يستمد خطاب النهايات، بوصفه قراءة للمستقبل وآفاقه المحتملة، مشروعيته الفكرية والمنهجية من تحليل الواقع الراهن والكشف عن جل مكوناته، من حيث القدرة على الاستمرار أو التطور أو الاندثار، وبالتالي محاولة دؤوبة لاستشراف البدائل الممكنة التي يمكن من خلالها تصور وقوعها… الأمر هنا قد لا يتعلق بقراءة للطالع على طريقة العرافين والمنجمين بقدر ما لها علاقة ضرورية وأكيدة بصرامة منهجية في تحليل الوقائع وموضوعية تامة في الاستنتاج أو على أوسع تقدير تأويل المعطيات والنتائج. كانت كل تلك القراءات تنظر إلى التاريخ لا باعتباره تراكما لأحداث خلال حيز زمني معين، بقدر ما هو عبارة عن مراحل من التطور الإنساني تتبع خطوطا متوازية خاضعة لحتمية أو جبرية لا مناص منها، وقابلة للفهم والاستيعاب… لكن، بغض النظر عن أهمية بعض هذه القراءات المستقبلية في ثرائها المعرفي وجدة طرحها وفرادته، يبقى بعضها أشبه بالمتمنيات الطموحة، وتصل في بعضها أحيانا إلى ليّ ذراع المستقبل، أو بتعبير علماء النفس، أقرب من منطق الرغبة وأبعد من منطق الواقع.
فرانسيس فوكوياما.. نهاية التاريخ والإنسان الأخير
فرانسيس فوكوياما Francis Fukuyama مفكر سياسي أمريكي من أصل ياباني، درس العلوم السياسية على يد أكبر أساتذة العلوم السياسية في أمريكا آلان بلوم متخصصا في السياسة الخارجية للاتحاد السوفياتي، حيث نال شهادة الدكتوراه في الموضوع ذاته في جامعة هارفارد الأمريكية الشهيرة. كتابه «نهاية التاريخ والإنسان الأخير» حقق له شهرة كبيرة وواجه في حينها انتقادات واسعة ودعما واضحا من النخبة الأمريكية ذات الميول المحافظة.
الأصل في الكتاب كان عبارة عن محاضرة بالعنوان نفسه، ثم مقال في مجلة The National Interest الأمريكية سنة 1989، ونظرا للإقبال الشديد على أطروحته والنقاش المتزايد حولها شجعه ذلك على إصدار كتاب يعزز فيه نظريته المثيرة للجدل. الفكرة الأساسية لأطروحة فوكوياما أتت بالصدفة، ذلك أن أستاذه السابق آلان بلوم كان ينظم سلسلة من المحاضرات في جامعة شيكاغو كل سنة حسب محاور متعددة، وصادف تلك السنة محور «انحدار الغرب» فطلب من طالبه القديم إلقاء محاضرة فيها، والذي أجابه بأن لديه فكرة محاضرة مناسبة أكثر للمحور، وسيكون موضوعها انتصار الغرب وليس انحداره… إن مرتكزات فرانسيس فوكوياما في كتابه الشهير تعود في مجملها إلى مقاله سالف الذكر وقد لخصها بقوله: «لقد طرحت في ذلك المقال الفكرة التالية: يبدو أنه قد ظهر توافق مدهش في السنوات الأخيرة يتعلق بالديموقراطية الليبرالية كنظام حكم، لأنها انتصرت على الإيديولوجيات المنافسة، كالنظام الملكي الوراثي والفاشية، وأخيرا الشيوعية. لقد أشرت فضلا عن ذلك إلى أن الديموقراطية الليبرالية بإمكانها أن تشكل فعلا «منتهى التطور الإيديولوجي للإنسانية» و«الشكل النهائي لأي حكم إنساني». أي أنها من هذه الزاوية «نهاية التاريخ». فبينما كانت أشكال الحكم القديمة تتميز بأخطاء خطيرة وتناقضات لا يقبلها العقل أدت إلى انهيارها، فإنه بالإمكان الادعاء بأن الديموقراطية الليبرالية كانت خالية من هذه التناقضات الأساسية. لا يعود ذلك لكون الديموقراطيات الثابتة اليوم، كمثل فرنسا والولايات المتحدة وسويسرا، لم تعرف لا المظالم ولا المشاكل الاجتماعية الخطيرة، ولكن لأن هذه المشاكل كانت تنجم عن التطبيق غير الكامل لمبدأي الحرية والمساواة اللذين هما الركيزتان لأية ديموقراطية حديثة، وليس من هذين المبدأين بالذات.
قد تفشل بعض البلدان الحديثة في إقامة الديموقراطية الليبرالية وقد يقع بعضها في إشكال بدائية للحكم مثل التيوقراطية أو الديكتاتورية العسكرية. فالمثال الأعلى للديموقراطية الليبرالية لا يمكن تحسينه على صعيد المبادئ. هذا المقال الفريد قد أثار سيلا هائلا من التفسيرات والاعتراضات، في الولايات المتحدة أولا، ومن ثم في جملة متنوعة من البلدان بدءا من إنجلترا وفرنسا وإيطاليا، وصولا حتى الاتحاد السوفياتي والبرازيل وإفريقيا الجنوبية واليابان وكوريا الجنوبية. وقد اتخذت الانتقادات كل الأشكال الممكنة، إذ ارتكز بعضها على فهم سيئ لمقاصدي الأولية، والبعض الآخر هاجم بشكل أكثر عمقا صلب موقفي بالذات. فالعديد من الناس وقع في خطأ أولي من جراء استخدامي لكلمة «تاريخ»: إذ اتخذوا هذه الكلمة بمعناها الاصطلاحي أي الأحداث التي تقع، ومنهم من اعتبر سقوط جدار برلين ومجزرة ساحة (تيان آن مين) في الصين أو اجتياح الكويت من قبل العراق بمثابة شواهد على أن «التاريخ يستمر» وعلى أنني نظرا لذلك وقعت في الخطأ. إلا أن الذي أشرت إليه بالطبع لم يكن بالطبع التاريخ كتتابع للأحداث، وإنما التاريخ كمجرد مسار متماسك للتطور الذي يأخذ في الحساب تجربة جميع الشعوب في آنٍ معا. هذه النظرة للتاريخ تقترب كثيرا من نظرة الفيلسوف الألماني الكبير هيغل. وقد جعل منها كارل ماركس جزءاً من محيطنا الفكري المألوف عندما استعار على وجه الدقة من هيغل مفهوما أصبح اليوم ضمنيا لدى استخدامنا كلمات مثل: «بدائي» أو«متقدم» «تقليدي» أو «حديث» في كلامنا عن نماذج المجتمع البشري المختلفة. فبالنسبة لهذين المفكرين كان ثمة تطور متناسق للمجتمعات البشرية، منذ الأنظمة القَبَلية القائمة على العبودية والتعدد الثقافي وحتى الديموقراطية الليبرالية الحديثة والرأسمالية المحكومة بالتكنولوجيا، مرورا بأنواع مختلفة من التيوقراطيات والأنظمة الملكية والأرستقراطيات الأخرى ذات النمط الإقطاعي. لم يكن هذا المسار التطوري صدفويا ولا غامضا، وإن لم يكن يجري دائما بحسب خط مستقيم، وحتى لو كان باستطاعتنا أن نتساءل إذا ما كان الإنسان أكثر سعادة وفي حالة أفضل بسبب نتائج هذا «التقدم التاريخي».
لكن فرانسيس فوكوياما، وبعد مرور أكثر من ثلاثة عقود واعتباره أن النموذج الديموقراطي الليبرالي وبفضل التقدم الاقتصادي والتكنولوجي قد جاوز سقف التاريخ وصار منتميا كليا إلى ما بعد التاريخ، ونشوء الإنسان الأخير في مجتمع تحققت فيه كل الغايات الإنسانية عبر التاريخ، ولم يعد له بالتالي أي بديل آخر… عاد من جديد إلى التلويح بسوء الفهم لطروحاته أو انتقاد الأنظمة الديموقراطية الليبرالية في أوروبا وعلى الخصوص الولايات المتحدة الأمريكية.
صامويل هنتنغتون.. صدام الحضارات وإعادة صنع النظام العالمي
كانت نظرية صامويل هنتنغتون (1927-2008)Samuel Huntington حول صدام الحضارات مناقضة تماما لأطروحات فوكوياما، في إشارتها الضمنية إلى تضاؤل النفوذ الغربي والأمريكي، بصعود قوى حية أخرى وفي آسيا تحديدا. مما يؤشر على ظهور عصر جديد أساسه الصراع بين الحضارات الكبرى.
القوة الغربية.. السيطرة والاضمحلال
هناك صورتان لقوة الغرب بالنسبة للحضارات الأخرى. الأولى هي صورة لسيطرة وسيادة غربية شاملة. تفكك الاتحاد السوفياتي أزال المتحدي الخطير الوحيد بالنسبة للغرب، ونتيجة لذلك فإن العالم قد أصبح وسيظل يتشكل طبقا لأهداف وأواليات ومصالح الدول الأوروبية الغربية القوية وربما بمساعدة من اليابان أحيانا. وحيث إنها القوة الكبرى الوحيدة المتبقية، فإن الولايات المتحدة، مع بريطانيا وفرنسا، تتخذ القرارات الحاسمة في القضايا السياسية والأمنية، والولايات المتحدة مع ألمانيا واليابان تتخذ القرارات الحاسمة في القضايا الاقتصادية.
… الصورة الثانية للغرب مختلفة تماما. إنها صورة حضارة تنهار، نصيبها من القوة السياسية والاقتصادية والعسكرية في العالم في هبوط بالنسبة لنصيب الحضارات الأخرى. انتصار الغرب في الحرب الباردة لم يسفر عن فوز، بل إنهاك. الغرب مهتم بدرجة متزايدة بمشاكله واحتياجاته الداخلية، حيث يواجه نموا اقتصاديا بطيئا وركودا سكانيا وبطالة وعجزا حكوميا وأخلاقيات عمل متدهورة ومعدلات ادخار منخفضة، وفي دول كثيرة بما فيها الولايات المتحدة يواجه تفككا اجتماعيا بالإضافة إلى مشكلات المخدرات والجريمة. القوة الاقتصادية تنتقل بسرعة إلى شرق آسيا، وبدأت تتبعها القوة العسكرية والنفوذ السياسي. الهند على حافة إقلاع اقتصادي والعالم الإسلامي يتزايد عداؤه للغرب. استعداد المجتمعات الأخرى لقبول أوامر الغرب أو التقيد بنصائحه يتبخر بسرعة، وكذلك ثقة الغرب بنفسه وإرادته في السيطرة. أواخر الثمانينيات شهدت جدلا واسعا حول أطروحة ضعف الولايات المتحدة، وفي منتصف التسعينيات انتهى تحليل متوازن إلى نفس الاستنتاج تقريبا: في جوانب كثيرة، سوف تتدهور القوة النسبية للولايات المتحدة بمعدل متسارع. ومن ناحية قدراتها الاقتصادية الخام فإن وضع الولايات المتحدة بالنسبة لليابان وفي النهاية بالنسبة للصين، من المحتمل أن يضعف أكثر من ذلك. في المجال العسكري فإن ميزان القدرات المؤثرة بين الولايات المتحدة وعدد من القوى الإقليمية النامية (بما فيها إيران والهند والصين) سوف يتحول من المركز إلى المحيط الخارجي. بعض قوة أمريكا البنيوية سوف ينتقل بسرعة إلى دول أخرى، وسيجد جزء من قوتها غير البنيوية كذلك طريقه إلى أيدي لاعبين غير رسميين مثل الشركات متعددة الجنسية. فأي من هاتين الصورتين لمكانة الغرب في العالم يصف الحقيقة؟ الإجابة بالتأكيد كلتاهما. الغرب الآن مسيطر بشكل طاغٍ وسيظل رقم واحد من ناحية القوة والنفوذ في القرن الواحد والعشرين. وهناك كذلك تغييرات تدريجية قوية وأساسية تحدث في موازين القوى بين الحضارات، وقوة الغرب بالنسبة لقوة الحضارات الأخرى سوف تستمر في الاضمحلال. ومع تآكل أولية الغرب، فإن معظم قوته سوف يتبخر والباقي منها سوف ينتشر على أساس إقليمي بين الحضارات الرئيسية العديدة ودولها المركزية. الزيادة البارزة في القوة تتراكم، وسوف تتراكم لدى الحضارات الآسيوية مع بروز الصين كمجتمع هو الأكثر ترجيحا لتهديد الغرب على النفوذ الكوني. هذه التحولات في القوة بين الحضارات أدت وسوف تؤدي إلى يقظة المجتمعات غير الغربية وتوكيد ثقافتها، وإلى زيادة رفضها للثقافة الغربية.
أوسفالد شبنغلر.. تدهور الحضارة الغربية
كان لكتاب أوسفالد شبنغلر (1880-1936)Oswald Spengler «تدهور الغرب» صدى واسع في أوروبا رغم نبوءته المتشائمة، باعتباره دراسة حضارية شاملة ومتنوعة في كل المجالات الفنية والعلمية من موسيقى وعمارة وفنون وعلوم بحتة ما تتطلب قارئا موسوعيا. ورغم تأثره البالغ بفلسفة نيتشه فإن بعضا من تحاليله الاقتصادية والسياسية ما زالت إلى اليوم مثيرة للانتباه…
… إن عصر النظريات، يقترب بالنسبة إلينا أيضا من نهايته، وأرجو ألا يخطئ إنسان في هذا الأمر. فجميع المناهج من ليبرالية واشتراكية قد نشأت خلال الفترة الواقعة بين عام 1650 وعام 1850. كما أن نظرية ماركس قد بلغت منذ نصف قرن من العمر، ولم تجد من نظرية تخلفها، وهي بهذا تعني باطنيا وحسب منطوق فهمها المادي للتاريخ، أن القومية قد بلغت أقصى نتائجها المنطقية، وأنها لذلك حد النهاية، ولكن كما أن الإيمان بحقوق الإنسان لروسو قد فقد زخمه قرابة عام 1848، كذلك فإن الإيمان بماركس قد فقد طاقته ابتداء من الحرب العالمية. وعندما يقارن المرء ذاك التفاني حتى الموت الذي أوجدته أفكار روسو في الثورة الفرنسية بموقف الاشتراكيين عام 1918، هؤلاء الذين حاولوا الحفاظ أمام وداخل مناصريهم على قناعة لم يعودوا هم بالذات يمتلكونها، ومحاولتهم هذه لم تكن باعثتها فكرة الاشتراكية، بل كانت السلطة المرتكزة إليها. عندما يقارن المرء هذا ويتأمله عندئذ يستطيع أن يتميز المراحل التي لا تزال أمامه من الطريق، حيث يكون الذي لا يزال متبقيا من المنهاج محكوما عليه بالاندثار، نتيجة لكونه آنذاك مجرد عثرة في طريق الصراع على السلطة. لقد كان الإيمان بالمنهاج وساما ومجدا لأجدادنا، وسيكون في نظر أحفادنا كليلا على الإقليمية والريفية، فمكانه تنمو، حتى الآن، بذرة لورع مذعن متوكل جديد انبثق من الضمير المعذب والجوع الروحي، وسيكون واجبه إيجاد جانب جديد يواجهنا، جانب يبحث عن الأسرار بدلا من المبادئ الفولاذية اللماعة…
ص 690 ص 691
… لكن هجوم المال أيضا على هذا الزخم العقلاني هو هجوم جبار مروع. فالصناعة كالمالك الزراعي، هي مشدودة إلى الأرض بدورها. والمال الراقي وحده هو حر مطلق من كل قيد، وغير ملموس بأكمله. ومنذ عام 1789 أخذت المصارف ومعها البورصات تطور ذاتها على أساس احتياجات الاعتمادات للصناعات المتزايدة نموا على شكل هائل، وتعتبر هذه الصناعات قوى في حسابها، والمال يريد أن يكون هو القوة الوحيدة. وهنا يشيد الصراع القديم بين الاقتصاد المنتج والاقتصاد المكتسب، ويتطور إلى معركة صامتة يخوض غمراتها عمالقة الفكر، وتدور رحاها في تخوم المدن العالمية. أما المعركة فهي صراع يائس يبديه الفكر التقني ليحافظ على حريته من سيطرة الفكر المالي. وتخطو ديكتاتورية المال، وتتابع زحفها متجهة نحو ذروتها المادية… والآن يحدث شيء واضح فقط في نظر ذاك الذي نفذ ببصيرته إلى جوهر المال. فلو كان هذا الجوهر شيئا محسوسا لبقي موجودا حتى الأبد… لذلك يذوي ويضمحل حالما يبلغ تفكيره بعالمه الاقتصادي نهايته، ولا يعود لفكره هذا من مادة يعيش عليها… وها إنه اليوم يضغط بانتصار على الصناعات كي يجعل العمل المنتج لكل من المتعهد والمهندس والعامل سواء بسواء، غنيمة له. إن الآلة… ملكة هذا القرن، مهددة لأن تذعن لقوة أشد منها. لكن بهذا يكون المال أيضا قد بلغ نهاية نجاحه، فالمعركة الأخيرة وشيكة، حيث تتلقى فيها المدينة شكلها الجامع النهائي الناجز، وهذه المعركة هي بين المال والدم.
