ياسر عبد العزيز
تشتعل المنافسة بين وسائل «التواصل الاجتماعي» على مدار الساعة من أجل حصد المزيد من المستخدمين والتفاعلات، وبالتالي تحقيق الأرباح المجزية، لكن المنافسة بين موقعي «إكس» («تويتر» سابقا)، و«ثريدز» تبقى ذات طبيعة خاصة.. لأنها ببساطة ليست منافسة بين وسيطين إعلاميين فقط، بل بين رجلين أيضا.
ويبدو أن جزءا كبيرا من المنافسة المشتعلة بين «إكس» و«ثريدز» لا يرجع إلى كونهما يستهدفان شرائح الجمهور ذاتها فقط، أو أنهما يعتمدان آليات عمل مشابهة فقط، ولكن أيضا لأن ثمة صراعا أو تنافسا على النفوذ والتأثير بين رجلين؛ هما إيلون ماسك، مالك «إكس»، ومارك زوكربيرغ، مالك «ميتا»، التي تمتلك «ثريدز» إلى جانب نخبة أخرى من وسائط «التواصل الاجتماعي» الأكثر رواجا عبر العالم.
ففي شهر غشت الماضي، انتشرت الأخبار عن منازلة مفترضة للقتال بالأيدي العارية بين كلا الرجلين، وهي المنازلة التي كان يمكن أن تحظى باهتمام عالمي في حال تحققت، بسبب غرابة الفكرة وتفردها. ورغم أن تلك المنازلة لم تحدث حتى الآن، فإن فكرتها، وإعلان الطرفين الاستعداد لها والترحيب بإقامتها، إنما تدل على طبيعة العلاقة بينهما، وتشي ببعض أبعادها.
لقد دفع «ماسك» 44 مليار دولار أمريكي ليمتلك «تويتر»، قبل أن يدخله حاملا حوض مغسلة، ويطيح بمعظم العاملين فيه، ويجري تغييرات صادمة زعزعت مكانة المنصة، قبل أن يغير اسمها إلى «إكس»، حيث كان يأمل في أن تجلب له المنصة الأرباح، وتضعه على لائحة الأولويات الخبرية حول العالم، وتعزز قدرته على ترتيب تلك الأولويات.
الآن تبلغ القيمة السوقية لـ«إكس» نحو 19 مليار دولار، وما زال الموقع يعاني تبعات بعض القرارات الإدارية المفاجئة والصادمة وغير المدروسة، لكن «ماسك» ما زال يتمتع بالمشاركة في إرساء أولويات العالم، والبقاء على لائحة الأخبار والاهتمام الدولي بشكل يومي.
وعلى الجانب الآخر، فإن «زوكربيرغ» لم يشأ أن يكتفي بإمبراطوريته الواسعة، فقرر أن يدخل منافسا لـ«ماسك» عبر إطلاق موقع «ثريدز» في شهر يوليوز الماضي، ليتمكن من مشاركة هذا الأخير في حصة الاهتمام العالمي.
منذ أطل «زوكربيرغ» على مسرح الإعلام العالمي لم يخفت ذكره ساعة واحدة. وبينما ينتفض منافسوه، ويستنفرون قواهم، ويشحذون أفكارهم؛ لمحاولة تقاسم الكعكة الكبيرة، التي يلتهمها بشغف ونهم شديدين، فإنهم يُباغتون عادة بخطواته الجديدة، التي تخترق الأسقف، وتتجرأ على كل صعب.
أجرى «زوكربيرغ» في السنوات الأخيرة نحو 70 عملية استحواذ على شركات تعمل في مجالات «التواصل الاجتماعي» والتكنولوجيا والبيانات، في معظم قارات العالم، وهي شركات تراوحت قيمتها بين 200 ألف دولار أمريكي و19 مليارا.
لم يوفر هذا الشاب المتطلع للنفوذ منافسا إلا استحوذ عليه، أو شاركه في بيان مهمته، أو نسخ منتجاته، أو قلد أنموذج عمله.
كان «تويتر» يقف صامدا في مواجهة إمبراطورية «زوكربيرغ»، بنطاق خدمة متميز جعل منه آلية اتصال سياسي وفكري متكاملة الأركان، ومساحة يتشاركها فاعلون سياسيون ومثقفون وناشطون، ويجد فيه رجال الإعلام إجابة عن معظم الأسئلة التي تهم قطاعات واسعة من الجمهور.
لقد وجد «زوكربيرغ» أن «تويتر» يترنح، والمعلنين يسحبون إعلاناتهم، والمستخدمين يحتجون على القرارات المتضاربة، والمنصة تعاني، فلم يوفر وقتا، وراح يستنسخ أنموذج أعمالها، ويشاركها مجال اهتمامها الحصري؛ أي سبب وجودها واستدامتها ذاته.
أطلق «زوكربيرغ» «تويتر» الخاص به في يوليوز الماضي، وسماه «ثريدز»، وأدخل بعض التعديلات عليه، وضمن عشرات الملايين من المستخدمين في الساعات الأولى من الإطلاق، بعدما ربط تطبيقه الجديد بمنصته الناجحة «إنستغرام»، والآن يقول إن عدد المستخدمين النشطين على الموقع بلغ 130 مليون مستخدم شهريا.
وركز المحللون مقارباتهم لتأثير الموقع الجديد على أفكار من نوع استفادة المستخدمين من احتدام المنافسة بين مزودي الخدمات، لكن الفكرة الأهم غابت عن كثيرين؛ إذ أضحى «زوكربيرغ»، الذي تمتلك شركته «ميتا» عددا كبيرا من أهم وسائط «التواصل الاجتماعي» في العالم، رجلا خطيرا بدرجة كبيرة.
تجسد «ميتا»، عبر امتلاكها «فيسبوك» و«واتساب» و«إنستغرام»، وجديدها الطموح «ميتا فيرس»، وشبيه «تويتر» (إكس لاحقا)، المتمثل في «ثريدز»، وعشرات الشركات الأخرى التي تنشط في مجالات مختلفة، أحد النماذج الواضحة للاحتكار في عالم وسائل «التواصل الاجتماعي».
يسيطر «زوكربيرغ»، من خلال «ميتا»، باطراد على الخرائط الإدراكية للإنسان الفرد وللمجتمعات، ويتوافر على أكبر قدر من المعلومات الشخصية لمليارات البشر في دول العالم المختلفة، وهي أكبر قوة معلوماتية تجتمع في يد رجل واحد على مر التاريخ. ولعل ذلك هو أحد العوامل التي تعزز أهمية «إكس»، رغم كل تخبطات إيلون ماسك.
أما «ماسك»، فإنه لا يقل أهمية عن «زوكربيرغ» بكل تأكيد، ليس فقط لامتلاكه «إكس»، ولكن أيضا بسبب امتلاكه أو مساهمته في شركات أخرى مثل «نيورالينك» و«سبيس إكس» و«تسلا»، وأهم من ذلك مشروعه الأخير لزرع الشرائح الإلكترونية في الأجساد البشرية، لتدمج بين قدرات الدماغ البشري والذكاء الاصطناعي، وتخلق قوة جديدة جبارة، ستغير شكل العالم الذي نعرفه.
على إيقاع المنافسة بين الرجلين تتفاوت حظوظ «إكس» و«ثريدز»، كما تزدهر أعمال وسائط «التواصل الاجتماعي»، وتتحقق فوائد للمستخدمين، وتتعزز حرية الرأي والتعبير، فيما تتفاقم مخاطر «تهكير الأدمغة»، والهيمنة عليها، و«الاتجار في الخصوصية» كذلك.
نافذة:
كان «تويتر» يقف صامدا في مواجهة إمبراطورية «زوكربيرغ» بنطاق خدمة متميز جعل منه آلية اتصال سياسي وفكري متكاملة الأركان ومساحة يتشاركها فاعلون سياسيون ومثقفون