موعد الوظيفة
جهاد بريكي
كثيرة هي المواعد التي ننتظرها، وأكثر منها تلك التي نتمنى عدم مجيئها. حياتنا ملخصة بين موعد نعيشه وآخر ننتظره وآخر أضعناه. وتبقى المسافة الفاصلة بين موعدين كنزهة لطيفة نعرف أن شتاء عاصفا سيليها. موعد الولادة وموعد الطبيب وموعد المدرسة وموعد الجامعة، وموعد الحب وموعد الفراق.. إلى أن ننتهي بانتهاء مواعدنا.
يومها كانت تحمل كل تاريخها بين يديها وتنتظر شهاداتها الدراسية وخبراتها العملية في شركات لم تدفع لها فلسا مقابل شهور من التدريب كانت تعمل فيها كحمار الطاحونة، ورسائل تزكية من أساتذة ومدراء، وشهادات تقديرية لعملها التطوعي في دار عجزة الحي الذي تسكنه، لم يكن تطوعا بالقدر الذي كان متنفسا تهرب إليه حيث كل شيء بسيط ولا مبال.
كان موعدا انتظرته لسنوات طويلة، انتظرته منذ أن صرخ والدها المتقاعد في وجهها مساء أحد كئيب: متى سأسترد شيئا مما أنفقته على دراستك؟ يومها كانت تحلم بالدكتوراه، بعد ذلك المساء صارت تحلم بوظيفة. بتنورة بنية تتجاوز ركبتها بسنتمرات قليلة وقميص وردي مائل للحزن كلون الأفق خلال شهر خريفي بارد. جلست في القاعة تنتظر. الحصول على هذا الموعد كلفها كثيرا من التقشف، فواتير الهاتف الذي كانت تضع سماعته في أذنها صباح مساء، ومواصلات تأخذها وتعيدها، تصادف فيها رجلا طيبا يوصيها بالصبر والمثابرة، وآخر يبتسم ببراءة ثم يحاول لمس فخذها. صوت الكاتبات الفارغ من كل عاطفة يأتي من الهاتف فيصيب أذنها بالرعب، تهاونهن في أخذ كلامها على محمل الجد، هي تبحث عن وظيفة تعيد لها الحياة وهن يطلبن منها الانتظار إلى أجل غير مسمى. مرة سألت إحدى الكاتبات إن كانت تفهم ماذا يعني البحث عن وظيفة، صمتت برهة وأغلقت الخط في وجهها. لقد تحلت بكل الصبر والثبات والتعقل اللازم لتحصل على هذا الموعد. استعدت له كجندي سيخوض حربه الأولى، صففت شعرها بتأن شديد ووضعت حمرة على شفتيها تبعث على الثقة وتطرد صفرة الأشباح عن وجهها. خرجت ذلك الصباح وكل مفصل من مفاصل جسمها يهتز، لم تكن بها حمى ولا رعشة. كانت مرتعبة. ستقابل رئيس شركة ما، ومجلس إدارته. شركة تختص في مجال لا يمت لتخصصها بصلة، لكنها تحررت من عقدة التخصص ولا معنى لتخصص تجلس به في البيت، بينما يمكنها أن تعمل أي شيء آخر. ستقوم بما يطلبونه منها ولن تعترض، المهم الوظيفة، هذا ما أقنعت نفسها به. الموعد أخذ منها أشياء كثيرة، الهدوء والسكينة، ومنحها أشياء أخرى، الكوابيس والهلع. يومها كانت كريمة مع نفسها فعرجت على محل للوجبات السريعة طلبت رغيفا حشته بزبدة وقليل من العسل، وكأسا من القهوة الممزوجة بكثير من الحليب، أكلت حتى أرعبتها هذه الشهية المتفجرة. في طريقها كانت تحدث نفسها كعادتها إلى أن لمحت زميلتين لها ممن واصلن حلم الدكتوراه تمران بالقرب منها دون أن تنتبها لها، فخرست. الحذاء العالي الذي ارتدته حولها من طالبة لا مبالية إلى موظفة مرهقة. تعمدت عدم التحديق بهما، والتركيز بموعدها المهم. ولأن العقل من الخونة المسالمين، يكفي أن تقرر عدم التفكير بشيء محدد حتى يجبرك بقوة وحزم على أن لا تفكر بسواه. أجفلت لدقائق لا تتذكر عددها، تفكر كيف تحول موعدها الأهم، من موعد مع مقعد في مدرج الدكتوراه إلى موعد مع مقعد الوظيفة. استغربت كيف يمكن للإنسان تغيير مواعده المصيرية كما يغير جواربه. شعرت حينها بمعنى كلمة اعتادت على استخدامها ساخرة، وهي العبث، لم تحس يوما بكلمة تتلبسها كجني عاشق، كما شعرت الآن، لقد غدت هي نفسها واحدة من مرادفات هذه الكلمة. ثم ابتسمت كملك منتصر فقد نصف شعبه. عندما تبتسم الأنثى لحلم ضاع، تصبح الأحلام بعدها مجرد ترف لا ضير في غيابه. كانت المسافة التي قطعتها لتصل إلى مقر الشركة كافية لتعيد إليها جميع ما حاولت تجاوزه ونسيانه، بداية بحلم طفولي شهي كلقب الدكتورة، ونهاية بحب أشعلت له كل جوارحها فأهرق فوقها دلو ماء بارد أخمد نيرانها الحمراء. كررت جمل والدها على مسامعها حتى لا تتوانى في غايتها، جمل تمنت لو أن زلزالا ضرب البلد أو إعصارا فتك بالعالم ثانية قبل أن تنطلق من فم أبيها، كيف يمكن أن يكون الأب الوالد هو نفسه الشخص الممعن في الأذى؟ كيف ستستطيع أن تفرق بين حبها لأبيها الذي أنجبها وأبيها الذي سل سيفه وقسمها نصفين متنافرين، نصف يجري لموعد الوظيفة ونصف مازال متعلقا بحلم مجهض؟
«لن أنتظر أكثر، يجب أن تعيدي لي ولو جزءا مما بذلت لأجلك، حتى الزواج لم يطرق بابنا شخص يستطيع تعويضنا على ما فات، كلهم من عينتك أعمت الكتب عيونهم فارتدوا نظارات بحجم الرغيف، لا تظني أني صامت رضى بما تفعلين، لكني اعتقدت أنك بكتبك الكثيرة هذه تفهمين وستستوعبين أنك ما عدت طفلة، لستِ في ملجأ تديره الأمم المتحدة، أنا هنا أنفق مالي، على الأكل والشرب واللبس والدواء والفواتير. جدي لك حلا، وظيفة، زوجا، حرفة لا يهم، المهم أن تتحركي.. ثم ما شأني أنا بأوراق وكتب لا تقيني شر الجوع».
الانتظار بارد جدا، وتحديدا عندما يحمل معه تقرير المصير، برودته أصابتها بالتوتر. ثم حان الموعد، تتقدمها الكاتبة بمشية متراخية وبين يديها تاريخها في ملف أزرق، ومن ورائها أب ينتظر وأفواه جائعة. تدخل باب الصالة، ترى رجالا بربطات عنق أنيقة، ونظارات تلمع، يتفحصون مظهرها ومشيتها. تضع الملف أمامهم ورقبتها بين أيديهم، وتبتسم.