ص 762 ص 763
… فمحكمة التاريخ كانت أبدا تضحي بالحقيقة والعدالة، على مذبح الجبروت والعرق، وكانت دائما تقضي بالإعدام على أولئك الناس أو الشعوب التي كانت تختزن من الحقائق أقل ما تختزنه من الأفعال، ومن العدالة أقل من القوة. وهكذا تنتهي دراما حضارة راقية، بعالمها العجائبي من الآلهة والأديان والفنون والأفكار والمعارك والمدن، بعودة الوقائع الفطرية للدم الخالد، الذي هو الواحد ذاته والدفق الكوني الدائر أبدا. وهنا تغوص الكينونة الواعية المبتكرة بذاتها وتضعها في الخدمة الهادئة الصامتة للكينونة، كما تحدثنا بذلك الإمبراطوريتان الصينية والرومانية. وهنا ينتصر الزمان على الفراغ. والزمان هو الذي يدفن بحركته الجامدة المتزمتة الصدفة اليومية للحياة، صدفة الحضارة، على هذا الكوكب، ويطمرها في صدفة الإنسان، وهذا شكل تتدفق فيه الحياة لمدة من زمن، بينما تتكدس وراءه جميع الآفاق من التواريخ الجيولوجية والكواكبية في عالم ضوء ناظرينا.
أما بالنسبة لنا نحن الذين وضعنا المصير في هذه الحضارة، وفي هذه اللحظة من تطورها، لحظة احتفال المال بآخر انتصاراته، واقتراب القيصرية وريثته بخطى ثابتة أكيدة، فإن اتجاهنا المحتوم والمراد قد حدد داخل حدود ضيقة، والحياة ليست جديرة بأن تعاش إذا كانت حدودها غير هذه. وليس لنا الحرية في أن نمد بأيدينا إلى هذا الأمر أو ذاك، بل لنا الحرية في أن نقوم بما هو ضروري ولازم أو أن لا نقوم بأي شيء. وأن واجبا تستلزمه الضرورة التاريخية، سينفذ، بالتعاون مع الفرد أو ضده.
ص 764 ص 765
علي حرب.. حديث النهايات.. فتوحات العولمة ومأزق الهوية
علي حرب كاتب ومفكر لبناني اعتمد في دراسته للتراث العربي الإسلامي على المنهج التفكيكي في تحليل ظواهره النصية والفكرية، مقدما تصورا مغايرا ومتنورا للهوية أساسه التنوع والاختلاف… في معالجته لمسألة العولمة والمنظور المستقبلي نأى بنفسه عن أي قراءة مستقبلية استباقية، وركز على موضوع الهوية وضرورة التحرر من كل الأفكار المسبقة لتشكيل المستقبل القادم.
…كلمتي هي قراءة في مفردات العنوان العريض…: مستقبل البشرية، عالم واحد وحضارات متعددة.
وسوف أدخل على الموضوع من الحدث بالذات، من مشكلة الساعة ممثلة بالعولمة وعلاقتها بالثقافة ومستقبل البشرية. ذلك أن ما يجعل العالم اليوم واحدا، هو العولمة الجارية التي تحيل الأرض إلى قرية كونية صغيرة، عبر تقنيات الاتصال ووسائط الإعلام. غير أنه إذا كانت جغرافية العالم تكاد تصبح واحدة، فإن التواريخ مختلفة ومتعارضة. ذلك أن الإنسان لا يحيا في المكان وحده. وإنما هو كائن زمني يجر وراءه تواريخه ويطوي أطواره. والزمن هو زمن الخبرات والمعايشات التي تولد ما لا يتناهى من الفروقات بين الهويات والثقافات.
ص 95
المستقبل والحوادث
وأبدأ معترفا بأنني لست من علماء المستقبل وإن كان مدار الكلام على مستقبل البشرية. فهده مهمة لا أدعيها، ولا أظن أن أحدا يستطيع الوفاء بها. فالذين يقولون لنا اليوم: ما الذي سيحصل للبشرية بعد خمسين عاما أو بعد مائة عام، ليسوا أفضل من العرافين القدامى على غزارة معلوماتهم وسعة معارفهم، إذ هم في تنبؤاتهم أقرب ما يكونون إلى الراجمين بالغيب وأبعد ما يكونون عن الراسخين في العلم. كذلك لا أقف موقف فلاسفة التاريخ وأصحاب المذاهب التقدمية الذين يحدثوننا عن حتمية انتصار العقل وتحرر الإنسان من الاستلاب وبلوغ التاريخ كماله ونهايته، على طريقة هيغل وماركس ومن أتى بعدهما. فما حصل في القرن العشرين يهزأ من نبوءات هيغل العقلانية بقدر ما يهزأ من توقعات ماركس الاشتراكية. أما كلام فوكوياما عن نهاية التاريخ فهو أبعد ما يكون عن الفكر التاريخي. وإنه لمن المفارقات أنه في الوقت الذي كان فوكوياما يعلن فيه عن انتصار الليبرالية الديموقراطية على ما عداها من العقائد والمذاهب، سوى جيوب تاريخية باقية تمثلها الأصوليات الدينية والديكتاتوريات العسكرية، سيُقْضى عليها عاجلا أم آجلا، كانت تعتمل في المجتمع الأمريكي منازع أصولية سوف تنفجر لتصيب شظاياها مقولة نهاية التاريخ في الصميم. وهكذا لا يمكن التنبؤ بالمستقبل إلا على سبيل الرجم بالغيب. ذلك أن لكل تقدم تاريخي مفاجآته، ولكل تسارع تقني حوادثه وأعراضه. الأمر الذي يجعل نمو الحوادث يترافق دوما مع نمو المعرفة والتقنية والسلطة… ولذا فنحن لا نفكر في المستقبل، وإنما نستعد لمواجهة الحوادث والطوارئ بقدر ما نحاول قراءة الحدث وتشخيص الواقع. بهذا المعنى ليس المستقبل نموذجا متقدما نحاول احتذاءه، ولا هو مشروع نسعى إلى تنفيذه انطلاقا من فكرة مطلقة أو نظرية جاهزة للتطبيق، وإنما هو ما نصنعه بأنفسنا وعالمنا، عبر ما ننتجه من الوقائع أو ما ننجزه من حقائق. إنه قدرتنا على ابتكار الجديد والمهم وغير المسبوق، وكل ما يتيح لنا المساهمة في تغيير خارطة الفكر وعلاقات القوة، عبر التأثير في مجرى الأفكار والأحداث. مستقبلنا هو إذاً رهاننا على أن نتغير عما نحن عليه، فكراً وممارسة، بالخروج من قوقعة الهوية والتحرر من الأفكار المسبقة، لكي نغير علاقاتنا بذواتنا وبالواقع. ولذا فمن يفكر في أمر المستقبل لا يرجم بالغيب، ولا ينتظر الفردوس الموعود، وإنما يحاول أن يقرأ ما يحدث لكي يسهم في تشكيل العالم وصناعة المشهد.
ص 96 ص97