شوف تشوف

الرأي

من يدفن الماضي؟

في أي انتخابات، يكون على المترشحين القدامى والجدد أن يقولوا ما فعلوه، وما يعتزمون القيام به سلفا. وخرج مترشح عن القاعدة، داعيا منافسيه إلى الإقرار بما لم يفعلوه، إما تقصيرا أو تجاهلا، أو عمدا مع سبق الإصرار على فعل ما يعتقد الناس بنفعه في دنياهم.
وبسبب أن الحملات الانتخابية لم تكن تترك قضية حزبية أو حتى أخلاقية، إلا وبعثتها من الرماد، ألغى المشرع من ذهنه فكرة المنافسات على دورين، لأن حبال المودة تقطع منذ البداية، ويصعب على من اتهم خصمه بأشد ما قال الإمام مالك في مساوئ الخمرة، أن يعود عن رأيه ويدعو أنصاره للتصويت لصالحه. ففي المنافسات الانتخابية يبقي أشد الناس عداوة لبعضهم على خيوط وحظوظ الرجعة.
ولولا أن هذه الصفة لازمت أشواط المنافسات، لما تمكن فريق من التحالف مع خصم الأمس، ولما كان في مستطاع خصم اليوم أن يصبح حليف الغد. فقد تنابز الاستقلاليون والاتحاديون بما يكفي من الألقاب والنعوت التي شملت توزيع صكوك الرجعية والتقدمية، ثم تناسوا الماضي الذي دفنه الكاتب عبد الكريم غلاب. وسبق الاستقلاليون إخوانهم في الاتحاد الاشتراكي للمشاركة في حكومة قادها أحمد عصمان، زعيم تجمع الأحرار، قبل أن يفتح عبد الرحمن اليوسفي صدره لكل الأطياف، ضمن ما عرف بتجربة التناوب.
أما القائلون بالخطوط الحمراء في تحالفات الاتحاديين وغيرهم مع الإسلاميين، فإنهم لن يتناسوا أن «العدالة والتنمية» ساند حكومة اليوسفي، من دون أن يشارك فيها. ولربما أن الوزير الأول الأسبق فكر في احتمال أن يصبح للإسلاميين ما هم عليه من نفوذ انتخابي لاستبدال تحالفات منذ ما يقارب العشرين عاما.
لنعد إلى أصل الحكاية التي ترجع إلى أبعد من ذلك الزمن. كانت الحملة الانتخابية على أشدها في دوائر ملتبسة في دكالة. ولما علم المترشح محمد أرسلان الجديدي بطبيعة الانتقاد الذي كاله إليه أحد خصومه، صاح في تجمع خطابي: «يقولون بأنه يجب أن نتكلم عما لم نفعله، فكيف يستوي المنطق، وأنا لم أكن نائبا قبل اليوم؟».
لم يخالف الحقيقة، فقد توافرت ظروف جعلته يمتطي جواد الوزارة قبل أن يعد سرج الركوب النيابي، وليس صحيحا أن الوزارات لا يقترب منها إلا العارفون، العلماء في اختصاصاتهم. فقد دنت لمن كانوا أقل تأهيلا منه. ولما كانت الزعامات الحزبية تنحصر في شهادات «العالمية» السياسية لدى أمثال عبد الرحيم بوعبيد ومحمد بوستة وعبد الله إبراهيم وعلي يعتة، خرق أرسلان الجديدي كافة المعايير وأصبح يرأس حزبا سياسيا. من المفارقات أنه دفع به إلى أعلى ليتحمل مسؤولية وزير دولة، ندا للند إلى جانب أحمد عصمان وعبد الرحيم بوعبيد والمحجوبي أحرضان والمعطي بوعبيد.
لا يمكن لأحد أن يشطب اسمه كما وزراء آخرين، لم يكونوا نوابا بالضرورة زعماء أحزاب، بل ساقتهم المكاتيب، أحيانا برداء حزبي، يوم كان يجري البحث عن الكفاءات والأطر، فيندس بعضهم إلى الصفوف الأمامية للأحزاب. وتارة بقفازات قبلية وجهوية لتأكيد تمثيلية كل المناطق. وفي أخرى عبر وساطات أقرب الأقرباء. لكن الانتماء النقابي الذي كان يخيف تحول قوارب نجاة إلى الضفة الوزارية.
ليس مصادفة أن أرسلان الجديدي القادم من «الاتحاد المغربي للشغل» سيتم تعيينه بموازاة استقطاب المعارض عبد القادر الصحراوي الآتي من تخوم المعارضة الاتحادية، وآفاق المقاربة حينها على أسماء وزراء غير معروفين، من بينهم منير الدكالي في الشبيبة والرياضة، إمعانا في سياسة الاستقطاب التي كانت بدأت مبكرا من خلال استمالة قياديين بارزين في حزب الشورى والاستقلال.
أثناء المهرجان الخطابي الذي كان يرأسه محمد أرسلان الجديدي، رفع أحد الحاضرين صوته معاتبا بالقول: «لقد كنت وزيرا»، فرد عليه الجديدي: «نعم. دور الوزير أن يشتغل في الرباط أما النائب، فإن مجال عمله هو ساحة الميدان». ووعد الجمهور بأنه سينقل مكتبه إلى الجديدة. ومن يومها سجل اسمه ضمن لوائح المتغيبين الذين «ينجحون» عن طريق الامتحان بالمراسلة. وحين رسب في آخر مواجهة انتخابية، تذكر الأشياء التي لم يفعل لفائدة ساكنة دائرته المنكوبة، وقرر ألا يعاود الترشح، إلا إذا ضمن الفوز في جيبه.
نحن في فترة لا تعير اهتماما لما يمكن أن يصدر عن صناديق الاقتراع، بل بما يجب أن يكون عليه توزيع الخرائط، بما لا يخلط الأوراق والتوقعات. فقد اهتدت السلطة السياسية إلى القول بتحريم تزوير الانتخابات، وأنشأت لهذه الغاية لجانا وطنية للإشراف على نزاهة استحقاقات كانت تبدأ أو تنتهي عند نفس المنطلق، وكان كبار مهندسي المشهد السياسي يجترحون من صلب تلك الممارسات فكرة وحيدة تقول بأنه يتعين الاقتناع بتعددية ما، وإن كانت شكلية وبعدها يصبح لكل حادث حديث.
بدأ أرسلان الجديدي مساره السياسي في النقابة، ولفت العيون والآذان إلى خطاب موغل في القبلية وحرفية الصراع بين المدن والبوادي التي كان ينظر إليها كخزان انتخابي لا يحيد عن ضوابط الموالاة. لم لا، فإن تشكيل حزب يرفع شعار الدفاع عن العالم القروي، يمكن أن يجد لنفسه مرتعا للحضور والتمدد، خصوصا وأن مواسم الجفاف وانحباس الأمطار يفتحان عيون المغاربة على الأوضاع في البوادي. ومادام هناك في محيط السلطة السياسية من يدفع في هذا الاتجاه، فلا بأس من تجريب هذه الوصفة التي صيغت في شكل برنامج حزبي.
أبناء البوادي درسوا وتعلموا وأصبحوا أطرا وكفاءات في شتى أصناف المعرفة والتدبير. وقد فرض تجديد النخب الحزبية والسياسية نفسه على الجميع. حيث سيتراجع منسوب الحضور القوي لمدن بعينها في الاستئثار بالسلطة ومراكز النفوذ الاقتصادي والتجاري. وهكذا تأتى لمحمد أرسلان الجديدي استعارة خطاب المظلومية، باسم فئات وجهات لم تنل حظها في التنمية وفك العزلة وإقامة المشاريع المتكافئة.
على قدر العرض والطلب، تبوأ أرسلان الجديدي مكانته، ولم يكن ينزعج لملاسنات بعض الرأي العام التي صبغت في شكل طرائف ونكت. فقد كان يروي نفس مضامينها على خصومه.
وحدث أن الطلب تغير كما العرض، لأن الناس لم يكونوا مهتمين بما يقوله أرسلان الجديدي، أو بما يفعله أو لا يفعله، إلا بمن يحرك الخيوط عن بعد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى