شوف تشوف

الرئيسيةبانوراماثقافة وفنخاص

من تكون آني أرنو الفائزة بـ «نوبل»  الآداب 

كتابة روائية بسيطة على خيط الحداثة المأساوي والمضحك 

محمود عبد الغني:

 

منذ إعلان جائزة «نوبل»  في صنف الأدب، يوم الخميس 6 أكتوبر الجاري، وفوز الكاتبة الفرنسية آني أرنو بها، لم ترتفع أصوات الاعتراض كما حدث في الأربع أو خمس دورات السابقة. كما لوحظ اهتمام الأدباء العرب بهذا الفوز الذي اعتبروه مستحقاً، لقيمة الكاتبة الأدبية أولا، ولموقفها العادل من القضية الفلسطينية ثانياً، ولكون المترجمين العرب نقلوا رواياتها منذ أكثر من خمس عشرة سنة. فقد ترجمت الشاعرة المصرية هدى حسين «امرأة» و«عاطفة بسيطة»، صدرتا عن «دار شرقيات» بمصر سنة 1998. كما ترجمت أمينة رشيد وسيد بحراوي رواية «المكان»، وصدرت عن دار شرقيات، أيضا، سنة 1994، وهي الرواية الفائزة بجائزة «رونودو» الفرنسية سنة 1984. وبعد ذلك تتالت الترجمات العربية لمعظم رواياتها: الحدث، شغف بسيط، الاحتلال، أنظر إلى الأضواء يا حبيبي…

 

لجنة «نوبل» عن الأسلوب والسمات

عللت لجة «نوبل»  اختيارها لأرنو، البالغة من العمر 82 سنة، والمعروفة بكتابة روايات تنهل من حياتها وطفولتها، في بناء بسيط ولغة واضحة وشفافة، عللت بما أظهرته «من شجاعة وبراعة في اكتشاف الجذور والبُعد والقيود الجماعية للذاكرة».

ازدادت آني أرنو يوم 1 شتنبر 1940 بـ «ليلوبون»، واسمها كما هو في الأوراق الرسمية «أني دوشيسن»، مهنتها أستاذة جامعية تدرس الأدب. بدأت الكتابة الروائية سنة 1974 برواية «خزائن فارغة». وقد جاء في تقرير الأكاديمية السويدية عن هذه الرواية إنها «أكثر مشاريعها طموحاً، وهي التي أكسبتها شهرة عالمية» .

في سنة 1984 فازت أرنو بجائزة «رونودو» عن روايتها «المكان»، وفيها ركزت على علاقتها بوالدها وتجاربها المختلفة في قرية صغيرة، وانتقالها إلى مرحلة البلوغ بعيداً عن موطن والديها الأصلي. ويلاحظ جل الدارسين لأدبها أن آني أرنو ابتعدت عن الخيال وركزت على حياتها وأسرتها وتجربتها الفردية. وقد رسخت هذه الثيمات في «العار»، وفي «ما يقولونه أو لا شيء»، و«المرأة المجمدة». كل هذه الحكايات والتجارب قدمتها آني أرنو في روايات صغيرة ومتوسطة الحجم قد يصل اقتضابها إلى خمسين صفحة، لكن بكثافة منقطعة النظير.

روت أرنو تجاربها الفردية أيضا في روايات اتخذت لها شكل اليوميات المفتوحة والمذكرات الشخصية غايتها محاورة أشياء الحياة اليومية التي تعترض الكاتبة في فضاءات مختلفة كالشارع والمقهى ومترو الأنفاق والحافلة والمستشفى. ففي سنة 1993 نشرت «مذكرات الخارج» الذي تسرد فيها تفاصيل إحدى علاقاتها العاطفية يوما بيوم. كما شكل كتابها «لم أغادر بعد ليلي»  تجربة وجدانية قاسية، ففيه وصفت وتيرة تطور مرض الخرف المبكر الذي أصيبت به والدتها، والذي أودى بحياتها في إحدى دور العجزة. هكذا تلخص الكاتبة روايتها: «أصيبت والدتي بمرض الخرف في أوائل الثمانينيات، فتم وضعها في دار لرعاية المسنين. عندما كنتُ أعود من زياراتي، كان علي أن أكتب عنها، عن جسدها، عن كلماتها، عن المكان الذي كانت فيه. لم أكن أعرف أن هذه اليوميات ستستمر وتقودني إلى أن توفيت في عام 1986».

 

«الضياع» في الأدب والحياة

في رواية «عاطفة بسيطة» (1992) روت آني أرنو علاقتها الغرامية لمدة عام واحد مع رجل متزوج أصغر منها سناً، التقت به خلال رحلة إلى الاتحاد السوفيتي. طوال علاقته مع «عاشق الظل» هذا،  كانت مذكراتها هي رابط الكتابة الوحيد له، وهي طريقة أيضا لتحمل انتظار الموعد التالي. كانت العاطفة البسيطة واحدة من تلك القصص القصيرة، الحادة والسريرية، التي عودت عليها آني أرنو قراءها، حيث يسود البحث عن الحقيقة المكتوبة على الحكمة: في أقل من مائة صفحة، بدا أن كل شيء يقال حول ما يجب أن يقال عن دُوار التجرد من الذات.

ومع ذلك، قامت بنشر الصفحات دون تنقيح لمذكراتها المتعلقة بهذه العلاقة مع رجل «بعيد ولطيف»، كما كان والدها. من خلال إعادة قراءتها، رأت «شيئا خاما وأسود» بدا لها أنه «تم تسليط الضوء عليه». مثلما أنها لم تفكر أبداً في نشر يومياتها عن إصابة والدتها بمرض الخرف، كما لو أن هناك حقيقة واحدة فقط، وينبغي سردها كما حدثت تماماً، مشابهة للحقيقة التي سردتها في روايتها الخامسة «امرأة» (غاليمار، 1987).

 

الورشة السوداء والرجل الشاب

تقول آني أرنو عن آخر كتبها «الورشة السوداء» (غاليمار، 2022): «جميع الكتب التي كتبتها كانت بدأت بجملة واحدة، غالبا ما تكون طويلة جداً، من التأملات والأسئلة والشكوك والاتجاهات المهجورة».

«منذ عام 1982، اعتدت على كتابة هذا العمل الاستكشافي على أوراق، مع تواريخ، وواصلت القيام بذلك حتى الآن. إنها مذكرات حزن، عن عدم الحل الدائم بين المشاريع، بين الرغبات. نوع من ورشة العمل بدون ضوء وبدون مخرج، أتجول فيها في دوائر بحثا عن الأدوات، والوحيدة، التي تناسب الكتاب الذي ألمحه، عن بعد، بوضوح».

بالتوازي مع رواياتها، احتفظت آني أرنو، في «الروشة السوداء» بمذكرات ما قبل الكتابة. إنه نوع من كتاب الحفريات، مكتوب عاما بعد عام، والذي يقدم توغلا نادرا في «الجانب الآخر» من العمل. ويصبح القارئ، المنغمس في قلب فعل الكتابة، شاهداً على حوار الكاتبة الطويل مع نفسها: فكر منحوت بسكين، أفكار بكميات كبيرة، أفكار حركتها لانهائية؛ أفكار بكميات كبيرة؛ ارتباط الكلمات ببعضها، أجزاء من الزمن، ومن الثقة.

في هذه السنة نفسها، 2022، أصدرت روائية «نوبل»  كتاباً سردياً صغيراً عنوانه «الرجل الشاب» (غاليمار، 2022). في عدد قليل من الصفحات، وبضمير المتكلم، تروي آني أرنو علاقة عاشتها مع رجل أصغر منها بثلاثين عاماً. تجربة جعلتها مرة أخرى، في غضون عدة أشهر، «الفتاة الفاضحة» في شبابها. رحلة إلى الوراء في الوقت المناسب الذي سمح لها باتخاذ خطوة حاسمة في كتاباتها. هذا النص هو مفتاح قراءة أعمال آني أرنو في ما يخص علاقتها بالوقت والكتابة. لقد أكدت، بذلك، اندراج كتابتها ضمن تقليد أدبي عريق، من خلال استيعاب تقاليد الكتابة السير ذاتية الأوروبية.

عند آني أرنو، على الرغم من الرغبة في التوضيح الاجتماعي والتاريخي الذي غالبا ما يتم طرحه، فإن التشييء النظري دائما ما يكون عالقا في القوة الرومانسية للذاكرة والإحساس، إن «الأنا العابرة للشخصية» لا تتوافق بالضرورة مع تعميم التجربة الشخصية، التي غالبا ما تستخدمها الروائية كمادة خام لرواياتها. ولا تتوافق أيضا مع التأمل «النرجسي» العبثي، إن ذلك، بالأحرى، علامة على نرجسية سلبية، على اختفاء غامض في الغيرية. في الواقع، تبدو رومانسية الآخر – أن تصبح الذات أخرى – مرتبطة ارتباطا وثيقا بالإعلان عن الذات خارج مركزها وتصبح المرأة غير محسوسة ولا مرئية تحت النور، نور الكتابة والسرد.

 

منهجية الكتابة

لقد كان الناقد جيروم مايزوز دقيقا حين وصف عملها الأدبي بالقول: «إن النهج الأدبي لآني أرنو مستوحى جزئيا من ممارسة الملاحظة الميدانية، ومستفيد بعلم النفس الاجتماعي». وهكذا، فإن عملها الأكثر خضوعاً للتعليقات حتى الآن حمل كعنوان «المكان»، فطوال عملية كتابته، استوحى «عناصر لإثنولوجيا الأسرة»».

لقد استعارت الكاتبة منذ 1980، في منهجها الكتابي، من الأعمال الاجتماعية والإثنولوجية، فقد وضعت أوراقاً تحضيرية، وسجلت الذكريات والقرائن الاجتماعية، وجمعت الشهادات والصور، وقدمت ملاحظات عن موقع الأحداث (السوق الممتاز، المترو)، كما يتضح ذلك في كتابين: «مذكرات الخارج» (غاليمار 1993) و«الحياة الخارجية، 1993-1999» (غاليمار، 1999). وقد اعتبر المتابعون لأدبها أن «الحياة الخارجية» تتمة وتكملة لما بدأته في «مذكرات الخارج»، مع نفس الأجزاء من الواقع. ففيه تقدم مشاهد من الحياة اليومية «كآثار للزمن والتاريخ، شظايا من النص الذي هو جزء من الحياة». يبدأ الكتاب مع احتدام الحرب في البوسنة في أبريل من سنة 1993.

الأمر يتعلق بتسجيل ملاحظات مرة أخرى، وهو أكثر من مجرد مذكرات، تقدم مشاهد من الحياة. وينتهي بإبادة الروس للشيشان في نونبر من سنة 1999. نجد المهجرين على رصيف الميناء، والمغنين الذين يقومون بالجولات، والرجل المتشرد الذي يتمنى عيداً سعيداً للمستخدمين والعمال في السوق الممتاز.  إنها مشاهد مضحكة وقاسية في بعض الأحيان، صدى جديد للعالم تم نسخه بحساسية خاصة. مشاهد تبدو تافهة ممزوجة بالأحداث التي تخللت التسعينيات (وفاة ديانا، والمذابح في الجزائر، وحرب البلقان).

تقول الناقدة «سيلين دارمر»: « كل قوة آني أرنو، على خيط الحداثة المأساوي والمضحك، تكمن في كتاباتها الرصينة دائما، دون زخرفة، حيث لم يتبق شيء سوى الأساسي».

 

الرواية مرآة تمشي في الشوارع

وفقا لصيغة ستاندال الشهيرة: «الرواية هي مرآة تمشي على طول الشارع» ، يمكن تحديد السرد الواقعي: القصة المروية هي ذلك الطريق الذي يدعو إليه الكاتب القارئ إلى نزهة مليئة بالأحداث إلى حد ما، ومسيرة سردية ممتعة إلى حد ما، يتم خلالها الكشف عن انعكاس صارم للواقع. لفترة طويلة، قوض الكتاب بسعادة هذه المرآة الشهيرة: أراد البعض أن تنمو، والبعض الآخر بدون تلطيخ أو تعدد أو تصدع أو كسور. من أراد التأكد من صحة مقولة ستاندال عليه البدء بقراءة آني أرنو.

إن الاستماع إلى الراديو، ومشاهدة التلفزيون، وقراءة الصحيفة، والذهاب إلى المتحف أو المطعم أو التظاهرات أو الاجتماعات الثقافية، والتسوق، والمشي، والسفر بالحافلة أو سيارة أجرة أو الطائرة أو القطار … كلها فرص لآني أرنو للقاء بالخارج والشهادة عليه. ويتضح من هذه الملاحظات التي تم تدوينها في اضطراب يدين بكل شيء لغزارة الحياة نفسها ذات الصورة المزدوجة، صورة المجتمع الفرنسي من 1985 إلى 1992، ومن 1993 إلى 1999، صورة حادة لمراقبة يقظة، ومواطنة ملتزمة، وكاتبة تخفي تأثيرات أسلوبها لجعل كتابتها أكثر فعالية. لذلك فكتبها تشكل كُلاً متماسكاً لمراقبة الحياة الخارجية، وأيضا الحياة الداخلية، الواحدة لا تمشي دون الأخرى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى