شوف تشوف

الرأي

مهمة واحدة برأسين اثنتين

أكملت الطائرة استعدادات الإقلاع، من مطار الرباط – سلا في اتجاه الجزائر. كان المستشار المتنفذ أحمد رضا كديرة قد استوى على مقعده، ثم توجه إلى ربان الطائرة الذي لم يكن يفصله عنه إلا حاجز صغير، يسأله عما ينتظر كي تقلع الطائرة. لكن هدير المحرك كان أقوى من التقاط صوت المستشار، رغم أنه كان يتحدث دائما بصوت مرتفع. إلى درجة أن كاتبته الخاصة «مدام كاييه» نبهته مرات إلى سماع صوته من خارج مكتبه، عندما يكون بصدد الحديث عبر الهاتف.
هل تعمد ربان الطائرة ألا يسمع سؤال المستشار، أم كان يعرف أن الإقلاع لن يتم إلا بعد حضور شخص ثان، ربما لم يكن في ذهن المستشار حتى تلك اللحظة أنه سيكون رفيق رحلته إلى الجزائر؟ ففي المهمات الرسمية يمكن توقع أي مستجد طارئ، وما يعرفه المستشار الذي كان يحمل رسالة من الملك الحسن الثاني إلى الرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد، أن ما يدور من نقاش في هكذا مباحثات يحمل في الغالب بوادر إجابات إما مباشرة أو غير مباشرة.
مقاعد الطائرة الخاصة رتبت على نحو مغاير للرحلات العادية. ففي مقدمتها ثلاثة أو أربعة مقاعد في شكل أريكة مريحة تتوسطها طاولة، وفي الجانب الخلفي بضعة مقاعد اصطفت على شكل نصف دائري، تخصص عادة لمرافقي الوفد الرسمي. فيما خدمات الطائرة، تقتصر على مضيف أو مضيفة، لأن أعداد المقاعد والركاب يكون محدودا جدا. وفي العادة يغيب عضو الطاقم الذي ينبه المسافرين إلى ما يتعين القيام به حين يتضاءل منسوب الأوكسجين أو تتعرض الطائرة إلى حادث طارئ، فكل ركابها من الدرجة الأولى بالرغم من صغر حجمها وأريحية خدماتها، إلا أن الأكل آخر شيء يفكر فيه المقبلون على مهمات رسمية من هذا النوع.
وقبل أن يعاود المستشار الذي كان دفن رأسه في رزمة ملفات يحملها، سؤاله، تقدم الوزير إدريس البصري، رفيقه في الرحلة، إلى مقعده، معتذرا عن التأخير الحاصل خارج إرادته. أخذ مكانه قبالة المستشار، يتأبط بدوره ملفات أكبر. وأقلعت الطائرة نحو وجهتها على إيقاع كلمات المستشار والوزير التي لا تتجاوز معابر التحية المتبادلة.
أقدر على الجزم، من موقع التجربة، أن المستشار لم يكن يهتم بالسؤال عن أحوال الصحة والطقس وعناء السفر، وكان يقتحم مواضيع أي لقاء مباشرة، من دون مقدمات. وقالت لي مدام كاييه مرة إن موعد مقابلته أثناء إقامته في فندق في مراكش لن يتجاوز عشر دقائق أو أقل منها. لكن صدر كديرة كان رحبا واتسع لقرابة الساعة، اعتذر خلالها عن موعد كان مقررا مع وزير خارجية بلد أوروبي. فقد كان يفتنه حديث السياسة، وإن أخفق في أن يصبح زعيما حزبيا بمؤهلات فكرية وسياسية وقانونية عالية، لأنه كان صاحب أفكار لا رجل ميدان.
أتصوره في رحلته تلك، من الرباط إلى الجزائر، منكفئا على نفسه قليل الكلام، لا يهتم بغير ما ينتظره، إذ لم يكن يتقبل تحقيق أقل من النتائج التي يتوقعها، وهو الذي عرف بصداقات مع مسؤولين جزائريين، كان في مقدمتهم الرئيس عبد العزيز بوتفليقة الذي شاركه في لعبة الورق والشطرنج، وإن اختلفا في تقييم الأحداث السياسية والمواقف المبدئية، وظل يسأل عنه في فترة اجتيازه صحراء الإبعاد، قبل أن يعود إلى الواجهة رئيسا تحت جبة أول مدني يحكم الجزائر، أو يتصور على الأرجح أنه يحكمها.
لم يبد المستشار خلال تلك الرحلة أي رد فعل إزاء مشاركته المهمة من طرف الوزير البصري، كما لم يتحدث الأخير عن ظروف التحاقه بالمهمة في آخر لحظة، لأن كليهما يعرف حدود صلاحياته في مهمة كهذه، محفوفة بالآمال والأسرار والصبر.
الأكيد أنه لسبب ما اقتضى الموقف أن يحمل الرسالة الملكية موفدان في وقت واحد. أما كونهما لم يلتقيا في جلسة واحدة عشية السفر، فيعني أن مهمتهما متكاملة في شقيها السياسي والأمني. ولئن كانت أدوار المستشار انغرست في المخيلة بخلفيات المشاورات السياسية الوطنية والإقليمية والأوروبية والأمريكية، فإن تجربته كوزير داخلية سابق، جمع بين الأمن وقطاع الزراعة، كما الخارجية والتعليم، قبل أن يستقر مقامه في الديوان الملكي.. مكنته من تفهم كل الدوافع.
للتاريخ أني سمعت من إدريس البصري عبارات التقدير إزاء المستشار كديرة، الذي قال عنه في أوج ما كان يروج من خلافات محتدمة بين الرجلين، إن مروره في الداخلية كان مؤثرا وفاعلا، وفق مفهومه للنجاعة والتأثير. والحال أن كديرة لم يكن مهتما بغير مجاراة الضرورات، من موقعه الاستشاري. غير أن التناقضات التي طبعت شخصيتيهما ومرجعياتهما لم تحل دون أن يلتقيا في أكثر من مهمة مشتركة. إلا أن حالاتها ركزت على محور العلاقات المغربية – الجزائرية والليبية، ولم يكن الأمر يمتد إلى مجالات أخرى، إلا في النادر الذي لا حكم له.
غيرت تطورات داخلية وإقليمية منظور الحسن الثاني إلى حقائق دبلوماسية، فقد تناهى إلى علمه مرة أن الرسائل التي تصله تكون ناقصة أو يشوبها التأويل. حتى أنه نَهَر يوما وزير خارجية سعى إلى أن ينقل إليه ما اعتبره خلاصة تكونت لديه من خلال مهمة قام بها. وقال له ما معناه: «إن دورك أن تنقل ما سمعت وما رأيت لا ما فهمت».
من يدري فقد يكون حرصه على إيفاد مبعوثين في مهمة واحدة وراءه الرغبة في أن يسمع المعطيات من أكثر من مصدر واحد. وصار معتادا أنه يتلقى إفادات المسؤولين من كل مبعوث على حدة، إلا أنه في المواجهات يجمع كل الأطراف تاركا للإخوة – الخصوم فرصة التباري للإقناع بأحقية هذا الطرف أو ذاك.
صحيح أن الرجل هو الأسلوب، وأبعد من ذلك أن الرؤية من خارج الصورة تساعد على تكوين أفكار أقرب إلى الواقع منها إلى التمنيات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى