شوف تشوف

الرأي

معنى أن تكون مهاجرا

فيروز فوزي
«مغاربة العالم»، هكذا يسمينا «مغاربة المغرب»، بمجرد ما نغادر الوطن الأم بحثا عن وطن يحضننا بالتبني. هذا قدرنا نحن مغاربة الشتات، تتفرق أحلامنا ودماؤنا على القارات والبلدان، نحمل صفة «العالمية» بمجرد ما يتم التحويل الأول بالعملة الصعبة إلى خزائن الوطن. نتسكع في البلدان والقارات، ونحن نفكر بذواتنا وذوينا وبالسبل الكفيلة بتحقيق أحلامنا، التي قد تتحول في أي منعطف إلى كوابيس نغدو في أعقابها كائنات منبوذة.
في داخل كل واحد منا ابن بطوطة، يلقي عصاه في أرض الله الواسعة وهو ينشد بيت الشنفرى :
وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى
وفيها لمن خاف القلى متعزل.
يغبطنا القاصي والداني من معارفنا على «الزهر»، الذي حالفنا وعلى عودتنا الميمونة خلال العطل الصيفية، حينما نعود محملين بحقائب مملوءة بالهدايا، وقد علت وجوهنا «علائم الزهر» الذي طلع لنا. لكن لا أحد منهم يسأل عما نكابد من صعوبات العيش ومشاق الغربة، التي تنهش عظامنا. لا أحد يمسح دموعنا، حينما نشتاق إلى مراتعنا الأولى، ولا نجد من يطبب آلامنا.
أن تكون مهاجرا معناه أن تقطع حبل السرة، الذي يصلك بشجرة أنسابك ووطنك وأصدقائك، وأن تتحمل وحدك ضريبة العيش بمنأى عن التربة التي أنبتتك، والأم التي حملتك وهنا على وهن.
أن تكون مهاجرا معناه أن تقايض وطنك المشمس، بثلاجة كبيرة مفتوحة على السماء، تضطر معها إلى العيش تحت رحمة المكيفات والمدافئ، وقد تمر عليك أسابيع طوال وأنت محجور ببيتك، بسبب جائحة الطقس البارد حد القرف.
أن تكون مهاجرا معناه أن تتقيد بصرامة القوانين والالتزامات المفروضة على الجميع بوطنك الجديد، وتنسى تماما حياة «لفشوس» والفوضى التي أدمنتها بوطنك، وتنسى قليلا مقولة «مدبرها حكيم» وتتحمل كامل مسؤوليتك.
أن تكون مهاجرا معناه أن تسير وحيدا في حدائق ومتنزهات غناء، تحاول أن تتفيأ نضارتها، فيما حديقة قلبك جرداء، يخضر فيها حنين موغل في الشجن، وأنت على شفا حفرة من الانهيار النفسي، تتساءل: «أشنو كندير فبلادات الناس..؟».
أن تكون مهاجرا معناه أن تتخلى عن عاداتك وتقاليدك وتعتنق أعرافا جديدة، وقد تتوه وأنت تخالط شعوبا وقبائل قادمين من آفاق بعيدة، قادمين مثلك طلبا للعيش الكريم. وتضطر إلى بلع لسانك الدارجي لتلهج بألسنة غريبة عن أرومتك ووجدانك.
أن تكون مهاجرا معناه أن تستطيب العيش على المسكنات، إذا لم تكن من مدمني الكحول، حتى لا تتحول حياتك إلى جحيم رمادي بفعل «الستريس»، ولن تسعفك أجود الخدمات الطبية وأنجع الأدوية، لأنك تعاني من أنفلونزا الاشتياق لأهلك ووطنك، لأنك مصاب بداء الاغتراب المزمن.
أن تكون مهاجرا معناه أن تعيش منتميا لوطنين وهويتين بقلب واحد، تتسارع نبضاته من الخوف كلما رن هاتفك النقال، الذي قد ينقل إليك خبرا مفجعا.
أن تكون مهاجرا معناه أن تنذر زهرة شبابك والقسط اليانع من عمرك في العمل المضني، حتى تؤمن مستقبلك الذي لا يعني سوى سنوات قليلة تفصلك عن أرذل العمر، تنفقها في بلدك الأم الذي قد تعيش فيه فصلا جديدا من الاغتراب، بعد أن شاخ وقضى نفر كثير من أهلك ومعارفك، وبعد أن صرت مجرد رقم تسلسلي مسجلا في أرشيف الحالة المدنية.
أن تكون مهاجرا معناه أن تستنبت جيناتك في تربة جديدة، لترى امتدادك الأنطولوجي يتنصل من محتدك، ويعتنق مللا جديدة كشكل من أشكال الردة البيولوجية. مما يجعلك أمام تحدي العودة إلى وطنك، وأنت ترى فلذات كبدك بوطنها الأم غير وطنك.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى