كل من كان يزور ضريح سيدي بوغالب، كان يلاحظ كثرة القطط التي تجوبه، وكان هناك من يعقد مقارنة بينها وبين الأشخاص الذين اشتهروا بمواظبتهم على زيارته بانتظام كيفما تكون أحوالهم وظروفهم، ومن هنا جاء المثل الشعبي الشهير: «على من يحب سيدي علي بوغالب، أن يحبه بقططه».
بما أن العائلات كانت معتادة أن تقصد الأضرحة لتترجى منها تحقيق أمنياتها، فقد اقترحت زميلة في القسم على أختي ليلة الامتحان النهائي لنيل شهادة التعليم الابتدائي، أن نطوف نحن الثلاث على بعض أضرحة فاس، لكي نتضرع إلى الله تعالى ونطلب منه أن يرزقنا النجاح. كنا قد وافقنا بطبيعة الحال، وقصدنا الضريح الأقرب إلى منزل جدتنا، ضريح مولاي عبد القادر الجيلالي.
كنت أحب هذا الضريح الذي يشبه منزلا صغيرا. إضافة إلى ذلك، وجدناه شبه خال من الناس، ربما لأننا دخلنا إليه في ساعة مبكرة من الصباح. كان الاستقبال الذي خصتنا به المسؤولة عن المكان حسنا، لكن هذا التأدب سرعان ما سينقلب إلى صلافة شديدة، لما خرجنا دون أن نضع نقودا في الصندوق المخصص لجمع التبرعات. قد قالت لنا بكل وقاحة: «لقد أزعجتن راحتي من أجل لا شيء. في المرة القادمة، لا تأتين لزيارة الولي إلا وأنتن مصحوبات بأولياء أموركن».
حين قصصت الواقعة على أمي، ردت علي: «لا يجب أن تُشَكِّكُنَّ أقوالها في قدسية الولي. قد تكون فقيرة. لا تذهبن مرة أخرى دون شخص كبير إلى الضريح. هناك قبور يرقد فيها موتى يتعين عليكم احترامهم». كنت مضطرة أمام هذا التنبيه إلى أن أوكد لها قائلة: «اطمئني أمي، لم نزعجهم البتة». في نهاية المطاف، اضطررنا أن نقلع عن زياراتنا.
لم يكن عدد الأولياء بفاس كبيرا وحسب، بل كانوا ذوي أهمية في حياة المدينة، وذوي مكانة خاصة في قلوب الجميع، لدرجة أنه وعلى الرغم من كونهم موتى، كنا نلبسهم كسوة تدعى كسوة السيد أو كسوة الولي.
الضريح الأكثر ترفا
موشى بخيوط الذهب من كل حوافه، بدا لي ضريح مولاي إدريس حين زرته أول مرة إبان الموسم أجمل الأضرحة وأبهاها. ففي كل سنة، كان بعض المتطوعين يطوفون بالكسوة الجديدة التي سيتم إهداؤها إلى الولي في الأحياء الرئيسية للمدينة.. كنا ننتظر ونراقب مرور هذا الموكب باهتمام كبير.
كان الأطفال، وهم يتبعونه من الخلف يخلقون أجواء من النشاط والحيوية والحركة لا مثيل لها. كان المنشطون للعرض يتمايلون حين يرقصون. ولكي يتم استقبالك داخل الضريح، كان يتعين عليك أن تدخل رأسك تحت تلك الكسوة الثقيلة جدا. في إحدى المرات، تتبعت مسيرة هذا الطقس رفقة أمي، فكدت أختنق. عندما رأتني أمي على تلك الحال، قالت لي بكل حنان: «عليك بتلاوة بعض الدعوات.. ركزي بترديد بعض الابتهالات، وستشعرين بأنك على أحسن ما يرام».
صليت كثيرا في داخلي، لكني لم أشعر بأي نور يغمرني كما قالت أمي، ومع ذلك، كان يعزيني عن غياب هذا الخشوع، أن لي حبا قويا لله سبحانه وتعالى. كم شعرت بالراحة، وأنا أسمع صوت المسؤول عن الضريح يدعونا بأدب إلى أن نخلي أمكنتنا للأشخاص الآخرين الذين ينتظرون دورهم للدخول. كان إحساسي بتفاني الجميع، يجبرني أن أحافظ على قواعد السلوك والاحترام، وأن أظل ملتزمة بالطقوس والأجواء. كان واضحا أن كل أولئك المريدين القادمين بكثرة من كل جهات المغرب يعتقدون اعتقادا راسخا ببركة الولي وقدرته على تحقيق أمانيهم.
عندما خرجت من تحت ذاك الغطاء الكثيف الثقيل، رمقت والدتي تبدو عليها مخايل الراحة والطمأنينة. فتوجهت رفقتها في خضوع تام، حيث أمرنا المسؤول نحو صندوق مدهش كبير الحجم لا يقارن بحصالة النقود الصغيرة التي أملكها بالبيت. وضعت أمي ورقة نقدية في فتحة ذاك الصندوق، ثم اقتعدنا مكانا قصيا بين النساء، في القاعة الضيقة المخصصة لهن. حسب ما شرحت لي والدتي: «ذاك المال سيذهب للاعتناء بالضريح وبالفقراء والمحتاجين من نسل الولي».
مهام إدارة الأحباس
لكن والدي سيقدم لي لاحقا معلومات إضافية: «صيانة وتطهير وتأهيل الأمكنة المقدسة هي من صميم مهام إدارة الأحباس. فهي تنفق عليها بفضل مواردها من الوقف، الذي هو مؤسسة دينية إسلامية تعني تخصيص إيرادات ممتلكات يتم رصدها من طرف أشخاص ذاتيين، وتكون غير قابلة للتفويت، لأجل صرفها في أوجه الخير. هذا العطاء، الذي تستفيد منه مؤسسة دينية أو مؤسسة تحظى بصفة النفع العام، يستمر حتى بعد وفاة الواقف.
لم تلبث أمي، التي كانت تستمع إلى حديثنا، أن أضافت: «الكل يقول إن مدينتنا مسكونة على طولها وعرضها بالأولياء والصالحين. عددهم كبير جدا، وهو ما يضفي عليها بركة استثنائية، ويفسر أيضا لماذا كانت فاس منذورة دائما للازدهار، سواء في الماضي أو في المستقبل. إن خلاص سكانها مرهون بالتزامهم بالمسار العظيم الذي اختطه لهم أسلافهم من الأولياء والثقات والعارفين. يتعين علينا فقط أن نتشبع ونتشرب تلك القيم التي قاموا بسنها لنا».
ولكي لا نتيه كثيرا عن ضريح مولاي إدريس، أتذكر أن أمي، وبمجرد التحاقها بالنساء، أصرت على أداء بعض الصلوات. رأيت يومها نساء أخريات يعلقن أقفالا أو يعقدن قطعا من الثوب على سياج إحدى النوافذ المطلة على ضريح الولي. وفق رواية والدتي، ستعود هؤلاء النساء مرة أخرى إلى المكان لكي يفسخن تلك العقد بعد أن تتحقق أمنيتهن، ويسترجعن أقفالهن، دون نسيان دس بعض النقود الرنانة في ذاك الصندوق، الذي كان أشهر من نار على علم بمدينة فاس. كنت قد سألت أمي حينها إن كانت بدورها قد سبق لها تعليق قفل مثلهن؟ أجابتني بكل شفافيتها المعهودة: «بالطبع، وقد لبى الله طلبي، لكني فقدت مفتاح القفل. على أي ليس ذلك بالأمر الخطير».
رددت عليها بذكاء: «لكن قفلك يحتل مكانا يمكن أن تحتاجه الأخريات». لكنها طمأنتني أنه دائما سيوجد مكان لأقفال جديدة. بعد ذاك اليوم، صرت كلما عدت في زيارة الضريح، إلا واستوثقت إن كان هناك فعلا مكان آخر لأقفال أخرى. كنت خائفة جدا أن يجلب تصرف أمي لعنة قد تحل عليها. لكن هذه المخاوف التي أصبحت شبيهة بالوسواس لدي، لم تكن لتعبأ بها هي، فدائما ما كانت تزداد سكينة ودعة ورضى، كلما تخطت برجليها أحد الأبواب المهيبة لذاك الضريح.
كانت قاعة النساء ممتلئة على الدوام حتى خارج أوقات الصلاة. سأفهم متأخرة أن ترددهن الكبير عليها، كان بسبب اعتبارهن لها مكانا مفضلا للقاءات.
في الواقع كانت الأماكن التي يمكن أن تتفسح فيها النساء قليلة جدا، لذلك كن يقصدن الأضرحة مجبرات أكثر مما كن يقصدنها زائرات أو متبركات. للأسف أن الفضاءات المخصصة لهن كانت أضيق بكثير من تلك التي تعود للرجال.
بالنسبة إلى شخصي الصغير، كنت منجذبة بالأساس إلى الضوء الباهر الذي يأتي من الفناء الكبير المفتوح على السماء، والمزدان في وسطه بنافورة جميلة من الرخام الأبيض المليئة بالماء البارد. كانت هذه النافورة تستهويني، وتجعلني أحس بصفاء داخلي كبير، بل وتحلق بي في أجواء روحانية ملؤها الطهر والنقاء. كنت آنذاك لا أجيد التغزل في تلك النافورة فقد كنت بعد طرية العود، لا أستطيع تجريد المشاعر التي تنتابني. لقد أثرت في لدرجة أنني ألححت على عمي بنسالم، الذي كان معتادا على المجيء إلى القرويين، كي أصحبه قبل الفجر وأؤدي معه صلاة الصبح هناك.
من كثرة تردد عمي بنسالم على تلك الأمكنة الروحية، ولأنه كان فقيها فضلا عن كونه تاجرا، فقد تطوع ليكون إماما بالقرويين مقتديا بجدي. هذا الجامع الأسطوري، الذي كان يتحول إلى مزار أو إلى جامعة بين مواقيت الصلاة، كان يتميز بكونه لا يضم أي ضريح بين جوانبه، رغم أن الآلاف من العلماء والأولياء كانوا قد ترددوا عليه على مر القرون طلبا للبحث والدراسة والتحصيل. لقد كان جامع القرويين الجامع الذي لا محيد عنه في تلك الفترة لكل من يريد العلا بطلب العلم.
تجربة زيارة مولاي إدريس قبل الفجر
ذات يوم، كان فيه كل أطفال العائلة متوثبين ومتأهبين لخوض التجربة الفريدة التي تمثلها تأدية صلاة الصبح قبل الفجر بمولاي إدريس، سنرافق عمي بنسالم إلى هناك.
خرجنا من المنزل، وكأننا بعثة ضمن مخيم للأطفال، أو كوماندوس مكلف بمهمة فدائية، اجتزنا اليد في اليد الأزقة التي كانت مضاءة بالكاد من واد رشاشة، كرنيز، سيدي موسى، باب المعرض، ثم قمنا باللف على الضريح لنصل في النهاية إلى باب دخول النساء إلى ضريح مولاي إدريس. لم نكن في الحقيقة نمشي، بل كنا نجري لنلحق بالصلاة في ميقاتها. كانت تلك السرعة تتضافر مع الخوف القابع بداخلي ليرفعا معا من نبضي، ومع ذلك أحجمت عن الشكوى حتى لا أتهم بكوني الحلقة الأضعف في المجموعة. تركنا عمي لوحدنا نحن البنات عند باب النساء، واصطحب الذكور معه، إذ كان لهم وحدهم الحق في حضور الصلاة بمعيته. فوجئت لفعلته حتى أنني ناقشته بكل جرأة في ما بعد بخصوص ما اقترفه بحقنا، كان جوابه لي غير مقنع بالمرة: «لا يمكنني فعل شيء مختلف: يجب الفصل بين الذكور والإناث». استغربت معقبة: «لكنك تركتنا لوحدنا، كنت خائفة جدا، لم يكن هناك ولو قط يتيم ليؤنس النساء، كما أن الضوء كان خافتا، لقد حاولت أن ألحق بك، لكن أختي منعتني». كان جوابه الأخير مقنعا: «لا يجب عليك أن تخافي في أي مزار، وخصوصا مزار مولاي إدريس، حتى الجنود الفرنسيون لم يجرؤوا يوما على اقتحامه. هل تعرفين أن الوطنيين حين تضيق بهم السبل يحتمون ببركة هذا الولي، لكي يتفادوا الاعتقال؟».
كنا قد درنا من جديد حول الضريح وجلسنا إلى طلوع النهار ننتظر عودة عمنا. لم أستسغ أبدا هذا الفصل المفروض بالجامع، وإلا لماذا نحن نصلي معا رجالا ونساء في المنزل؟ كان يكفي أن يحتل الرجال الصفوف الأولى، بينما كنا نحن الأطفال أحرارا تماما في اختيار الموقع الذي يحلو لنا، حتى أنه كان بإمكاننا أن نتقدم الجميع!
كنت قد نفيت إلى أعماقي تلك المشاعر المتناقضة، التي خلقها لدي تفاني المريدين وتهافتهم وإخلاصهم في خدمة الولي، وتلك التساؤلات المحيرة التي دارت بذهني عن مفهوم البركة الذي لم أستطع يوما أن أجد له معنى أو تفسيرا علميا، لأن كل الأولياء الذين كنا نزورهم كانوا بالنسبة إلي موتى، إلى أن حكى لنا أحد أساتذتنا عن حياة مولاي إدريس، المؤسس التاريخي للمدينة التي هي مسقط رأسي. منذ ذاك الحين وأنا أكن له إجلالا بالغا نابعا من تقديري لإنجازاته العظيمة. فرحت كثيرا بهذا الاستنتاج، لأني في هذه المرة بنيت قناعتي على أساس عناصر ملموسة، وبناء على وقائع تاريخية حقيقية قد وقعت بالفعل.
كانت أكبر ميزة لهذا المزار هي كرم ضيافة مسيريه، إذ كان بوسع الأطفال أن يلعبوا بجانب النساء كما يفعلون في الفناء، دون أن يتعرضوا لأي مضايقة من أي شكل. كنت غالبا ما أنضم إليهم لكي أتنفس الصعداء وأستشعر بدوري ولو نزرا قليلا من الحرية الكاملة. وكنت كلما جريت داخل أرجاء هذا المكان، كلما أكتشف قاعات أخرى أكثر وأكبر، أو لأقل أنها كانت تبدو لي كبيرة في تلك السن الطفولية. كنت أنبهر بالخصوص بجمال المكان المخصص للوضوء، حتى أني لم أتردد لحظة واحدة أن أفعل كما يفعل الرجال. رفعت أكمامي وقمت مثلهم بغسل كل أطرافي. شعرت بالتأثير الروحي لانسكاب تلك المياه المنعشة، وهي تبلل مسام جلدي وتنعشها، لكن فجأة سيخرج علي مسؤول آخر للمكان تعلو شفتاه ابتسامة، مؤنبا إياي على فعلتي. مع ذلك أذكر أنه توجه لي بلطف قائلا: «هذا المكان مخصص حصريا للرجال، فلا تعودي إلى هنا صغيرتي»، لكني شاكسته مجيبة: «من فضلك أين يوجد إذن المكان المخصص للنساء؟».
وعوض أن يدلني عليه، إذ به يسخر من سذاجتي طالبا مني بحزم هذه المرة المغادرة. لم أفهم مغزى ضحكته المستهزئة، إلا بعد أن طفت مرة أخرى كل المزار باحثة عن مكان وضوء ذاك الجنس المستضعف المسمى نساء، دون أن أجده. لم يكن هناك مكان وضوء لهن، رغم أن القاعة المخصصة لصلاتهن كانت دوما مكتظة بالمصليات.
لم أكترث للمنع الذي طالني من طرف ذلك المسير، إذ إني خرقته مرارا وتكرارا. فعند كل مرور لي عبر مولاي إدريس، كنت أدخل لأنتعش بذاك الماء السحري الخارق، متخذة بعض الاحتياطات كي لا أصادفه في طريقي. لكن ما كل مرة تسلم الجرة، حيث لم يتأخر كثيرا كي يمسك بي ويهددني بأنه سوف يعرضني في المرة القادمة للعقاب الوخيم. ومنذ ذاك الوقت، أصبحت أتخوف منه، فصار أقصى ما أستطيعه أن أمر جنب هذا المكان الذي خصص حصريا للرجال.
سنوات بعد ذلك ستجف المياه، التي كنت أظنها سحرية، لنبع باب اللوفا الملاصق لذاك المكان. حمدا لله أنني لا أتطير، وإلا لكنت حسبت نضوب ذلك الماء ثـأرا ربانيا أو عقابا أنزله الرب بكل أولئك الظلمة من الرجال، الذين حرموا النساء من أمور تبدو لي إلى الآن أنها كانت من بديهيات حقوقهن.