يونس جنوحي
في عهد الدولة السعدية التي حكمت المغرب في الفترة ما بين 1510 و1659، لم يكن أحد ليبالغ إن قال إنه لا يوجد فنجان قهوة أو شاي في بريطانيا، لا يوجد به سُكر تارودانت!
معمل تارودانت الذي أنشأه السعديون لهذا الغرض بالضبط، ما زالت أطلاله موجودة إلى اليوم. ورغم أن جنباته شهدت مرحلة تاريخية ذهبية من تاريخ المغرب، إلا أنها اليوم بعد أن آلت كل أركانها للسقوط، صارت مهملة لا ينظر إليها سوى أباطرة العقار الذين يحلمون هذه الأيام بتحويلها إلى مشاريع عقارية، مشاركين في واحدة من أفدح حملات طمس للهوية والتاريخ المغربيين. ما قصة معمل تارودانت؟ وكيف كان سكر المنطقة يصل إلى بريطانيا، أقوى دولة في العالم، وكادت أن تشن حربا طاحنة في أوروبا في سبيل الحصول عليه؟
مصنع سُكر تارودانت الذي وصلت شهرته إلى لندن..
لماذا لم يتعلق الأمر بمدينة أخرى غير تارودانت؟
بعيدا عن أنها كانت معقلا لانطلاق الدولة السعدية التي ارتبط اسمها بازدهار تجارة السكر المغربية وثورتها التي أوصلت السكر المغربي إلى بريطانيا وكل دول أوروبا، فإن أمورا «تكتيكية» كانت وراء إقامة مصنع للسكر في تارودانت.
منذ تأسيس الدولة السعدية سنة 1510، والسلاطين السعديون الذين تعاقبوا على حكم المغرب يفكرون في طريقة لجعل المغرب يحظى بتقدير في المنطقة، خصوصا وأن البرتغال وإسبانيا لم تكونا تجدان حرجا في التحرش بالحدود البحرية للمغرب واستعمار المدن الساحلية، سيما «مازاغان» وآسفي والصويرة، وهي المدن الثلاث التي كان المغرب يعقد عليها الأمل لتقوية الاقتصاد المغربي.
مصنع تارودانت لإنتاج السكر، الذي تأسس في هذا السياق العصيب، لكي يكون نافذة مغربية إلى العالم، ما زالت أطلاله موجودة اليوم في ضواحي مدينة تارودانت. وهناك أخبار عن اعتزام بعض أباطرة العقار، التخطيط للاستيلاء عليه بتعديل قوانين التعمير، لكن من المنتظر أن يبوء المخطط بالفشل، في ظل الحملة القوية التي خاضها المجتمع المدني في مدينة تارودانت والنواحي، للتنبيه إلى أهمية وضرورة الحفاظ على ما تبقى من دلائل على المجد الذي عاشه المغرب عندما كان مصنع تارودانت يُنتج السكر لتزويد أضخم سوق عالمية وقتها بحاجتها من المادة التي كانت تتربع على عرش الغذاء في العالم!
وأشار العالم المغربي الإدريسي، وهو أحد أقدم المؤرخين المغاربة إلى فترة السعديين، وأشهر كُتبه هو «الاستبصار»، حيث تحدث فيه عن منطقة تارودانت وعلاقتها بإنتاج السكر، قائلا: «وبلاد سوس قرى كثيرة، وعمارتها متصلة بعضها ببعض، وبها من الفواكه الجليلة أجناس مختلفة، وأنواع كثيرة كالجوز والتين والعنب والمشمش والرمان والخوخ والتفاح وقصب السكر الذي ليس على قرار الأرض مثله طولا وعرضا وحلاوة وكثرة ماء، يعمل ببلاد سوس من السكر المنسوب إليها ما يعم أكثر الأرض، وهو يساوي السكر السليماني والطبرزد، بل يشف على جميع أنواع السكر في الطيب والصفاء».
ليس هذا وحده ما جعل سكر تارودانت، بحسب هذا المؤرخ المغربي، يحظى بالمكانة التي وصل إليها، وإنما أيضا الإمكانيات التي كان وقتها يوفرها مصنع تارودانت، الذي تفوق على مصنع الصويرة الذي أنشأه السعديون أيضا للغرض نفسه، فقد ركز السعديون وقتها كل الإمكانيات المتاحة لإقامة مصنع تارودانت وجعله قادرا على إنتاج ما يسد حاجة السوق.
هذه السوق كانت مكونة من الشركات البريطانية أساسا، والتي حصلت على عقود احتكار وقعتها الملكة إليزابيث الأولى مع المنصور الذهبي، وكلاهما جمعت بينهما صداقة متينة، وخططا لتقوية العلاقات المغربية البريطانية، بل وخوض حروب معا، يتحد فيها الجيشان المغربي والبريطاني، وكانت الملكة إليزابيث الأولى تنظر إلى المغرب كبلد مواز لبريطانيا وقتها في الإمكانيات التجارية والعسكرية، حتى أنهما، أي الملكة إليزابيث والسلطان المنصور الذهبي، توفيا في السنة ذاتها، 1603، وكانا يتبادلان قبل وفاتهما أشهر الرسائل -لا يزال أرشيفها متوفرا لدى التاج البريطاني- يتذاكران فيها حول مخططات لتوسيع نفوذ انتشار السكر المغربي في أوروبا وآسيا، بل وفكرا معا في خوض حرب ضد الهند وجعل تجربة الجيش المغربي في إفريقيا بين يدي بريطانيا، بعد الهزائم التي مني بها الجيش البريطاني أثناء المواجهات في الهند.
قصة مبعوث إليزابيث الأولى لتأسيس أول شركة لاستيراد السكر
أما عن قصة وصول الإنجليز إلى إبرام اتفاق مع المغرب لكي ينفردوا بشراء سكر تارودانت، دونا عن بقية الدول الأوروبية الأخرى، فلا يوجد أدق مما جمعه الباحث البريطاني السيد روجرز، عندما أرخ للعلاقات المغربية البريطانية منذ عهد السعديين وصولا إلى العلويين. إذ ذكر ما كتبه سفير بريطاني روبرتس، وهو يتحدث في رسالة رسمية عن رحلته إلى المغرب، لكي يبرم اتفاقية لاستيراد السكر المغربي. وقد جاء في رسالة السيد روبرتس ما يلي: «استقبلنا كبار تجار شركة بلاد البربر خارج المدينة، والذين تراوح عددهم بين أربعين وخمسينا، وقد امتطى كل منهم جوادا، وخصصت لي أنا والسفير مركبة كبيرة، وتقدم بنا الموكب لندخل المدينة، يوم الأحد 12 يناير 1589».
لم يكتب لهذه التجربة أن تنجح، لأنها توقفت بعد مدة، لكنها كانت بداية لتجارب أخرى كللت بالنجاح، واستطاع الإنجليز بموجبها أن يستوردوا كل السكر المغربي نحو بريطانيا، وراكم المغرب بفضلها أرباحا اعتُبرت وقتها خيالية، حتى أنها انعكست إيجابا على الجيش المغربي الذي مول بها مصاريف توسيع الحدود المغربية نحو إفريقيا.
بالعودة إلى موضوع الشركة، التي أشرف المبعوث «روبرتس» عليها، فهذا هو سياق نشأتها، كما ذكره المؤرخ روجرز.
فقد بعثت الملكة إليزابيث الأولى إلى المغرب سنة 1585، رسالة مفادها أنها تقترح على السلطان أحمد المنصور إقامة شركة باسم «شركة بلاد البربر»، وهي شركة بريطانية رسمية أرادت لها الملكة إليزابيث أن تتعاقد مع المغرب لمدة 12 سنة، تكون خلالها الشركة هي المحتكر الوحيد لجميع الأنشطة التجارية مع المغرب. وكان الممثل الرسمي للشركة في المغرب هو البريطاني «هنري روبرتس»، وقد جاء إلى المغرب في السنة نفسها، قادما من لندن بتوصية خاصة من الملكة إليزابيث لينقل أوراق الشركة، وقرار اعتماده إلى قصر مراكش، حيث كان يقيم أحمد المنصور.
كان الغرض بالأساس من إنشاء الشركة هو قطع الطريق أمام بعض التجار الأجانب الذين كانوا يستغلون انفتاح بلدهم بريطانيا على المغرب، ويتاجرون في السلاح وبعض السلع التي كان وجودها بالمغرب مزعجا، مثل الأقمشة الرخيصة وبعض السلع التي يأتي بها التجار الإنجليز من آسيا، ولم تكن تلقى أي رواج في المغرب.
وهكذا كانت الشركة بوابة احتكارية للتجارة مع المغرب، وهو الأمر الذي قوى حظوظ البريطانيين، لكنه طوق المغرب اقتصاديا، ولم يعد مسموحا للدولة المغربية ولا التجار المغاربة بتوسيع نشاطهم، وإنما كانوا ملزمين باحترام العقد الاحتكاري.
لكن المغرب لم يفطن سريعا إلى الأمر، واعتبر أن العقد الرسمي سيغلق باب المشاكل مع التجار الأجانب الذين كانوا يتهربون من أداء الضرائب للدولة المغربية. حتى أن المنصور كتب في إحدى المراسلات الرسمية التي يعود تاريخها إلى سنة 1588 أنه يتعهد بتوفير الحماية للإنجليز الوافدين على المغرب. وبقيت الأمور منسجمة إلى درجة أن «هنري روبرتس»، ممثل الشركة، عندما قرر مغادرة المغرب، لحقه مبعوث مغربي خاص اسمه مرزوق الرايس ليقترح عليه العودة.
الخريطة المنسية لقصب السكر المغربي
ورد في واحد من أقدم البحوث المنشورة في المغرب، وصف دقيق لخريطة إنتاج السكر في المغرب، وحتى الموارد التي كانت تُعتمد لهذا الغرض.
ولحُسن حظنا أن منشورات وزارة الأوقاف المغربية، حفظت عددا من الأبحاث التي نشرت على شكل مساهمات من باحثين ومؤرخين مغاربة، في مجلات ودوريات تطبعها وزارة الأوقاف منذ بداية ستينيات القرن الماضي.
وهنا نورد مضمون ورقة علمية توجد في أرشيف المكتبة الوطنية، في المنشورات الخاصة بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، والتي تعود إلى العددين 111 و112 من مجلة «دعوة الحق»، جاء فيها: «عرفت زراعة قصب السكر فنقسمها إلى ثلاث مجموعات :
– مجموعة الشمال بما فيها طنجة وسبتة وسلا.
– مجموعة الحوز بما فيها شيشاوة والصويرة وحوض نهر القصب ووادي نفيس وزاوية سيدي شيكر.
– مجموعة سوس، حسب المعنى الذي سبقت الإشارة إليه.
ومن المعلوم أن زراعة قصب السكر هذه لن تكون لها أية فائدة ما دام لم يتم تصنيعها، والصناعة تحتاج إلى قوة محركة، فمن أين حصل الفنيون في هذا العصر على القوة المحركة لإنجاز هذا العمل الهام؟ قد اعتمدوا في ذلك على القوة المائية، فالمعامل التي اكتشفت آثارها تحتوي كلها على سواق تجلب فيها المياه من مناطق بعيدة أو قريبة. ويهمنا هنا أن نلاحظ أن المغرب قد تخطى مرحلة استخدام القوة البشرية أو الحيوانية لإدارة هذه المعامل، فاعتمد على قوى الطبيعة، وأنجز الصناع من أجل ذلك مشاريع هائلة. ولا يخفى أن بعض معامل السكر كانت في ملك بعض الأشخاص، وخاصة اليهود، وقد كان بناؤها يكلف أموالا طائلة. فقد ورد في إحدى الوثائق أن محمد الشيخ بعد أن تم له فتح فاس، أمر بإنشاء سبعة معامل للسكر في تارودانت كانت تكلفه كل عام 7500 مثقال، وكان يكلفه إنتاج السكر الذي كان يصنع في كل منها 15000 مثقال. إذا أخذنا بعين الاعتبار الأموال الطائلة التي كان يتطلبها بناء معامل السكر، وكثرة اليد العاملة، وما ينتج عن ذلك من ازدهار في الصناعة وفي الحركة التجارية، أمكننا أن نقول إن المغرب كان على أبواب تغيير جوهري وجذري في ميدانه الاقتصادي، لولا ما وقع في داخل هذه البلاد العزيزة، وفي خارجها من أحداث خطيرة جعلت التاريخ يكون في غير صالحها.
إن المياه التي تحرك عجلات هذه المصانع في حاجة إلى أن تجلب من مصادرها، وإلى أن ينظم استغلالها حتى تأتي بالنتائج المرجوة، سواء في ميدان الري أو في ميدان الصناعة. فقصب السكر يحتاج إلى ما يقرب من 1500 مليمتر من الماء، ونحن نعرف أن ناحية الجنوب لا تتوفر على تساقطات تعادل هذه الكمية فتضمن الإنتاج، ولا نستطيع أن نزعم أن المناخ قد تغير هذا المغير الكبير، وأن الأمطار كانت تضمن الإنتاج.
ولقد أظهرت البحوث أن الماء كان يجلب من الأنهار، فإذا كانت هذه الأنهار غزيرة المياه كنهر سوس وتانسيفت اقتصر على جلب الماء منها وحدها، وإن كانت معرضة للجفاف أو تقل بها المياه، أضيفت إليها مياه العيون القريبة». وواصل المقال الإشارة إلى مواقع هذه الأنهار بالضبط، وذكر أن أهمها مياه وادي سوس، الواقع بالقرب من مدينة تارودانت، والذي ما زالت مياهه إلى اليوم العصب الذي يمد المنطقة كاملة بالحياة.
هكذا كان قصب السكر أهم من الذهب
في الدراسة نفسها، والتي تبقى غاية في الأهمية بحكم غزارة المعلومات التي ضمتها، نجد ما يلي: «المواد التي كان المغرب يستبدل بها مادة السكر هي مواد لم تكن تمتلكها إلا الدولة. فالمغرب كان يتاجر مع كل من بريطانيا وإيطاليا وفرنسا، فكان الإنجليز يزودونه بدلا من السكر بأنواع الثوب الرفيع، وكان يستخدم منه كساء للقواد والحراس.
فقد جاءت سفن (توماس ويندهام) محملة بالثياب في سنة 1552 م، وكان الثوب المحبب من قبل الشرفاء هو المسمى (برناطة)، أما في إيطاليا فقد كانت تجلب مواد الرفاهية وعلى رأسها الرخام الذي كان يستبدل وزنا بوزن، وأما الفرنسيون فقد كانوا يجلبون أنواعا أخرى من الثياب يستغلها الجيش في صنع الخيام.
غير أن الفائدة العظمى التي كان السعديون يجنونها في تجارة السكر، هي حصولهم على الأسلحة من الإنجليز والفرنسيين الذين كانوا يبيعونها إلى المغاربة ضاربين عرض الحائط بالحصار المسيحي المضروب على الدول الإسلامية. فقد كتب أحد سفراء البرتغال في إنجلترا في سنة 1522 يقول إن الأمة الإنجليزية والفرنسية حققتا منذ عشرين سنة فوائد هامة من تسليمها إلى الشريف – مخالفين القوانين الإلهية والإنسانية – كمية هائلة من الأسلحة.
وفي مذكرة لفرانسيسكو جيرالدي، سفير البرتغال في لندن، بتاريخ 5 مارس1577، أشار إلى أن شحنة من العدد الحربية قد أرسلت إلى الشريف من طرف عملاء إنجلترا، وأنها ستعرض لهم بالسكر وملح البارود (..)
كل هذا يدل دلالة واضحة على أن الدولة كانت تمسك بيدها زمام الأمر في ما يتعلق بزراعة هذه المادة وصناعتها وتجارتها، وأن السبب في ذلك راجع بالدرجة الأولى إلى القيمة الاقتصادية التي كانت لهذه المادة، فلقد كان ثمن السكر غاليا جدا، وكان استهلاكه مقصورا على الطبقات الغنية، كما كان يستعمل كوسيلة في وسائل علاج أمراض الصدر. فقد كانت تجارة جد مربحة، وكان من أهم موارد الثروة والغنى، ولم تكن تنافسه كبضاعة تصدر إلى الخارج أية مادة أخرى. نعم لقد كان الإجراء الذي اتخذه السعديون بتحريم تصدير الذهب وملح البارود إلى الخارج، سببا مباشرا في إفساح المجال للسكر بأن يحتل المرتبة الأولى بين المواد المصدرة».
وعلى ذكر الإنجليز، فإن بريطانيا تبقى أهم دولة أبرم معها المغرب معاهدات وعقود احتكار لاستيراد السكر المغربي إلى بريطانيا، عبر التاريخ، وذلك منذ أيام الدولة السعدية. وهناك وثائق في أرشيف خزانة قصر برمينغهام تشهد أن بعض العقود تعود إلى فترة القرنين 16 و17، وبعضها يعود إلى فترة 1650، أي قبل تسع سنوات فقط من سقوط الدولة السعدية، وهو ما يعني أن هؤلاء الإنجليز بقوا على اتصال بالدولة السعدية إلى آخر أيامها، واستفادوا من اتفاقيات تجارية، خصوصا في مجال استيراد سكر تارودانت عبر شركات بريطانية فتحت فروعها في كل من الصويرة والجديدة.
عندما كاد السُكر المغربي أن يتسبب في الحروب
في بعض الوثائق المحفوظة في الخزانة الملكية، ورد أن اليهود المغاربة المشرفين على سير مصانع السكر في كل من الصويرة وتارودانت، زودوا القصر الملكي بأموال طائلة مول بها المغرب حربه ضد البرتغال.
هذه الحقيقة التاريخية ليست مفاجئة بالنسبة إلى الذين اطلعوا على أرشيف الوثائق التي ورثها العلويون بعد سقوط حكم السعديين. فقد حرص كُتاب الدواوين في عهد السعديين، إلى حدود سنة 1559، على تدوين مداخيل تجارة السكر والأموال المترتبة على التصدير، في وثائق كانت تُرفع إلى مراكش.
وعندما قامت الدولة العلوية أعطى الأشراف العلويون، خصوصا مولاي علي الشريف وابنه الرشيد، ثم مع المولى إسماعيل أيضا، أوامرهم لكي تحفظ كل المخطوطات والوثائق التي خطها العلماء وجامعو العلوم والفقه، ومن بين الوثائق التي حُفظت، تلك التي لها علاقة بمداخيل الدولة السعدية من تجارة السكر ونسخ الاتفاقيات والمراسلات التي كان يتوصل بها المغرب من الملكة إليزابيث الأولى بهذا الخصوص.
فقد كان السكر المغربي سببا مباشرا في مشاكل في أوروبا، وكاد أن يتسبب في حروب بين دول أوروبية بعينها، مثل فرنسا وإسبانيا والبرتغال، وحروب أخرى ضد المغرب.
خصوصا وأن تجارة السكر المغربي، اعتمدت أساسا على ميناء الصويرة، بحكم قربه من تارودانت، وكان الميناء الأول المعتمد لتصدير سكر تارودانت نحو بريطانيا، بموجب العقود المبرمة بين المنصور الذهبي والملكة إليزابيث الأولى.
وهو ما لم يُعجب البرتغاليين الذين كانوا يسيطرون على واجهة المحيط الأطلسي حتى عهد قريب، وهددوا بشن حروب ضد المغرب، وفعلا وقعت مواجهات بحرية، لكن البرتغاليين انهزموا في بعضها، بفضل تمويل المغاربة جيدا لأسطول السفن المغربية، في ظل وجود سيولة مالية مهمة، يعود الفضل في توفرها إلى ازدهار تجارة السكر بين المغرب وبريطانيا.
واقعة أخرى كادت أن تؤدي إلى حرب طاحنة بين فرنسا والمغرب أيام السعديين، ما وقع عندما رفض السلطان المنصور السعدي أن يرد على رسالة فرنسية وصلت عن طريق سفينة فرنسية تطلب إبرام اتفاق بين المغرب وفرنسا، ضدا على العقد الاحتكاري الذي ربط بريطانيا والمغرب، والذي كان في الواقع ترجمة للصداقة المتينة بين الملكة إليزابيث والمنصور الذهبي. وكما كان متوقعا فقد رفض المنصور الذهبي أن يمنح الفرنسيين امتياز استيراد السكر المغربي ولم يضح بعلاقته بالإنجليز، وهو ما نقله التجار البريطانيون في الصويرة إلى الملكة إليزابيث بكثير من الانتشاء، وهو ما جعل الفرنسيين يصممون على التهديد بقصف ميناء الصويرة، حيث كانت توجد مقرات الشركات البريطانية المستورد الوحيد للسكر المغربي نحو أوروبا. لكن تدخل الملكة إليزابيث وتأكيدها على أحقية بريطانيا في احتكار السكر المغربي بموجب المعاهدة بين البلدين، جعل الفرنسيين يعيدون التفكير مرتين قبل أن يشنوا أي هجوم ضد المغرب.
السكر المغربي، جعل الملكة إليزابيث تلجأ إلى المنصور الذهبي في أكثر من مناسبة، وهي تعلم جيدا أن خزائن أموال الدولة المغربية مكتظة بالأموال المتراكمة من أرباح صادرات السكر المغربي، وطلبت خدمات السلطان المنصور السعدي، حتى أن الدولة السعدية في فترة من الفترات فكرت في التحالف مع بريطانيا، وإشعال حرب في آسيا واستعمار الهند، ولم تكن الملكة إليزابيث الأولى لتقبل هذا المخطط من دولة أخرى لولا أن الأمر كان يتعلق بالمغرب، فقد أسرّ إليها مستشاروها إلى أن الجيش المغربي كان قويا جدا، وذكروا لها ما وقع من معارك في الغرب الإفريقي، عندما ذهبت القوات المغربية لتوسيع انتشار الدولة المغربية وتجاوزت حدود السينغال، وكان الفضل لتجارة السكر في توفير أموال تلك الحملات العسكرية. المستشارون الإنجليز أخبروا الملكة إليزابيث الأولى أن الجيش المغربي الذي استطاع تحمل مناخ إفريقيا القاسي، سوف ينتصر في آسيا بكل سهولة.
«مازاغان».. مدينة استردها المغاربة ليتربعوا على عرش تصدير السكر
في عهد عبد الله الغالب تحديدا، الذي حكم المغرب ما بين سنتي 1557 و1574، جرت وقائع هذه الحرب لاسترداد المدينة من الاستعمار البرتغالي الذي استمر بها لسنوات، كان خلالها المغرب مجبرا على أداء غرامات مرتفعة للبرتغاليين، لذلك كان الانتصار في حرب «مازاغان» استردادا لكرامة المغرب، ووصلت أخبار الانتصار إلى أقصى الشرق، حتى أن المؤرخين كتبوا عنها واعتبروها انتصارا إسلاميا.
وحسب ما رواه المؤرخ البريطاني «جوناثان هانثر» الذي كان ما بين سنتي 1964 و1980، مهتما بتاريخ حروب ضفتي المحيط الأطلسي وألف عنها كتابه «تاريخ المحيط المنسي»، فإن معركة «مازاغان» التي انتصر فيها المغرب استمرت لأسابيع طويلة وانتصر فيها المغرب على مراحل، انتهت بالانسحاب النهائي للبرتغاليين، بعد أن تركوا وراءهم سفنا مخربة ومؤنا محروقة عن آخرها، ولم يحدث الانسحاب إلا بعد أن تأكد قادة جيش الملك البرتغالي من أنه يستحيل التقدم عسكريا على مستوى سور المدينة. ومما وصف به هذا الباحث تلك الحرب، حسب ما توفر لديه في وثائق الأرشيف: «انتصار قوات الملك المغربي عبد الله السعدي الذي حاز لقب «الغالب»، كان تشريفا دينيا، واعتبر معجزة في تلك الفترة، بحكم أن الجيش البرتغالي كان متقدما جدا مقارنة مع نظيره المغربي. نتحدث هنا عن أزيد من خمسة آلاف سفينة حديثة بمعايير ذلك الوقت، كانت مزودة بمدافع قوية لم يكن يتوفر عليها المغرب.
كان البرتغاليون يسيطرون على المدينة ويطوقون مداخلها ومخارجها لسنوات، ويستغلون ميناءها لاستيراد السلع من إفريقيا وتصديرها صوب البرتغال، دون أن يدفعوا لخزينة الدولة المغربية. ونشأت عداوة كبيرة بين البلدين لهذا السبب، تم استثمارها على مستوى الجيش المغربي الذي كان يتكون من مجاهدين وليس من جنود يتلقون أجورا في آخر الشهر وحسب. كانت معركة استرجاع المدينة في عهد السعديين، حيث كانت الدولة المغربية وقتها تسيطر على تجارة السكر وتقيم علاقات وطيدة جدا مع بريطانيا، مصيرية لأنها تهدد مستقبل الدولة.
استمر التحضير للمعركة من الجانب المغربي على مستوى الأرض، وأيضا على مستوى البحر، حيث برزت قوات السعديين قادمة من تارودانت في اتجاه «مازاغان»، بينما قوات أخرى تحركت بحرا. أسطول مكون من مئات السفن المغربية رجالها يحملون سيوفهم وعلى استعداد للانقضاض على سفن البرتغاليين، التي كانت ترسو بهدوء فوق مياه «مازاغان». اختلف المؤرخون في تحديد مدة المعركة، إلا أنها كانت تتجاوز الثلاثة أسابيع».
هناك من تحدث عن حصار للبرتغاليين استمر لأشهر، لكن الرواية التاريخية الأقوى من حيث المصادر تؤكد أن المغرب استغل الطقس الممطر، وطوق الجديدة ومنع البرتغاليين من الوصول إلى المياه ومن التزود بالدعم من البرتغال، واستمرت المواجهات قبل أن يعلن البرتغاليون استسلامهم وانسحابهم النهائي من «مازاغان»، بعد أن تم تدمير مينائها بالكامل، بسبب القصف.
فور انتصار المغرب، تلقى الملك السعدي أولى التهاني من الليبيين، الذين أرسلوا إليه الهدايا مهنئين على الفتح الإسلامي الذي اعتبروه انتصارا لكل المسلمين. بينما كانت بريطانيا من أولى الدول التي دعت المغرب إلى التهدئة.
اشتهرت مرحلة حكم عبد الله الغالب، بإطلاقه إصلاحات كبيرة لمدينة «مازاغان» على مستوى سورها وأيضا على مستوى مينائها التاريخي، الذي كان الوحيد تقريبا في المنطقة. واستغرق الأمر خمس سنوات تقريبا، لكي يحاول البرتغاليون فتح باب الحوار مع المغرب لتوقيع اتفاقية للسماح للسفن البرتغالية بالعبور صوب الدول الإفريقية من الحدود مع «مازاغان».