«منتمون» يعرضون عن صحافة أحزابهم
سأل خبير إعلامي مسؤولا حزبيا: كم يتوفر عليه من مستشارين جماعيين ونواب في البرلمان؟ وأصيب بالذهول حين وضع أمامه حزمة أرقام تقديرية فاقت عشرات الآلاف من حاملي يافطات الانتساب إلى حزبه، بينما صحيفته بالكاد توزع ألف نسخة في مجموع أرجاء البلاد.
أي مفارقة هاته تخمد جذوة الحماس، وتعيد أصحاب السياسة إلى الأرض، حين تنطق الأرقام بغير الأوهام. قراءة صحيفة لا تعني أي شيء في تحديد الالتزام السياسي، لكن دلالات الانصراف عن القراءة بالنسبة للمستشارين الجماعيين والنواب، تبقى أهم في تكييف النظرة إلى العمل الحزبي.
وإذا كان من المفيد حقا أن يبحث المنتمون لهذا الحزب أو ذاك عما يقوله خصومهم ومنافسوهم، فالأمر لا يعني الانقطاع عن تتبع أخبار وتعاليق ما تنشر صحافة يفترض أنها تتحدث نيابة عنهم.
جاء استقدام الخبير الإعلامي، مصري الجنسية، في نطاق وضع خطة لتطوير أداء صحافة الحزب، والاستفادة من تجربته، بخاصة في ظل الانتشار الواسع للصحف المصرية، بما فيها الموالية للحزب الوطني، الذي أسسه محمد أنور السادات على أنقاض الاتحاد الاشتراكي الذي كان يدعم سلفه الزعيم جمال عبد الناصر. وتحدث الخبير المصري عن كون أعضاء التنظيم الحزبي يقتنون نسخا من الجرائد ويوزعونها بالمجان على دوائرهم ومناصريهم المفترضين في المدن والأرياف، لأن ذلك يندرج في إطار الالتزام الحزبي بمعناه العملي. فقد تصبح المداومة على اقتناء الصحيفة أهم من الحصول على بطاقة العضوية. وفي وقت سابق كان الناس يشهرون قراءة الصحف للدلالة على الالتزام، خصوصا عندما كانت صحافة المعارضة تواجه الرقابة والحجز وأشكال القمع الممنهج. وليس أكثر إيحاء من اعتقال بائع صحف بتهمة الترويج لأفكار «هدامة»، مع أن الأكشاك مثل الواجهات التجارية تعرض منتوجها لمن رغب أو استطاع إليه سبيلا.
وقتذاك سادت تقليعة الربط بين الحزب وروافده الإعلامية التي تتحدث باسمه وتعرض إلى مواقفه إزاء أي حدث أو قضية. ولم يكن المغرب استثناء في هذا التوجه، لأن مرجعية صحافته ارتبطت بتجارب مشرقية، حين كان الأدباء والمفكرون يخوضون المعارك بشقيها السياسي والإبداعي. ولعل الفارق الأهم أن في بلدان عربية كان الحزب الوحيد مسيطرا، قبل انهيار قلاعه، بينما امتاز المغرب بنوع من التعددية، وإن غلب عليها الطابع الشكلي، امتثالا للبند الذي يحظر نظام الحزب الوحيد في دستور العام 1962.
غير أن ما ينطبق على صحافة الموالاة ليس نفسه الذي حفل به تاريخ صحافة المعارضة. ويوم صدرت صحيفة موالية اسمها «جريدتك»، رد القراء على نطاق واسع بأنها «جريدتكم وليست جريدتنا»، وكانت تلك من أسباب إخفاق التجربة رغم الإمكانيات الهائلة التي رصدت لها في حينه. لم يستوعب الخبير الإعلامي معنى أن تتوفر أحزاب على كل ذلك الكم الهائل من المقاعد والأصوات التي تتحدث عنها نتائج الانتخابات، في مقابل انتشار محدود لبعض الصحافة الحزبية. وحين قيل له إن المعضلة تكمن في محدودية التوزيع، نظرا لصعوبة إيصال المنتوج الإعلامي إلى أقصى الأمكنة، تساءل إن كانت علب الحليب الطازج ورغيف «العيش» وما إلى ذلك من المنتوجات الاستهلاكية، تغزو الأسواق طرية، ولماذا لا ينطبق وضعها على المنتوج الفكري، مع الأخذ في الاعتبار ثقافة القراءة ومصاريف استهلاكها.
عقب على بعض الاستفسارات، فإن المستشارين الجماعيين والنواب يشكلون الطليعة، وبالتالي لا مبرر لتقاعسهم عن نشر صحافة الحزب، أقله لناحية الاستهلاك الذاتي. وبدا من غير المفهوم لديه أن تكون صحافة بعض الأحزاب في واد، والمحسوبون عليهم من نخب التدبير المحلي والتشريعي في واد آخر. معتبرا أن الظاهرة أعمق من أن تحصر في العلاقة مع الصحافة. لكن الأرقام تكون فاضحة وتشي بغير ما يتصوره كثيرون نفوذا حزبيا تفنده الوقائع.
كانت هذه المعضلة في مقدمة الأسباب التي دفعت إلى التفكير في إيجاد حلول مشجعة لإعانة صحافة الأحزاب على الاضطلاع بدورها. وعندما صدرت الإجراءات الأولى التي قضت بمنح الأحزاب السياسية والمركزيات النقابية والصحافة التابعة لها تمويلا من موازنة الدولة، لم يكن الأمر خاضعا للمواسم الانتخابية، قبل إقرار قوانين تنظيمية بهذا الشأن، شملت الأحزاب وتمويل الحملات ودعم الصحافة. غير أن ذلك لم يغير شيئا من واقع الحالة التي وقف أمامها ذاك الخبير الإعلامي حائرا، وفي ذهنه أن العلاقة بين الأحزاب والصحافة والديمقراطية متداخلة ومتشابكة إلى حد كبير.
أراد متصرف إداري بخبرة المال والأعمال أن ينقل أحد الأحزاب إلى تجربة التدبير المقاولاتي. أغراه أن أعداد مستشاريه الجماعيين يقدر بعشرات الآلاف، وأن نوابه في البرلمان يحتلون موقعا مريحا. وحين لجأ إلى منطق الحساب للحصول على دعم هؤلاء، وإن كان رمزيا، نبتت الأرقام يمينا، إلى الحد الذي جعله يفكر في اقتناء عقارات وتأسيس شركات يصبح معها الحزب في الحل عن أي تمويل غير ذاتي. بدأ اتصالاته وهو أكثر حماسا، ثم واصلها بقدر أقل من الاندفاع عندما بدا له أن حمل صفة الانتماء شيء والمساهمة في دعم الحزب، وإن عبر اقتناء صحيفة، شيء آخر، ثم أنهى متاعبه برسوخ قناعة مفادها أنه لا يمكن إجبار الناس على فعل شيء لم يتعودوا عليه، ولا يريدون أن يتعلموا طقوسه الإلزامية في حدها الأدنى.
من يجرأ على الحديث عن الأغلبية التي توجد في الرؤوس وليس الواقع السياسي؟