شوف تشوف

الرأيالرئيسيةمجتمع

من السل إلى «كورونا»

يونس جنوحي

 

قد تتحول «كورونا» بكل متحوراتها إلى مجرد إنفلونزا موسمية، رغم كل الأرواح التي حصدتها والشركات التي تسببت في إفلاسها تماما. إنفلونزا موسمية مثل الزكام، يأخذ الناس حقنة مضادة لها كل أكتوبر. وتصبح «كورونا» مجرد ذكريات.

هذا بالضبط ما يظنه بعض العلماء في أوربا أصدروا أول أمس بيانا في الموضوع، وبدا واضحا أن منظمة الصحة العالمية تتفق معهم. ما لم يخرج عالم آخر في مكان ما من العالم لكي يقول العكس.

هل يعقل أن تصبح «كورونا»، بكل متحوراتها وتقلباتها، مجرد نزلة برد عادية في المستقبل؟ الإنفلونزا الإسبانية التي كانت أخطر وباء على وجه الأرض خلال القرن الماضي، ليست اليوم سوى حمى موسمية يتخلص منها أزيد من ثلث سكان العالم بلقاح يأخذه المواليد الجدد بشكل إجباري. والأمر نفسه ينطبق على الحصبة والجذري، فقد كان الاثنان من الأوبئة التي فتكت بالملايين عبر التاريخ.

وحتى لا نذهب بعيدا، فإن مرضي الجذري والكوليرا كانا يحصدان أرواح المغاربة قبل ستين سنة فقط من اليوم. وإطلالة بسيطة على أرشيف مصالح الصحة الفرنسية في المغرب خلال الخمسينيات، تؤكد بالوثائق وجود حملات تطعيم كل شتنبر في المدارس التي تردد عليها أبناء المغاربة، وهناك اليوم وزراء وكتاب وفنانون، عاشوا تلك الفترة واستفادوا من التطعيم عندما كانوا في مقاعد الدراسة.

هذا التهويل الذي نواجه به وباء «كورونا» اليوم في عدد من الحكومات، يشبه كثيرا التهويل الذي ووجهت به أمراض تبدو اليوم «تافهة» لبعض الدول. إذ لا يعقل مثلا أن يُقلق مرض السل حكومة في أوربا أو مصالح الصحة في الولايات المتحدة الأمريكية. فالسل بالنسبة إليهم مرض يوجد في المتاحف وصور الأرشيف. ورغم محاولات حكومات أوربية التقليل من خطورته، إلا أن بعض تقارير منظمات غوث اللاجئين، تحدثت عن انتشار السل في مراكز اللجوء بين الموقوفين القادمين من دول جنوب الصحراء ومن سوريا وأكراد العراق.

كان طبيب فرنسي يعيش في الدار البيضاء خلال أربعينيات القرن الماضي، وهو مدفون اليوم في مقبرة للمسيحيين في المدينة نفسها. واسمه السيد «بونو»، حيث كانت لديه عيادة في ما كان يسمى وقتها الحي الإداري. كتب السيد بونو متحدثا عن حملات التطعيم التي كان يشتغل فيها بتنسيق مع الإدارة الفرنسية والمقدمين والشيوخ: «كنت أشرف على تطعيم أزيد من مائة وخمسين مغربيا كل يوم. الممرضة التي تساعدني كانت تطعم النساء من مختلف الأعمار. كانت أصوات المحتجين تصلني إلى قلب الخيمة التي نصبها المقدم خصيصا لهذا الغرض. رأيت مرات كثيرة أعوان رجل السلطة يحضرون الناس بالقوة، وذات مرة رأيت رجلا بجلبابه الواسع، يحمل هراوة غليظة ويضرب بها رجلا في وضعية هزال غير عادي. بعدها عرفت أنه كان يستنطقه لكي يخبره عن عدد الأشخاص الذين يسكنون معه في نفس المنزل لتطعيمهم.

في بعض الأحيان، كنا نستمر في حملة التطعيم لأسابيع، وكنت ألاحظ أن الذين كانوا يقفون في الصف كان يتم إحضارهم بالقوة».

ربما سوف يأتي يوم نتحدث فيه بدورنا عن تداعيات «كورونا» وجرعات التلقيح، وقد يصبح النقاش الجاد الحالي بخصوص إجبارية التلقيح ومدى سلامة القرار مجرد ذكرى في المستقبل، خصوصا عندما يتأكد لجحافل المشككين الذين لا يزالون يؤمنون أن اللقاح يحتوي على شريحة للتجسس، أن الأمر كان يتعلق بوباء على شاكلة طابور الأوبئة التي أودت بأرواح الملايين، ليس أكثر.

هناك اليوم تهويل كبير يحيط بتداعيات وباء «كورونا». وبعض الأطراف التي تؤمن بنظرية المؤامرة، لا تطمئن لأي قرار كيف ما كان. سواء تعلق الأمر بالإغلاق أو فتح الأسواق والأجواء. إذا رفعت الحكومات حول العالم قيود الحجر الصحي، يقولون إن مؤامرة تحاك ضد البشر لقتلهم بدون مقاومة بهذا الوباء. وإذا طبقت إجراءات لتطويق الوباء، يقولون إن الأنظمة تخطط لتقييد تحركات الناس في المستقبل. وإذا وفرت لهم بلدانهم جرعات من اللقاح يطالبون بمعرفة مكوناته أولا، وكأنهم يعرفون سلفا مكونات حبة الأسبرين أو مكونات جرعة حقنة التهاب اللوزتين.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى