مهرجان عالمي للشعر على أرض شاعر الحمراء
لا تحتاج علاقة الألفة بين الشعر والجمهور إلى افتعال المناسبات، فداخل كل إنسان شاعر تتردد في الإعلان عن نفسه، كما في أعماق كل جمهور، قدرة فائقة على تذوق منطوق الكلمات التي قال عنها أبو الطيب المتنبي: «ويسهر الخلق جراها ويختصم». وما عاد الخصام من شيم الرجال، بعد أن تلقفته دول واتجاهات، وعذر الشعراء أن أعذب الأصوات تغنت بألسنتهم المكلومة.
ما بالنا وأطلال الماضي؟ وهل يستطيع الشعر في زمن تشابك العلاقات الدولية أن يفعل شيئا أكبر من صياغة ما تلهج به الأفئدة والمشاعر والألسن؟ بلا وهذه مراكش التي سيُكتب لها أن تستضيف أكبر تظاهرة اقتصادية دولية، برسم مؤتمر التجارة العالمية (الغات)، لبست أحلى زينتها استعدادا لاستقبال أب الشعر الزنجي ليوبولد سيدار سنغور، الذي أقيم من أجله وتكريما له مؤتمر عالمي للشعر، دعي له كبار المبدعين المغاربة والعرب والأجانب.
نفس الأروقة التي ناقش فيها سياسيون وخبراء مستقبل التجارة العالمية، احتضنت نقاش الإبداع. ولعل ارتباط الشعر العربي بتقاليد «سوق عكاظ» كان كناية على أن في إمكان الشعر أن يزاحم أسواق الحرير والبضائع ومنتوجات الاستهلاك التي تأتي على قدر آليات الإنتاج وميول المستهلكين. ومن كانت هجرته إلى الشعر استبدل سوق عكاظ بالمهرجان العالمي للشعر في مراكش.
استفاق المغاربة والسنغاليون على ما وصف بـ«الرابطة» الأخوية التي تفوق حجم المبادلات التجارية وأنواع العلائق التي تصنع التفاهم والانصهار، بما فيها المخزون المتقد من الشحنات الصوفية وتأثير صلات الزوايا الروحية ومظاهر التفاعل. ثم جاء الاختيار على تكريم الرئيس سنغور في الميدان الذي يروقه ويجله وينغمر في سكونه وفوراته. فهو شاعر قبل أن يكون رئيسا وبعد أن يترك رحاب السلطة. إذ لا يبقى من الصورة إلا العيون والظلال والبصمات التي لا يمحوها الزمن. فقد نام سنغور ملء جفنيه عن شوارد شعر، وترك للذاكرة الثقافية أن تعتز بعالمية شعرية انطلقت من عمق إفريقيا. فالبلاد التي كانت بها قلاع تصدير العبيد، صارت بها حصون تصدر الشعر وعلم الكلام، وأي شيء أقوى من لغة ترسخ في الوجدان.
مهرجان عالمي للشعر يليق بمقامه، فقد حمل سنغور أرفع أوسمة الاستحقاق. وما يمنحه الشعراء يكون أقوى أثرا. وهل لأحد أن يزايد على تخصص المغرب في تكريم بهذه المواصفات التي أعطت لانتمائه الراسخ لإفريقيا هوية تقتبس من الزنجية الثقافية بريقها المشع عبر الأزمان والأحقاب.
في تفاصيل غير متداولة أن سنغور بكى حين سمع بقرار تكريمه، فالرؤساء وعظماء التاريخ يبكون أيضا لدى الإحساس بأن شيئا مما يدافعون عنه قد تحقق، وما كان سنغور يحلم بغير رد الاعتبار للثقافة الإفريقية التي تعرضت لأشكال من حروب الإبادة والتلوث. وربما تذكر الشاعر المغربي الكبير محمد بنيس وقائع ذاك الاحتفاء الذي جمع المجددين والمخضرمين والتقليديين، فما تقسيمات العروض والمدارس والأشكال إلا اختراعات لا تلغي المضامين الإنسانية لقوة الشعر وزخمه وحضوره في عصر قل شعراؤه. وأصدق ما في الشعر قوله، بلا حذلقة ولا تزلف ولا محاباة. غير أن أحدا لا يلتفت إلى البصمات التي كان في وسعها أن تصنع حياة ثقافية مغايرة لكل ما هو هجين ومستلب وساقط.
حضروا جميعا إلى مراكش من القارات القصية والقريبة، ولأن المناسبة شرط، ومن أجل إشراك حساسيات من غير هذا العالم في تظاهرة ثقافية بهذا الحجم، نودي على ضباط كبار في القوات المسلحة الملكية لرعاية الحفل. كأنما القول إن أبطال القوات هم علماء وسفراء وجد سبيله ليتحقق عبر زرع خصائص الاستماع إلى أعذب وأحلى الكلام، وإن كان يفيض شوقا ومرارة وحزنا في غالبية الحالات.
ليس تقليد تكريم الشعراء جديدا، فقد تنبهت وزارة الثقافة مرة إلى أن الانفتاح على عالم الشعراء يبدأ بتكريم الرواد. وجاءت إقامة ذكرى شاعر الأندلس الذي اكتوى بمحارق السياسة أبو الوليد بن أحمد بن زيدون المخزومي، على قدر العزائم، وهو القائل:
«أضحى التنائي بديلا عن تدانينا
وناب عن طيب لقيانا تجافينا
ألا وقد حان صبح البين صبحنا
حين فقام بنا للحين ناعينا».
لم يدر في خلده بالتأكيد أن صبحه سيكون حافلا ذات ربيع في العاصمة الرباط التي استيقظت لتكريم الشاعر الوزير، الذي لم تسلم حياته من صراعات السلطة والجاه والهوى أيضا. وعلى نفس المنوال حضر شعراء أمثال محمد المهدي الجواهري، الملقب بـ«أبي الفرات». فيما اهتزت مدينة القصر الكبير على وقع زيارة الشاعر نزار قباني. ووجد محمود درويش وأحمد دحبور وعبد المعطي حجازي وغيرهم مقام التقدير لدى زيارتهم المغرب.
كان ذلك زمن الشعر والشعراء، وبدا وقتها أن المغرب المنشغل بملفات وقضايا استراتيجية كبرى، يستطيع أن يقتطع من وقته لرعاية تظاهرة ثقافية بمستوى مهرجان الشعر العالمي الذي حظيت مدينة شاعر الحمراء باستضافته.
ذاك زمن مضى، لكن الشعر أخلد من أن تنال منه الأزمان، فهو قائم مادام في الإنسان إنسان. ولم يسعد الرئيس والشاعر سنغور أكثر من تكريمه في احتفال مشهود. فقد أسر لي ابنه المدلل الشاعر محمد خير الدين، بأن ذلك الحدث ترك في نفسه أثرا بالغا لم ينسه أبدا.