منسيو عساكر المغرب الأولون
حين تقودك قدماك إلى مقابر ينام في جوف تربتها مغاربة سقطوا في ساحة معارك لا تعنيهم، وفي بلاد يجهلون روابيها وجبالها وسهولها، ستقف على حجم تضحية جنود مغاربة ماتوا فداء لوطن آخر غير وطنهم. على شواهد القبور في بروكسيل وباريس وروما، تكتشف حجم مأساة فيالق ماتت تحت نيران النازية، لأن القيادة الفرنسية حولتها إلى دروع بشرية واجهت تقدم جند هتلر صوب فرنسا، وحين تسأل الأحياء منهم عن جزاء الإحسان تقف مذهولا أمام جريمة التنكر مع سبق الإصرار والترصد، حيث تصرف لأحياء بالكاد يرزقون معاشا مخزيا لا يكفي لشراء كفن، بينما يقف المسؤولون، كلما حلت ذكرى الحرب، ليدلوا بشهادة الزور ويصفون عساكر المغرب بحماة فرنسا، ويوشحوا صدور العجزة بأوسمة لا تسمن ولا تغني من جوع.
حين يتحول التجنيد إلى جهاد ديني
في مذكرات المقيم العام الفرنسي ليوطي نتعرف على تهافت المغاربة على ارتداء البذلة العسكرية الفرنسية، حيث قال إنه مباشرة بعد إعلان فرنسا الحرب على ألمانيا والإمبراطورية النمساوية المجرية، «أقدم السلطان على مطالبة المغاربة عبر المساجد بالانخراط في الجيش الفرنسي وخوض الحرب إلى جانبها في مواجهتها لألمانيا». وبهذا أضفى قرار السلطان وعلماء السلطان شرعية على عملية استقطاب وتجنيد فرنسا للمغاربة في حرب لم تكن تعنيهم إطلاقا، بل إن المولى يوسف شجع الانخراط في الجيش الفرنسي واعتبره واجبا تجاه سلطة الحماية، وفسحة للخروج للانفلات من الأوبئة والمجاعات التي ضربت البلاد في منتصف الأربعينات.
أما الباحث المغربي محمد بكراوي فكشف في كتابه «المغاربة في الحرب العالمية الأولى»، عن طرق ضم المغاربة الشباب إلى الكتائب العسكرية الفرنسية المقاتلة، حيث يؤكد الكتاب انتماءهم إلى المناطق السهلية وسط البلاد التي استطاعت فرنسا السيطرة عليها مثل زيان ومكناس ودكالة وعبدة. وينقل البكراوي عن ليوطي في الكتاب المذكور أن المغرب «قدم 45 ألف جندي، وكان الجنرال ديت هو القائد الأعلى لكل الجنود المغاربة في بداية الحرب العالمية الأولى وأساسا الفيالق القناصة المشاة ولاحقا تمت إضافة فيالق القناصة الخيالة، تحت إمرة القيادة العليا للجيش الفرنسي». كما أسهب في تحديد معايير انتقاء العساكر مع تغليب الجانب الصحي.
كان الجيش الفرنسي يدفع بجنود المستعمرات في الواجهة ومنهم المغاربة. وأشار الماريشال ألفونس جوان الذي عمل في المغرب والتحق على رأس المجندين المغاربة بفرنسا سنة 1914 للمشاركة في الحرب، إلى أن «أكثر من ثلاثة آلاف مغربي لقوا حتفهم فقط في معركة أورسك». بينما يقدم الكراوي رقما آخر اعتمادا على وثائق فرنسية هو مقتل 12 ألف مغربي في هذه الحرب، أي بنسبة 26 في المائة من مجموع الجنود المغاربة. وعمدت فرنسا لاحقا لنقل معظم الجنود المغاربة إلى مستعمرات أخرى لمحاربة حركات المقاومة.
جسر عسكري من أوربا إلى لاندوشين
في منتصف شهر أبريل من سنة 1945 عبر الفيلق المغربي الرابع نهر الراين ودخل التراب الألماني، كانت المهمة محددة في تمشيط الغابة السوداء، وبلوغ الحدود الشمالية مع سويسرا بأقصى سرعة ممكنة. نزل الفيلق المكون من 4000 جندي على متن 170 عربة في بحيرة قريبة من قرية فورارلبيرغ في الثاني من شهر ماي، ليخرج في مواجهة 22 ألف عسكري ألماني، في معارك تحت قيادة الجنرال الفرنسي لوشي قبل أن يتم استبداله بنظيره بوندي، لازالت آثارها راسخة في ذاكرة النمساويين، ودامت إلى منتصف شهر يناير من سنة 1946. كما تم استبدال الفيلق الثاني المغربي في شهر غشت بفيلق جزائري. ودعي الجنود المغاربة للالتحاق بالهند الصينية في مهمة عسكرية أخرى.
اندلعت حرب «لاندوشين»، كما يطلق عليها عساكر المغرب الأولون، سنة 1946 وانتهت سنة 1954 في مواجهة قوية خلفت العديد من النكبات، شارك المغاربة في صفوف الجيش الفرنسي ورفعوا علم فرنسا في أدغال الهند الصينية، دون أن تنصفهم الدولة الفرنسية، أو تعترف بما صنعوه من مجد لفرنسا لا للمغرب.
حكاية سعيد بن محمد تستحق أن تروى كشهادة على عصر التنكر لمن وهبوا أرواحهم فداء للفرنسيين، انخرط ابن قبيلة إداوكنضيف عمالة شتوكة أيت باها، في صفوف الجيش الفرنسي سنة1951، فزج به في حرب لا علم له بأهدافها ومراميها حيث كان «ضمن آخر فيلق غادر ميناء هنكوك في أواخر 1954 وكان آنذاك يبعث بمبلغ مالي لوالدته عبر البريد الفرنسي. وحين التحق بالمغرب وتم إنزال الفيلق بشاطئ الصويرة، طلبوا منهم التوجه إلى منطقة الريف لمواجهة الثوار فرفضوا، ليقال والدي ويغادر صفوف الجيش الفرنسي بحجة عصيان أوامر الجيش الجمهوري. ومنذ ذلك الحين ظلت السلطات المغربية دائما تناديه كفرد من أفراد الجيش الاحتياطي إلى أن وافته المنية في صيف 2003 دون أن يستفيد من التعويضات، رغم مراسلة وزارة الدفاع الفرنسية ولكنه فقد الوثائق فلم تستجب الوزارة لطلبه»، يقول ابن أحد قدماء أبطال حرب «لاندوشين».
حين وضعت الحرب الفيتنامية أوزارها سنة 1954، بدأت حرب أخرى للجنود المغاربة الذين بقوا على قيد الحياة، أما المفقودون فكان مصير غالبيتهم النسيان، سيما وأن فئة كبيرة منهم تعيش في مناطق أخطأتها مشاريع التنمية، في دواوير تفتقد للحد الأدنى من شروط الحياة، هناك يقضون أوقاتهم في رواية ما تبقى من ذكريات في جبهات القتال.
معاش يومي يساوي ثمن خبزة
تعددت الروايات حول المعاشات التي تلقاها المجندون وأراملهم وأبناؤهم أو ما تبقى منهم، لكنها أجمعت على هزالتها، بل من قدماء المحاربين من ظل يتقاضى قيد حياته ما يقارب 100 درهم شهريا كتعويض لا يسمن ولا يغني من جوع، أي في حدود 1.5 درهم يوميا أي ثمن خبزة لا تكفي لإطعام فم واحد في اليوم، مما اعتبر استفزازا لمشاعر رجال دافعوا عن الجمهورية الفرنسية وساهموا في تخليصها من الاحتلال النازي.
تجسد حكاية أمزيان حسني قمة التنكر لجندي وهب حياته خدمة لفرنسا وهو الذي حارب في الجبهات الأوربية بفرنسا وبلجيكا والجزائر قبل أن يرسل ضمن كتائب الموت إلى الفيتنام للمشاركة في الحرب الهندية الصينية. يقول ابنه محمد في بوح لـ«الأخبار»: «لدي وثائق رسمية فرنسية تثبت كيف تمكنت فرنسا من سرقة المغاربة الذين شاركوها كل حروبها وخاصة حرب الهند الصينية والحرب العالمية الثانية، حيث حرمتهم من التعويضات العائلية رغم طول المدة التي قضوها في الخدمة العسكرية، لا زلت أتساءل كالعديد من المحاربين وأبنائهم وأراملهم وما تبقى منهم على قيد الحياة عن لصوص التعويضات العائلية لقدماء المحاربين في الجيش الفرنسي، أنا ابن لواحد من هؤلاء المحاربين السابقين في الجيش الفرنسي».
يضيف أمزيان أن الحيف طال كل الأبناء الخمسة الذين حرموا من «فتات» التعويضات العائلية، «ضاعت مني وثيقة حسن السيرة التي تعتبر شهادة ضد السلطات الفرنسية التي تشيد بسلوك محارب دون أن تمنحه تعويضات عن الخدمة».
قضى إدريس أمزيان أجمل فترات حياته مقاتلا بين فرنسا والجزائر والفيتنام، كما تشهد وثيقة ملفه العسكري، لكن التعويض المالي كان هزيلا مما ساهم في مرض زوجته الغرباوي رحمة ومعاناة أبنائه حسن ومحمد وعبد السلام ونعيمة ثم فاطمة، الذين يلعنون في سرهم وعلانيتهم تنكر الفرنسيين، لكن المصيبة أكبر حين يتعلق الأمر بجنود خرجوا من المعارك بأعطاب دائمة، حيث يظل الواحد منهم يترقب كل ستة أشهر حوالة بريدية تكفي بالكاد لاقتناء كفن.
أما محند نيكان فقد سخر من قرار التغطية الصحية للمجندين في القوات الفرنسية، حين طالبتهم القنصلية الفرنسية في الدار البيضاء، بأداء ألف أورو، أي أزيد من مليون سنتيم مقابل استخلاص بطاقة التغطية الصحية لقدماء المحاربين في الجيش الفرنسي، مما جعل محند ورفاقه من حملة السلاح يندمون لإطلاق رصاصة واحدة في وجه أعداء فرنسا.
مقاربة أخرى في مطلب المعاشات
تقول سيدة منعت حتى من الحق في الحصول على تأشيرة لدخول الأراضي الفرنسية، كان والدها عمر لغلياني يدافع عن الوجود الفرنسي لسنوات: «والدي كان مشاركا في الحرب العالمية الثانية وفي حرب لاندوشين، ومن حسن حظه أنه عاد معافى واستطاع الانضمام للجيش المغربي، لم يكن رحمة الله عليه يتلقى أي تعويض من فرنسا رغم وجود الوثائق، عند تقاعده اكتفى أحد المقيمين في الخارج بإرسال رسالة لتلك الجمعية التي تسمى جمعية قدماء المحاربين المغاربة في صفوف الجيش الفرنسي، لقد سرقوا معاشه لم يمنحوه جواز سفر وقالوا له إذا أردت تعويضاتك فسافر من أجلها إلى فرنسا دون أن يمكنوه من الجواز، لكن لم تسعفه السنوات فتوفى قبل إنجاز «الباسبور» ونسينا الموضوع».
وتضيف ذات السيدة بأن طريقة المطالبة بالمعاش يغلب عليها الاستجداء: «طريقة المطالبة بالحقوق، لا يجب أن تبدأ باستجداء كأن نقول لهم نحن شاركنا معكم فأين المقابل؟ يجب بالأحرى المطالبة بمحاكمتهم وتعويض عن الضرر النفسي، لأن السلطات الفرنسية أخذت العساكر غصبا عنهم من بين أسرهم وهم في قمة عنفوان الشباب ورمت بهم في الأدغال، لكي يخوضوا حربا لا ناقة لهم فيها ولا جمل سوى أنهم تحت رحمة الاستعمار، هكذا يجب الحديث عن الموضوع لأن آباءنا وأجدادنا لم يختاروا المشاركة حتى يطلبوا المقابل، لذا يجب محاسبة الاستعمار وطلب الاعتذار والتعويض عن الضرر الجسمي والنفسي وعن الاختطاف والاستعباد، لا يمكن أن يتصور أحد حجم معاناتهم في أوربا والهند الصينية، هناك فرق بين إنسان يدافع عن بلده التي يعرف مخارجها ومداخلها وبين أن تضع شخصا في عالم آخر لا يعرف عنه شيئا، ليدافع عن من يعتبر آنذاك عدوه (فرنسا)، الخوف كان يحيط بهم من كل جانب، الجوع و البرد وصغر السن، ورغم ذلك يصر الضباط الفرنسيون على وضعهم في الصفوف الأمامية كأدرع بشرية ليسلم الفرنسي وينجو من الموت».
تستمر معاناة أرامل الجنود الذين توفوا قبل أن يرفع معاشهم، أرامل تصل معاشات البعض منهن إلى 100 درهم أو أقل، وفاطنة شديد واحدة من هؤلاء، وهي أرملة جندي سابق من المحاربين القدماء في جيش التحرير، التي كشفت نكبتها لـ«الأخبار» وتحدثت عن معاناتها في تعقب معاش زوجها الذي شارك في الحرب مع فرنسا ضد ألمانيا، حيث تتقاضى هذه الأرملة منذ سنين معاشا قدره 135 درهما في الشهر، يمنحه لها الصندوق المغربي للتقاعد كصدقة «غير جارية».
تتعدد النكبات أمام سيل التصريحات التي تتهم فرنسا بسرقة تعويضات مغاربة تجندوا في صفوفها، وصمت الحكومات المغربية التي تفضل الحياد السلبي، يقول أحد حفدة العسكري بوزلماطن الذي قضى 15 سنة في خدمة العلم الفرنسي، «شارك جدي في حرب الهند الصينية وحرب الجزائر والحرب العالمية الثانية، قضى أكثر من 4 سنوات في معتقلات النازية، فكان نصيبه بعد كل هذه المحن 150 درهما شهريا ولما توفي رحمه الله أصبحت الأم الأرملة تتقاضى 600 درهم في كل ثلاثة أشهر».
إهانة في الحياة وفي الموت
بعد أن تعرضت قبور الجنود المغاربة للتدنيس،على يد أشخاص محسوبين على المد النازي، في مقبرة نوتردام دو لوريت، أكبر مقبرة عسكرية بفرنسا، حيث يرقد بها أكثر من 40 ألف محارب. صرح الرئيس الفرنسي السابق ساركوزي قائلا: «الحكومة الفرنسية ستعمل على تنفيذ قرار أجرأة التعويضات لفائدة شريحة الجنود المغاربة في الجيش الفرنسي بالحرب العالمية الثانية»، وحين غادر الرئيس المقبرة نسي وعوده. علما أن الرئيس ساركوزي سبق وأكد أن «فرنسا احتفت وكرمت دوما، كما هو الشأن بالنسبة لأبنائها الأعزاء، كل الذين ضحوا بأرواحهم من أجلها. هؤلاء حاربوا من أجل الدفاع عن وطننا، وحاربوا من أجل حرية فرنسا، وحريتنا نحن الفرنسيين»، أما مدبري الهجوم على مقابر المغاربة فلم يعتقلوا بعد بسبب التقادم.
صحيح أن المجلس الدستوري الفرنسي قرر في يوليوز 2008 مراجعة قانون تمييزي في رواتب المتقاعدين وقدماء المحاربين الفرنسيين ورفقائهم من دول المستعمرات القديمة واعتبره من الأولويات، وهو قانون عنصري قدمه ووقّعه سنة 1959 الجنرال ديغول كمكافأة فرنسية لمن ضحى بحياته للدفاع عن شرف وحرية فرنسا، لكن الملف لم يراوح مكانه رغم أن رفات الجنود المدفونة في تراب فرنسا وإيطاليا وألمانيا تحكي في كل ذكرى عن التنكر الفرنسي والكيل بمكيالين إذ يتقاضى الجندي الفرنسي تعويضا قدره 7512 يورو سنويا بينما لازال المغاربة يمنون النفس بقانون يجسد المساواة في التعويض بدل الاكتفاء بالمواساة.
حسب محمد أشهبون الصحفي المقيم بالديار الهولاندية وصاحب كتاب «مقابر في أرض مبللة: الحرية والمحررون المغاربة» فإن «الأوروبيين والحلفاء الذين شاركوا في الحرب لا يريدون الأفارقة أن يدونوا في التاريخ بأنهم هم السبب في تحرير أوروبا من النازية والفاشية، وهذا رغم شهادات بعض الجنرالات والسياسيين من الحلفاء وحتى من العدو الألماني آنذاك، مثل الجنرال الألماني كيسر لن. والسبب المعنوي، أو السبب الديني، هو أنه كان يكاد من العار على دول الحلفاء من الأوروبيين والأميركيين والنيوزيلنديين إذا اتضح للعالم أن تحرير أوروبا جاء على يد المغاربة المسلمين، والذين كادوا فعلا أن يحرروا مدينة روما والفاتكان، وذلك على يد المغاربة الذين دحروا الألمان والإيطاليين في جبال مونتي كاسينو الإيطالية، حيث لم يبقى للمغاربة إلا 50 كيلومترا لدخول مدينة روما».
لا يعترف الفرنسيون بشجاعة المغاربة إلا في المناسبات التي تخلد الحرب، ففي مقبرة ببلجيكا كتبت العبارة الثالثة: «أيها المار، اعلم أن ثمن حريتك دفع من دمهم»، أي أن على الأوربيين أن يعلموا أن المغاربة صنعوا جزءا من حاضر الفرنسيين، وكتب أحدهم على قبر جندي مغربي: «القاسم المشترك بين هؤلاء الجنود الشجعان، الذين تم دفنهم جنبا إلى جنب، هو أنهم دفعوا حياتهم ثمنا غاليا لتحرير فرنسا وناضلوا من أجل أوروبا حرة دون ديكتاتورية».
«كاجينا برجلينا على الخبز والكاميلا»
رفع المجندون المغاربة في الجيش الفرنسي شعارا لازال حاضرا في أذهان قدماء المحاربين عبارة عن لازمة غنائية تقول «كاجينا برجلينا على الخبز والكاميلا»، في إشارة صريحة لما جنوه من تنكر في معارك بلا أمجاد.
تقول الباحثة الفرنسية «نيلكيا ديلانوي» في كتابها «غبار إمبراطورية» الذي يروي قصص جنود مغاربة زجت بهم فرنسا في أدغال الهند الصينية، وركزت على قصص مغاربة تزوجوا من فيتناميات، وآخرين اختاروا الهروب من الخنادق والانتشار في أرض الفيتنام. «نتج عن هذا التخفي والهروب الانصهار داخل المجتمع الفيتنامي، كان الفيتناميون يسمون المغاربة بـ «الأوروبيين السود»، وعند عودة هؤلاء إلى المغرب عام 1972، طلق عليهم مواطنوهم اسم «الشينوا».
جندت فرنسا 123 ألف جندي من شمال إفريقيا في الحرب التي شنتها ضد الفيتناميين بقيادة الزعيم هوشي منه الذي أمر أنصاره منذ البداية بضرورة القيام بعمل دعائي واسع لإقناع الجنود المغاربيين بعدم خوض الحرب، أغلب هؤلاء عاشوا حرب أوربا والهند الصينية وخرجوا من «المولد بلا حمص».
تجمع الروايات التي استخلصها الكتاب من أفواه عائدين من حرب الاستنزاف، على صعوبة المسار، إذ قطعت الفيالق منذ التاسع من يناير 1950 الطريق نحو القارة الصفراء، عبر وهران ومصر وعدن ثم جيبوتي، «استمر السفر لمدة 34 يوما عن طريق البحر. بعد الوصول إلى مدينة هايفونغ، وهي مدينة فيتنامية ساحلية، توزع الجنود إلى مجموعات توجهت كل مجموعة إلى مدينة معينة، وكان عدد المغاربة المشاركين في هذه الحرب كبيرا مقارنة مع بقية المشاركين وعند كل مواجهة كان المغاربة يقدمون إلى الصفوف الأمامية ويؤخر الجنود الفرنسيين وباقي الجنسيات». في غشت 1952 عاد الجنود إلى المغرب عبر نفس المسار الأول، كان أغلب العائدين متعاقدين مع الجيش الفرنسي لمدة عامين وعند انتهاء المدة يمكن لأي عسكري العودة إلى المغرب.
مات غالبية الجنود المغاربة الذين عاشوا هذه المعارك، وظل أهلهم يقتاتون من تعويضات هزيلة، وهم يأملون في وخزة ضمير تزيد في معاشاتهم بصرف تعويضات صحية، علما أن القانون الفرنسي لم يأخذ بعين الاعتبار القيمة الإجمالية للراتب «الذي يضم بالإضافة إلى المعاش، التعويض عن الميدالية «الورقية» طبعا، التي نالها البعض من المحاربين في ساحة «لاندوشين» جراء مشاركتهم في إحدى الاختراقات.
هل لاستقالة وزير المحاربين علاقة بمستحقات الجنود؟
زار قادر عريف الوزير المنتدب السابق في الحكومة الفرنسية المكلف بالمحاربين القدامى المغرب، قبل إقالته من الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند، لتخليد ذكرى مرور سبعين سنة على نهاية الحرب العالمية الثانية. لم يحمل الوزير الجزائري الأصل أي مقترحات لتحسين وضعية 14 ألف مغربي ضمن 90 ألفا شاركوا في هذه الحرب ومازالوا على قيد الحياة.
وحسب الموقع الرسمي للسفارة الفرنسية في الرباط فإن زيارة المسؤول الفرنسي للإعداد لذكرى نهاية الحرب العالمية الثانية، «حيث ترغب فرنسا في جعل هذا التاريخ، مناسبة للاحتفال بالسلم الذي انعكس إيجابا على أوروبا من خلال بناء وحدة متينة بين فرنسا وألمانيا»، وحسب ذات الموقع فإن الوزير المنتدب تدارس مع عبد اللطيف لوديي ملف قدامى المحاربين المغاربة.
خلال زيارة قادر للرباط حرص على توشيح ثلاثة من قدماء المحاربين المغاربة بفرنسا، بأوسمة فرنسية من درجة فارس بمرتبة فرقة الشرف، وصف الوزير المنتدب التوشيح، بـ«التكريم القوي والرسمي للشجاعة ونكران الذات اللذين اتسم بهما هؤلاء الجنود المغاربة الذين بصموا فترة جوهرية من تاريخ فرنسا»، مشيرا إلى أن التوشيح تم باسم الرئيس فرانسوا هولاند، ويرمز إلى تكريم شجاعة الفيالق المغربية المنخرطة في الجيش الفرنسي، وخاصة خلال الحربين العالميتين، قائلا إنه «بفضل المساهمة القوية لهؤلاء الرجال، تمكنت فرنسا من التموقع في صف المنتصرين».
وفي معرض حديثه عن الاحتفال مستقبلا بمئوية الحرب العالمية الأولى، اكتفى الوزير المنتدب بلغة الخشب، وقال إنه من الملائم إيلاء قدماء المحاربين المغاربة المكانة التي يستحقونها على مستوى برنامج الاحتفال بهذا الحدث، مضيفا أنه من الملائم أيضا تخليد هذه الفترة من التاريخ المغربي الفرنسي من خلال نقل الذاكرة التي تعكس مساهمة الجنود المغاربة بوحدات الجيش الفرنسي.
وشارك حوالي 84 ألف مغربي في الحرب العالمية الثانية بعدما جندتهم فرنسا، ولقي عشرات الآلاف منهم حتفهم في الحرب. وبعد نهاية الحرب، انخرط البعض منهم في الجيش الفرنسي للعمل في المستعمرات أساسا بينما جرى تسريح الكثير. ومن أصل 84 ألفا، بقي على قيد الحياة 14 ألفا بعد انتهاء الحرب.
اكتفت فرنسا بالإشادة بدور الجنود الأجانب وخاصة الأفارقة ومنهم المغاربة في مواجهة النازية والفاشية الإيطالية، لكنها لم تمنحهم الحقوق اللازمة لاحقا، حيث يتوصلون بتعويضات هزيلة تبقى دون التعويضات التي يحصل عليها نظرائهم الفرنسيين. كما يبخس المؤرخون الفرنسيون دور هذه القوات في مواجهة النازية، كما لم تفتح السلطات المغربية مفاوضات جدية مع الحكومات المتوالية على السلطة في باريس لمعالجة هذا الملف.
في غمرة السجال حول مصير معاشات المحاربين، قدم الوزير الفرنسي المنتدب المكلف بملف قدماء المحاربين والذاكرة، قادر عريف استقالته إلى الرئيس فرانسوا هولاند، بعد أن ورد اسمه في إطار تحقيق أولي للنيابة العامة المكلفة بالقضايا المالية.
وأوضح بلاغ للإليزي، حينها، أن رئيس الجمهورية استقبل اليوم قادر عريف الذي قدم له استقالته من أجل تقديم كل التوضيحات الرامية إلى إجلاء الحقيقة في إطار التحقيق الأولي الذي تقوم به النيابة العامة المكلفة بالأموال والذي ورد فيه اسمه.
وأضاف المصدر أن رئيس الجمهورية وضع باقتراح من رئيس الوزراء حدا لمهام قادر عريف، وعين مكانه جان مارك توديشيني، عضو مجلس الشيوخ عن منطقة لاموزيل، كاتبا جديدا للدولة مكلفا بقدماء المحاربين والذاكرة. قال عريف بعد خروجه من القصر: «قدمت استقالتي احتراما لمسؤولياتي الوزارية»، مشيرا إلى أنه اختار بمسؤولية مغادرة المنصب الذي شغله لفترة سنتين ونصف.
وتأتي هذه الاستقالة بعد تفتيش جرى، بمكاتب مصلحة بوزارة الدفاع في إطار تحقيق حول صفقات عمومية استفاد منها أقارب قادر عريف.
وفي إحدى مقابر روما خلدت السفارة المغربية الحدث، بعبارات تأبين دون أن يتجرأ أحد من الحاضرين ويقول أمام المسؤولين الإيطاليين، إن المغاربة قدموا أرواحهم فداء لوطن ليس وطنهم وأدوا فاتورة باهظة، حيث قدر عدد الجنود المغاربة الذي قتلوا في ساحة المعركة بـ6577 قتيلا و2088 مفقودا و23 ألفا و205 من الجرحى، إضافة إلى مئات الضحايا الذين أصيبوا بأمراض أو تعرضوا لحوادث.
وقف القنصل ليعيد على أسماع الحاضرين ما قاله في الذكرى السابقة: «الجنود المغاربة الذين تم دفنهم بهذه المقبرة، ضحوا بأنفسهم في هذا المكان بعيدا عن بلدهم وأسرهم وعلى أرض لم يزوروها ولم يعرفوها من قبل، مواجهين قوة نار النازيين بميدان صعب وعسير في معركة دامت ما بين يناير وماي 1944. من أصل أربعة آلاف محارب مغربي، لم يتمكن سوى 800 من البقاء على قيد الحياة بعد خوض معارك لا مثيل لها في تاريخ البشرية».
وعود التسوية المعطلة
استبدلت فرنسا جزائريا بآخر فقبل أن يسند الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند للوزير المقال قادر عاريف، منصب وزير للدولة لشؤون قدماء المحاربين، كان جزائري آخر وهو حملاوي ميكاشيرا يدبر هذا الملف بنفس المقاربة الاحتفالية، حيث يردد في كل مناسبة إن «الدولة الفرنسية بصدد القيام بمبادرات اجتماعية وإنسانية لرد الاعتبار وتحسين معاشات وتعويضات عشرات الآلاف من الرجال والنساء، من دول المغرب والجزائر وتونس، من «إخوة السلاح» الذين ضحوا بأغلى ما لديهم ومنهم من قضى نحبه خلال حروب القرن العشرين، ولا سيما في الحربين العالميتين والحرب الهندية الصينية، في سبيل حرية واستقلال فرنسا».
زار حملاوي الرباط، وزارها من بعده مواطنه قادر عاريف، ورددا نفس الخطاب، وقبل أن يغادرا المغرب وقعا اتفاقيتين الأولى مع وزير الصحة المغربي والثانية مع مصطفى الكثيري المندوب المغربي السامي لقدماء المحاربين وأعضاء جيش التحرير، وتتعلق بتوسيع أنشطة المعهد الوطني للمعاقين بباريس، الذي يعد قاعدة تقنية لرعاية الإعاقات الكبيرة. وحين سئلا عن مبررات تأخير تسوية ملف المعاشات، قالا بنفس النبرة: «الأحسن أن تأتي متأخرة بدل أن لا تأتي بالمرة. ولكن المهم أن هناك مبادرة لتقديم العرفان لهؤلاء المحاربين القدامى، الذين ربطتهم بزملائهم الفرنسيين الأخوة في السلاح، والذين لا ننسى بأن بعضهم ضحى بنفسه من أجل أن نحيا نحن أحرارا ومستقلين، وأن نعيش في فضاء حرية وسلام».
بالأرقام تقدم فرنسا معاشات لما يناهز 35 ألفا و872 شخصا من قدماء المحاربين في دول المغرب الثلاث وضمنهم 17 ألفا و152 شخصا في المغرب و14 ألفا و243 شخصا بالجزائر و4 آلاف و477 شخصا بتونس. كما تمنح فرنسا تعويضات عن الإعاقات وأسر الشهداء وضحايا مدنيين، يبلغ عددها 21 ألفا و310 أشخاص في المغرب والجزائر وتونس. لا يقتصر التعويض على الذين شاركوا في الجيش الفرنسي أو كانوا ضحايا لحروب خاضتها فرنسا، في الحربين العالميتين الأولى والثانية وحرب الهند الصينية. هناك غموض يلف هذه الأرقام، إذ أن عدد المغاربة الذين استجابوا لدعوة الملك الراحل محمد الخامس للانخراط في تحرير فرنسا من الغزو النازي ضمن الجيش الفرنسي خلال الفترة الممتدة ما بين 1942 ونهاية الحرب العالمية الثانية في 1945، بلغ زهاء 85 ألف محارب الى جانب الجنود الفرنسيين حيث سقط خلال هذه الحرب 15 ألف قتيل، بينما تصر فرنسا على أن المعاشات تسلم لحوالي 17 ألف مغربي فقط، فما هو مصير العدد المتبقي. لكن الإشكال الكبير يكمن في الانقراض التدريجي لما تبقى من جنود عايشوا الدخان والنار في أوربا والجزائر والهند الصينية.
هناك من لجأ إلى القضاء وكثيرون فوضوا الأمر لله
انتفض مجموعة من المحاربين وأهاليهم ضد الحيف، وقرروا اللجوء إلى القضاء الفرنسي أملا في الإنصاف مطالبين بالمساواة في التعويض، أنصفت المحكمة الإدارية بمرسيليا خمسة من قدماء المحاربين المغاربة تقدموا لديها بشكاية مستعجلة من أجل رفع التجميد الذي طال لمدة طويلة معاشهم العسكري.
وحسب الصحيفة الجهوية الفرنسية «لا بروفانس» التي قامت بتغطية للحدث، فإن هذا القرار «يعطي الحق لقدماء الجنود المغاربة، الذين حاربوا من أجل فرنسا، في معاش يوازي ذلك الممنوح لنظرائهم في الجيش الفرنسي». قال موفد الصحيفة إلى المحكمة إن القاضي المكلف بالقضايا المستعجلة أقر «بالطابع الاستعجالي» لطلب قدماء المحاربين المغاربة مستندا في ذلك بالخصوص إلى وضعيتهم الاقتصادية الهشة وسنهم المتقدمة.
وسبق للمحكمة الإدارية لبوردو أن تداولت في 2008 أولى الملفات من هذا النوع، وقضت بمنح ستة مغاربة معاش تقاعد عسكري يعادل ذلك الذي يستفيد منه قدماء الجنود الفرنسيون، واعتبرت التمييز ظلما وإقصاء كبيرين وغير مقبول، حيث ظل هؤلاء المحاربون القدماء يتقاضون معاشات أقل بـ 8 أو 10 مرات من معاشات نظرائهم في الجيش الفرنسي.
إذا كانت قلة فقط هي التي لجأت إلى المحكمة، فإن الغالبية العظمى من المحاربين وأهاليهم اختاروا رفع أكف الضراعة إلى الله، فهو الملاذ في اليسر والعسر.