شوف تشوف

الرأي

من الإصغاء الإيجابي إلى الإنصاف

عبد الإله بلقزيز

الإنصاف اعتراف لصاحب حق بحقه. وهو لا يكون، في العادة، إلا مقترنا باعتراف مساوق أو سابق بأنه حق اهتُضِمَ، قبلا، وحيف فيه فصودر من صاحبه من غير حق موجِب.
وللمرء أن يقول إن معنى الاعتراف لا يعدو أن يطابق معنى الإنصاف؛ فحين أعترف لغيري، لا أفعل، في حقيقة أمري، سوى أني أنصفه في حق له أسلم به ولا أجحده لغرض ما في نفسي. ويمكن، بالتبعة، قلب المعادلة ومعها المعنى. هنا يكون الوجه الآخر للمسألة هو الذي يتماهى فيه فعل الإنكار مع فعل الظلم.
المسألة هذه في صميم الأخلاق والقيم الاجتماعية المحمودة والمرغوبة، والمرء منا يصادفها في مناحي الحياة كافة: في سلوك أي منا تجاه مخالفيه وحقوقهم؛ في موقف القضاة من حقوق الأظناء المتهمين؛ في نظرة السلطة إلى حقوق المواطنين أو إلى حقوق معارضيها في المؤسسات التمثيلية؛ في مسلك المجتمع الذكوري إزاء حقوق المرأة؛ في نظرة المجتمع والدولة إلى حقوق ذوي الاحتياجات الخاصة أو حقوق الأطفال المشردين؛ كما في سلوك أرباب العمل تجاه حقوق الأجراء…إلخ. صحيح أن هذه المواقف تتخذ، كثيرا، طابعا سياسيا وتتعلق بنمط السلوك السياسي الذي ينبغي أن تُقَارب به حقوق هذه وغيرها من فئات المجتمع، غير أنها تبقى – في جانب كبير منها- شديدة الاتصال بمنظومة الأخلاق التي تتحكم بأفعالنا، ونوع القيم التي تصدر عنها أفعالنا.
غير أن للمسألة عينها وجها آخر يحسن بنا الاحتفال به، هو الوجه الثقافي. بل نحن نميل إلى الاعتقاد أنه آكَدُ تلك الوجوه جميعا وأرْأسُها. بيان ذلك أن الأخلاق، ابتداء، ثقافة شأنها في ذلك شأن السياسة؛ إذ هما معا مما يتولد من ثقافة، ومما تتخلله، في التطبيق والأداء، ثقافة تكون لهما الحاكم الذي يحكم ويوجه والرائزَ الذي يَرُوزُ ويَختبر. وهكذا، حين أعترف فأنْصِف، فإنما أعبر عن قيم ثقافية محمودة تحكم أفعالي وتوجهها هذه الوجهة. حين أنكر وأحيف على صاحب حق، فإنما أترجم في أفعالي قيما ثقافية مذمومة أنْشَد إليها وتتنزل من السلوك منزلة المرجعية الثقافية.
بأي معنى يكون الاعتراف والإنصاف فعلا ثقافيا أو ناجما من قيمة ثقافية؟
هو كذلك لأن منبعه الأصل الذي يبدأ منه تدفقه هو الإصغاء إلى الآخر. لا يمكن اعتراف من دون إصغاء. الإصغاء إلى غيري هو ما يطلعني على ذلك الغير؛ هو ما يدربني على التسليم بحقه في الكلام، وهو بالتالي ما يضعني في المكان المناسب لفهم خطابه، وتفهم مطالبه وحاجاته وإدراك مقاصده. كلما غلقت المَسْمَعَيْن على كلامه، امتنع علي الاقتراب من عالم أسئلته وهواجسه وطرائق مقارباته للأشياء، وبالتالي استعصى علي فهمه وانسدت أمامي فرص التواصل معه والحوار. هكذا يضيع، بامتناع الإصغاء، كل إمكان لتنمية قيمة الاعتراف.
ليس الإصغاء فعلا من أفعال التواضع فحسب، بل هو، فوق ذلك، تسليم بحق الآخر علي بأن أفرد لرأيه مساحة في وعيي قبل أن أحكم على رأيه. والمألوف، في ثقافتنا، أن نكون أحكاما مسبقة عن أفكار غيرنا وآرائهم حتى قبل أن نتعرف إليها؛ قبل أن نصغي إلى ما يقولون، أو أن نقرأ ما يكتبون؛ وليس ذلك بالموقف السليم بأي معيار. والحق أننا ما تعودنا على أن لا نصغي إلى غيرنا إلا لأن ثقافتنا، في الجملة، ثقافة المتكلم، سواء بضمير المفرد أو بضمير الجمع. والمتكلم لا يطلب إلا الإصغاء إليه، لأنه – في عُرف نفسه – الوحيد الجدير بملكية الحق الحصري في الكلام. وهكذا نحن لا نسمع بعضنا بعضا – في ثقافتنا الجمعية وفي ثقافة نخبنا- بل يتكلم كل منا ويكلم آخَرَهُ من غير أن يسمعه، أن يقرأه. أي حوار وأي تواصل، يا ترى، يمكن في مثل هذه الحال؟
من النافل القول إننا لا نعني بالإصغاء، هنا، مجرد فعل التلقي السمعي، الذي قد يكون منه السماع السلبي (ثقافة السمع والطاعة مثلا)، وإنما قصدنا به نوعا محددا من الإصغاء يمكننا وسمه بالإصغاء الإيجابي. سمة هذا الإصغاء أنه يحصل في شكل تلق نقدي للمقول (لِمَا يقوله الآخر متحدثا أو كاتبا)؛ أي في شكل استقبال للخطاب يتغيا فهمه، ابتداء، وتفهمه والبحث عن مساحة تقاطع معه أو – إن هي عزت – مساحة تفاهم. هذا وحده ما يقود سلوكنا تجاه الآخرين إلى التزام قيمة الإنصاف.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى