شوف تشوف

الرأيالرئيسية

من فمك أُدينك

دعت مجموعة يمينية متطرفة فرنسية، تطلق على نفسها تسمية «الحذر من الإعلام»، إلى التظاهر أمام مقر صحيفة «لوموند» في باريس. وحسب بيان المنظمين، يهدف تحركهم إلى الاحتجاج على «الإعلام الموجه والخاضع والمشوه للحقائق». وتتركز حجتهم في ادعاء أن الإعلام، الذي يسمونه التقليدي، خاضع لإرادة الدولة القائمة والممثلة، حسب تعبيرهم، بقصر الإليزي، حيث رئيس الجمهورية، إضافة إلى رجال المال المقربين من صانعي السياسات. كذلك فإنهم، بخطوتهم هذه، يحاولون – كما يدعون- الاحتجاج على حجب وسائل الإعلام الرئيسية آراءهم، وعدم السماح لهم بالتعبير عنها في صفحاتها وعلى شاشاتها. بل ويتهمون وسائل الإعلام بشيطنتهم وتسميتهم أصحاب نظرية المؤامرة، إنْ هم خرجوا عن مسار ما يسمونه القطيع الخاضع. تقترب هذه المجموعة اليمينية المتطرفة، في مواقفها من حزبي اليمين المتطرف الرسميين في فرنسا، ولكنها لا تخضع لهما. ومن المعروف، قبل أن تصبح العنصرية والرهاب من الإسلام والعداء للأجانب والخضوع لروسيا ورفض المشروع الأوروبي وسواها من الأمور سهلة التداول في الخطاب السياسي الدارج، أن أحزاب اليمين المتطرف كانت هي أيضا تتهم باستمرار الإعلام التقليدي بتهميشها وتضعه دائما مسؤولا عن الصورة السلبية التي تظهر بها. تغيرت الحال اليوم، وصار لممثلي أحزاب اليمين المتطرف المعترف بها قانونيا ظهور إعلامي بارز. في المقابل، لا شيء يمنع خطاب المتطرفين عموما، واليمينيون المتطرفون ليسوا وحدهم في ذلك، من توجيه أصبع الاتهام إلى الإعلام، ربما عن حق في نادر الأحيان، بتغييب صوتهم والاكتفاء بالخطاب المُجمع عليه من أصحاب القرارين، السياسي والمالي.

وفي الوقت نفسه تقريبا، وبفارق زمني لا يتعدى ساعات، قررت الحكومة الإيرانية، قبل أيام قليلة، إغلاق مقر المعهد الفرنسي للأبحاث في طهران، الذي حافظ على استمرارية عمله حتى في أصعب الأزمات التي مرت بها العلاقات الدبلوماسية بين البلدين. وقد تأسس هذا المعهد سنة 1983، وذلك بعد سنوات من قيام ما يسميها أصحابها «الثورة» في إيران. وقد تشكلت هذه المؤسسة البحثية بعد عملية الدمج التي وقعت بين البعثة الأثرية الفرنسية في إيران، التي تأسست عام 1897، مع المعهد الفرنسي للدراسات الإيرانية الذي أسسه عام 1947 الفيلسوف الفرنسي هنري كوربان (1903 – 1978) في طهران. أما السبب الذي أعلنته طهران لإغلاق هذه المؤسسة الأكاديمية، فهو تخصيص صحيفة «شارلي إبدو» الساخرة ملفا دعت إلى المساهمة فيه عديدا من رسامي الكاريكاتير الإيرانيين والعالميين، تعبيرا عن التضامن مع احتجاجات الشعب الإيراني المستمرة منذ أشهر، مع التركيز على السخرية من المرشد الأعلى، علي خامنئي. وقد اختار القائمون على هذه الصحيفة الساخرة تاريخ النشر مع اقتراب موعد رمزي هام بالنسبة إلى الفرنسيين، وهو السابع من هذا الشهر، إذ يصادف هذا اليوم مرور ذكرى الهجوم الإرهابي الذي تعرض له مقر الصحيفة سنة 2015، وأودى بحياة عدد كبير من رساميها المشهورين، بسبب نشرها رسما كاريكاتيريا مس قداسة رمز ديني إسلامي.

وبعيدا عن الجدل الضروري في حرية الإعلام الغربي النسبية، وتأثير مراكز السلطة والمال في توجيه اختياراته وخطابه، وهو ما يحتاج مجلدات واسعة للإحاطة به موضوعيا، فإن من اللافت التشاركية في النظر إلى دور وسائل الإعلام وعلاقاتها بين مجموعة متطرفة غير حاكمة ومجموعة متطرفة حاكمة. فالطرفان يعتقدان أن الإعلام يخضع لإرادة المؤسسة السياسية الحاكمة والمرتبطة ضمنا بقوى المال. رفض رئيس تحرير «لوموند»، مثلا، أن ينشر مقالا لمتطرف يميني أو يساري يُشكك في الطب وبالعلم، ويتحدث عن مؤامرات من المريخ وزحل للقضاء على البشرية، فهو يمارس دور الرقيب السيئ. وإن نشرت صحيفة رسوما ساخرة من قيادي إيراني، وهو ما تفعله هي وسواها يوميا بحق السياسيين الفرنسيين، فالمسؤولية تقع حُكماً على الحكومة الفرنسية.

يتقاسم هذه النظرة الضيقة إلى الإعلام الغربي ودوره، إلى جانب متطرفي السلطة ومتطرفي الشارع، بعض من عقلاء الرأي العام العربي. فلا تمييز بين الخدمة العامة والتبعية السياسية. فأن تكون إذاعة فرنسا مؤسسة عامة، فهذا لا يعني البتة أنها خاضعة لإرادة الحكومة والقصر الرئاسي. وأن تكون هيئة الإذاعة البريطانية خدمة عامة، لا يعني أنها تابعة لإرادة مقر رئيس الوزراء. إن إسقاط تجاربنا في الدول العربية، كما في إيران، على الغرب، عملية ركيكة بنيويا. ومن الضروري الإشارة بوضوح إلى أن أهم القضايا التي تسبب حرجا للمؤسسات الحكومية في الغرب، ويمكن لها أن تصل إلى مستوى الفضيحة، تكشفها وسائل إعلام يعتقد بعضنا أنها تابعة للحكومة القائمة.

انتقام نظام طهران من المعهد الفرنسي، الذي حاول، طوال تاريخه، الابتعاد عن الأمور السياسية الحساسة في الداخل الإيراني واكتفى تقريبا، كما هي الحال في دول غير ديمقراطية عدة، بالتركيز على التاريخ والآثار، يُشير إلى قصور في الرؤية، بل إلى ضعف في الحجة. ويكاد يُطبق مفهوم: من فمك أدينك. فإن من يرى أن الإعلام في بلده يجب أن يكون سلاح دعاية له ليس إلا، لا يمكن له أن يميز الأمر في بلد يتمتع بالديمقراطية النسبية.

سلام الكواكبي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى