من أجل تمييز دقيق لمفاهيم الإيديولوجيا
عبد الإله بلقزيز
لم يكن النظر إلى الإيديولوجيا بوصفها وعيا مغلوطا مجرد شطط في حكم معرفي عليها، من وجهة نظر إبستيمولوجية تنتصر للعلم والمعرفة على غيرها فحسب.
ربما كان النظر ذاك كذلك في نطاق النزعتين الوضعانية والعلموية، المسكونتين بفكرة المعرفة العلمية، أما خارجهما فكان مشروعا أن يقال إن الوعي الإيديولوجي قد يكون، فعلاـ عائقا أمام معرفة تتغيا تحقيق القدر الضروري من الموضوعية (النسبية على كل حال).
والإيديولوجيا تكون عائقا لأن تدخلها في الموضوع المدروس لا يحترم قاعدة من قواعد الدرس العلمي؛ هي الحياد: حياد الذات الدارسة. وليس في الإيديولوجيا حياد، كما نعلم، لأن مبناها على مطالب ومصالح، ولأن بُغيتها ليست «الحقيقة». وهي لا تلقي بتأثيراتها غير المرغوب فيها على المعارف العلمية الحقة، من جنس المعارف التجريبية، بل حتى على المعارف التي تنتمي إلى دوائر الإنسانيات والاجتماعيات.
هذا ما يفسر لماذا تشَدد مَن تَشَدد في التمييز بين الإيديولوجي والمعرفي وعدم المرادفة بينهما – ونحن منهم – ولماذا بدَوْا قساة على الإيديولوجيا – ونحن لسنا هنا منهم – في ما يكتبونه عنها. والحق أن التمييز مشروع بين الحدين، متى كان الحديث عن الإيديولوجيا يقع في دائرة النظر الإبيستيمي، وفي سياق بيان مدى إيجابها أو سلبها في التمكين لمعرفة رصينة، حائدة عن الهوى ومطابقة لنوع موضوعها. أما خارج النطاق المعرفي، حيث معياره الخطأ والصواب، فللإيديولوجيا بيئات أخرى مناسبة لا تبدو فيها عبئا على المعرفة أو على الموضوعية؛ أعني البيئات التي لا تنحكم أوضاعها وعلاقاتها بمبدأ الحقيقة والخطأ، بل بمعايير أخرى تناسبها. وهي في البيئات هذه تكتسب معنى إيجابيا، أو غير قدحي، أو هي، على الأقل، تبدو مشروعةَ الاستخدام في تحليل ظواهر تلك البيئات (الاجتماعية) وعلاقاتها، بل تمس الحاجة، أحيانا، إلى ذلك الاستخدام لفهم ما يعتمل داخل تلك البيئات.
حين نسلم – انطلاقا من موقف معرفي صرف، بأن الإيديولوجيا تجافي المعرفة الموضوعية، ولا تتغيا حقيقة كما المعرفة تتغياها؛ وحين نسلم بأن المصلحة هي قوام الإيديولوجيا وأساسها الذي عليه تقوم، يصبح سائغا – حينها – أن نلتمس للإيديولوجيا مشروعيتها. إن مشروعيتها، هنا، متأتاة من مشروعية موضوعها: المصلحة. وهذه الأخيرة ليست شأنا مختلقا أو مفتعلا، وإنما هي واقع موضوعي، قائم وثابت، في الاجتماع الإنساني. العلاقات الإنسانية والاجتماعية قائمة على مصالح وتحددها المصالح.
وهذه ليست واحدة، دائما، بل غالبا ما تكون متعددة ومتباينة. والإيديولوجيا إذ تبنى على المصالح، وتشارك – هي – في بناء الوعي بهذه المصالح، تدور مع تلك المصالح ترابطا وتمايزا، تبعا لما يقوم بين الناس من علاقات الوحدة والاختلاف؛ وتكون تارة مبدأ توحيد وصهر، وتكون تارة أخرى، مبدأ تفرقة وتمايز. كم من مصلحة مشتركة جمعت بين جماعات وفئات ذات مصالح متباينة فكونت لديها إيديولوجيا مشتركة (وطنية، قومية، إصلاحية، ديمقراطية، دينية، علمانية…)، وكم من مصلحة فئوية (طبقية، حزبية، عصبوية) حجبت عن قواها مصالحها مع جماعات وفئات أخرى، فحكمت عليها بأن تتترس وراء إيديولوجيا خاصة بها مبايِنة لغيرها.
الإيديولوجيا، بهذا المعنى، وعي جماعي بمصلحة، ونظام فكري لتبرير تلك المصلحة، أي لشرعنتها وتسويغ الدفاع عنها. وهي تضيق وتتسع تبعا لضيق واتساع نطاق المصلحة التي ترتبط بها، ونطاق القاعدة الاجتماعية الملتحمة أو المتضامنة بها. مبدأ الإيديولوجيا، هنا، اجتماعي ومادي صرف، والوعي الذي من نسيجها – ويطلق عليه اسم الوعي الإيديولوجي – لا يوزن بميزان المعارف ومراتبها، وبالتالي لا يحكم عليه بأنه خاطئ أو مغلوط أو صادق، بل يوزن بميزان الفوائد الناجمة منه، فيحكم عليه بأنه ناجع أو غير ناجع.
أما حين تعرف الإيديولوجيا، تعريفا شاملا، بأنها مجموع الرؤى والتصورات والخيالات والتمثلات التي تكونها أمة أو جماعة قومية عن نفسها، وعن العالم من حولها، فإن في تعريفها هذا ارتفاعا بها إلى معنى الثقافة الجامعة: الموروثة والمكتسبة. وهي تكون جامعة، سواء عبرت عن نفسها من خلال ثقافة عالِمة ولغة عالمة (= ثقافة النخب)، أو من خلال ثقافة الشعب الشفوية؛ إذ تظل السمات المشتركة جامعة أو سارية المفاعيل فيهما معا.
وغني عن البيان أن استخدام مفهوم الإيديولوجيا بهذا المضمون الأنثروبو- ثقافي جائز، لأن مبناه على حقيقة اختلاف ثقافات المجتمعات والأمم وتباين خصائصها الذاتية: القومية والدينية والجغرافية والأنثروبولوجية؛ الاختلاف والتباين اللذان هما حصيلة آثار المواريث التاريخية والتجارب الحاضرة. ومن النافل القول إن هذا المفهوم التاريخي الأنثروبو- ثقافي للإيديولوجيا يكتسب مشروعيته من حقيقة رسوخ هذه الظاهرة من التمايز الثقافي والقيمي بين المجتمعات الإنسانية كافة: على ما بينها من جوامع ومشتركات إنسانية لا تقبل الإنكار.
حين نسلم – انطلاقا من موقف معرفي صرف، بأن الإيديولوجيا تجافي المعرفة الموضوعية، ولا تتغيا حقيقة كما المعرفة تتغياها؛ وحين نسلم بأن المصلحة هي قوام الإيديولوجيا وأساسها الذي عليه تقوم، يصبح سائغا – حينها – أن نلتمس للإيديولوجيا مشروعيتها