتنى بعض الفقراء في رمشة عين، وأصبحوا من كبار الملاكين والتجار، واستطاعوا أن يتصالحوا مع أنفسهم ويؤسسوا حياة لهم على أنقاض الآخرين، وبنوا لأنفسهم حياة جديدة بعد الزلزال المدمر. هؤلاء لا يحسون اليوم بدفء الشمس، ولا يميزون زرقة البحر.. لقد ماتوا عندما توقف الزلزال.
لا أحد يتذكر الزلزال أكثر من بناية السينما التي تشبه برميلا مغروسا في الأرض، لأنها البناية الوحيدة التي نجت من الزلزال المدمر. يتسلقها اليوم أبناء الفقراء المشاغبون بأجسام عارية مبتلة بماء البحر، بينما يفكر بعض وحوش العقار في هدمها وتحويلها إلى مشروع عقاري مربح. أليس عارا في حق زلزال تصالح معه الناس وأصبحت ذكراه حنينا بعيدا لأصوات الأقارب وضيوف المدينة، الذين جاؤوا إليها بحثا عن الحياة ليدفنوا أحياء تحت الركام، أن يتم طمس شهوده إلى الأبد؟ هناك أشياء يحترمها الزلزال شخصيا، لكن لا يحترمها البشر.