منطق القوة وإرادة تحجيمه
عبد الإله بلقزيز
أسهبت حنة أرندت، الفيلسوفة وعالمة السياسة، في التنظير لفكرة التجافي الماهوي بين السياسة والعنف في كثير من نصوصها؛ خصوصا تلك التي تنتمي إلى فترة هجرتها من ألمانيا إلى فرنسا، ومنها إلى الولايات المتحدة الأمريكية.
وبمعزل عن أن تشديدها على ذلك التجافي، وحسبانها العنف فعلا سابقا للسياسة – أو ينتمي إلى ما قبل السياسة – وعلى أن العنف يسم المجال الخاص لا المجال العام…، وهو مما قد يكون رد فعل منها على صعود النازية (التي غادرت وطنها ألمانيا فرارا منها)، إلا أن أطروحتها هذه – عن خلو السياسة من العنف – تفصح عن نظرة يوتوبية ومثالية إلى السياسة، وتتجاهل تاريخ العلاقة التي ما انفكت بينهما في الأزمنة الاجتماعية والسياسية المختلفة.
وليس العنف شيئا آخر سوى استخدام القوة – المادية أساسا – للإخضاع وفرض إرادة من يستخدمها على من يقع عليه فعل القوة. القوة، هنا، هي وسيلة الإكراه والتجسيد المادي المباشر له. وهي، لذلك السبب، لا ينحصر فعلها في المجال الخاص (الأسرة مثلا) – على ما تعتقد حنة أرندت – ولا تترجم نفسها في علاقة الأب بأبنائه وممارسته السلطة الأبوية عليهم، أو في علاقة السيد بالعبد، وإنما يمتد فعلها إلى مجال العلاقات العامة (=مجال السياسة)؛ أي إلى ذلك الفضاء البيني الذي يقوم بين الناس ويشترك فيه هؤلاء، والذي تطلق عليه أرندت اسم السياسة.
ماذا تكون السلطة في كل مجتمع ودولة وفي كل عصر سوى أنها علاقة أمرية (علاقة آمر بمأمور)، كما يقول ناصيف نصار؟ والأمر وإنفاذه لا يكونان إلا بأداة /أدوات يتوسلانها لهذه الغاية؛ والقوة من هذه الأدوات وهي، أحيانا، أفعل تلك الأدوات حين تعجز أخرى غيرها في تحقيق هدف الأمر: الإخضاع. لذلك ظلت القوة وظل العنف من عُدة اشتغال السياسة ومن مقتضياتها في أزمنة التأريخ كافة ولم يكونا، يوما، طارئين عليها مثلما تزعم حنة أرندت. هذه حقيقة موضوعية مستقلة عن رغباتنا حتى وإن نبذنا العنف والقوة، وتطلعنا إلى سياسة مثالية خالية منهما. حين نذكر بها، فلأنها معطى تاريخي حصل ويحصل، بدرجات متفاوتة، لا لأننا نبغي أن يستمر التلازم بين السياسة والعنف والقوة، أو أن لا يقع تغيير في تلك المتلازمة.
إذا كانت الحرب امتدادا للسياسة، كما يقول كلاوزفيتس، فإنها تصبح التجلي الأعلى لاشتغال العنف والقوة في السياسة، لذلك عُدت (الحرب) سياسة بأدوات أخرى. مع ذلك هي من السياسة ومن أدواتها. يكفي أن الحروب لا تشتعل وتعلن ويخاض فيها إلا بقرار سياسي تتخذه نخبة سياسية (رئاسة الدولة، البرلمان) بعد استشارة المؤسسة العسكرية ومعرفة مدى جهوزيتها. ويكفي أنها تُشن لأغراض سياسية: إخضاع الخصم أو العدو لإرادة من شن الحرب عليه، حتى أنه أصبح العدو، من مقتضيات أي سياسة لأن عليه مبناها كما يذهب إلى ذلك فيلسوف السياسة الألماني كارل شميدت.
ليست السياسة، بمعناها الحديث، والدولة الوطنية الحديثة من تجلياتها، إلا محاولة لتهذيب معنى السياسة وأنسنته. والمدخل إلى هذين إعادة تصحيح مكانة العنف والقوة في بنية السياسة ونظام اشتغالها؛ في السلطة والدولة وعلاقة هذين بالمجتمع. وقد بلغ التصحيح مدى معقولا تمثل في إنتاج الشروط والضمانات القمينة بتحجيم الحاجة إلى توسل العنف وأدوات القوة في ممارسة السياسة والسلطة، الأمر الذي فتح الباب أمام التمييز بين نوعين من العنف: عنف مشروع وعنف غير مشروع.
والأول منهما مشروع لأن الدولة تحتكره، بعبارة عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر. وكل عنف غيره – أي لا يعود إلى الدولة – غير مشروع. والعنف هذا مشروع لأنه مقترن بالقانون (هو، لذلك، عنف قانوني)؛ أي مصروف لصون القانون – الذي هو تعبير عن الإرادة العامة: بلغة جان جاك روسو – من أي انتهاك له يؤدي إلى الإخلال بالسلم المدني.
نظير هذا التهذيب لمبدأ القوة في السياسة والسلطة، الذي استتب له الأمر في الدولة الوطنية: دولة القانون، وقع بعض التهذيب للحرب بما هي أعلى أشكال تجسيد فعل القوة في السياسة. ومثلما سلك التهذيب الأول للقوة – في السلطة والدولة – مسلك التقنين، أي وضع الضوابط القانونية لممارسة القوة لئلا يُشطط في هذه، كذلك سلك تهذيب القوة في الحرب مسلك القانون. ابتداء جُرم فعل الحرب إن انتهك القانون الدولي، ثم وضعت للحروب معاهدات تحمي المدنيين منها، وأخرى تحظر استخدام أسلحة الدمار الشامل، وأطر قانونية للجوء إلى التفاوض والحلول السلمية، وأخرى لإحداث آليات دولية لمراقبة الهدنات ووقف الأعمال القتالية… وهذه جميعها تضافرت لا لتنهي الحروب تماما، ولكن لتقلص الحاجة إلى اللجوء إليها.
على أن هذا الردع القانوني للقوة لم يجد له، دائما، التصريف المادي الذي يجعله مبدأ حاكما للسياسات وللحروب؛ فكثيرا ما انتقض وطُئح به من قبل المبدأ عينه الذي ابتغي تحجيمه: القوة. وهكذا عادت القوة ومنطق القوة للانتقام لنفسيهما، مما حاول ضبطهما من الانفلات من عقال إرادة السيطرة على القوة.
ماذا تكون السلطة في كل مجتمع ودولة وفي كل عصر سوى أنها علاقة أمرية (علاقة آمر بمأمور)، كما يقول ناصيف نصار؟ والأمر وإنفاذه لا يكونان إلا بأداة /أدوات يتوسلانها لهذه الغاية؛ والقوة من هذه الأدوات