شوف تشوف

الرأي

مواجهات لم توقف السيل

مع أنه لم يقد طائرة في حياته، فقد كان ولعه بالطائرات كبيرا، يثير الدهشة والتساؤل، فقد خرج من إحدى مغامراتها هالكا. إنه الجنرال محمد أوفقير الذي فكر يوما في تحويل اتجاه طائرة كانت تقل الملك الحسن الثاني، لدى عودته من قمة نواذيبو التي جمعته إلى الرئيسين الموريتاني المختار ولد دادة والجزائري هواري بومدين.
كان ذلك في خريف 1970، وكان الجنرال على متن الطائرة، حين فكر أن يضع مسدسه على رقبة ربانها، ويفرض عليه تغيير وجهته نحو الرباط إلى مكان آخر. بيد أنه لم يفعل ذلك في آخر لحظة.
وعزا فكرته إلى أن الملك الحسن الثاني كان في أمس الحاجة إلى أخذ قسط من الراحة. وقال لمن حاوره في الموضوع، ويعتقد أنه مؤرخ المملكة السابق عبد الوهاب بن منصور. أن ليس هناك طريق أنجع من هذه لحمل الحسن الثاني على الابتعاد قليلا عن متاعب مهنة الحكم.
لم تكن المرة الأولى والأخيرة التي راودت فيها الجنرال فكرة إعاقة اتجاه الطائرات. فقد عقد العزم يوما على إسقاط طائرة كانت تقل العقيد الليبي معمر القذافي عند عبورها الأجواء المغربية. والحال أن مغامرته مع الطائرة الملكية العائدة من باريس لا تحتاج إلى أدلة إضافية.
لهذا السبب وغيره سيقر الحسن الثاني لاحقا أن بعض مساعديه المقربين لم يكونوا يجرؤون على الكلام في قضايا لها علاقة بتصرفات الجنرال. إما خوفا من بطشه الذي لا يستثني أحدا، وإما تهربا من مواجهة تفرض عليهم مصارحة الملك في حضور جنراله المتنفذ.
في رواية أن الحسن الثاني نادى يوما على الجنرال أوفقير، ووجه إلى صدره سهما قاتلا، من دون أن يطلقه، قال له وقد توقف قليلا، وهو في طريقه لأن يمتطي القطار المتوجه من الرباط إلى طنجة: أسمعت ما يقوله الدكتور عبد الكريم الخطيب؟ ثم أردف برباطة جأش من يذهب نحو مصيره مفتوح العينين: إنه يقول إنك بصدد إعداد مؤامرة لإطاحة النظام؟؟
كعادته تذرع الجنرال بأغلظ القسم بأن وفاءه قد يدفعه إلى الانتحار. لم تكن تلك المرة الوحيدة التي يهدد فيها أوفقير بوضع حد لحياته، دفاعا عن العرش على حد تعبيره، أو في مواجهة من يصفهم بالمتآمرين. لكن نبرة صوته ودمعة عينيه، شفعت له في تجاوز المآزق، خاصة وأنه لم يمض غير عام وبضعة أيام على المحاولة الانقلابية في الصخيرات. فقد كان الحسن الثاني متوجها إلى باريس لأخذ قسط من الراحة. وكانت تلك المرة ما قبل الأخيرة التي يحدق فيها مليا إلى تقاسيم الجنرال.
لأن التاريخ يلتوي على عنق الحقيقة. فقد انتهت تلك الرحلة في السادس عشر من غشت 1972 بإسقاط الجنرال محمد أوفقير من معادلة السلطة في مغرب تشكل على انقاض غيابه، وإن لم يحفر القبر الأخير لمدرسته التي استمر نفوذها زمنا أطول. فقد مضى حين من الدهر عاود فيه الملك الراحل استحضار قصة تاليران مع نابليون. فقد طلب إليه وعدا بعدم خيانته، ورد عليه تاليران بالقول إنه سيفعل ذلك ليلة قبل تنفيذ خيانته.
ظل الحسن الثاني وفيا لتقليد دأب عليه. فكان حين تصله أنباء، مهما كانت خطورتها، يعمد إلى أسلوب المواجهة، فيجمع بين ناقلها والمسؤول المعني، وبتركهما يتبارزان. ولعله لهذه الغاية اختار يوما أن يضمن لبعض من تزعموا الانقلاب ضده فرصة العشاء الأخيرة إلى مائدته، كي يتبين حدود تشابك الخيط الأبيض والأسود. وقد تكون عجالة السفر وحدها حالت دون التئام مواجهة تفصيلية بين الجنرال أوفقير والدكتور الخطيب.
في حالة مماثلة أسر الأمير مولاي عبد الله إلى شقيقه الملك أنه أحد الإخوة بوريكات أخبره بأن الجنرال أحمد الدليمي كان بصدد إعداد مؤامرة لإطاحة النظام. بدا له الأمر وكأنه يقف على حد ضيق بين تصديق ما يسمع وبين التحري إزاء صدقيته، سيما وأن الدليمي كان يده اليمنى في التحريات الأمنية التي سبقت اتخاذ أي قرار، غير أن ورود اسمه ضمن صك الاتهام والوشاية، يجعل من الصعب أن يكون خصما وحكما في نازلة تعوزها الأدلة والبراهين.
إلى المواجهة، فهي أقرب طريق لاستبعاد الشكوك، طلب الحسن الثاني حضور الجنرال الدليمي، وكانت المفاجأة أنه وجد أحد الإخوة بوريكات في انتظاره عند مفصل حلبة المواجهة، كل واحد يدلي بما لديه. وانتهت القصة بواقع مأساوي، إذ تبين وفق أكثر من رواية متطابقة أن خلافات مالية بين الدليمي والإخوة بوريكات. حول استغلال منجم في عمق الأطلس، قد تكون وراء نسج خيوط الصراع، غير أن الزج بالإخوة بوريكات في غياهب سجون سرية سيضفي على الوقائع أبعادا أخرى، ليس أقلها أن الجنرال الدليمي تصرف حيال أولئك الإخوة بمنطق انتقام لا مكان فيه للرحمة أو الشفقة.
بيد أن رجلا بسيطا أسعفته الأقدار في أن يحظى بعطاء سخي من الملك الحسن الثاني، سيعرض إلى فصل آخر في المواجهة، حكى أن الحسن الثاني منحه مسكنا بعد أن مثل أمامه طالبا المساعدة. لم تكتمل فرحة الرجل إذ جاءه من يطلب رشوة لتسجيل المسكن في اسمه، مع أن الملك منحه أياه بأمر يشمل كل الترتيبات والإجراءات الإدارية.
عاد الرجل مرة أخرى، مشتكيا مما يتعرض له من ابتزاز، فما كان من الملك إلا أن سلمه مبلغا ماليا، وهو يردد أنا لست محافظا في إدارة الضرائب أو العقارات، فأدرك الرجل أن عليه أن يواجه مشكلته بنفسه. ودفع رشوة لمن طلبها، وهو يردد، كم من العيون يجب أن تكون لمن يتحمل المسؤولية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى