معركة من أجل الحجاب
عمر العمري
كان «الإخوان» يخصصون جزءا من نقاشهم داخل «الجلسة» التربوية للحديث عن هموم «الكاريان».. كانت أغلب تدخلاتي تكون في هذا الجانب بحكم عامل القرب.. كنت قويا في انتقاداتي.. أعيب على «الإخوان» أنهم يثيرون فقط قضية «الدعارة» في الكاريان.. وسبب لي هذا آلاما كثيرة.. ينظرون إلى واقعنا باحتقار.. هم في المدينة ينعمون بالسكن المريح.. والفضاء الجميل.. وأولادهم يدرسون في مدارس محترمة.. ونحن لم نستطع أن نتخلص من «الوادي الحار» الذي اتخذ طريقه أمام منزلنا، ويأتينا بكل ما «فَضُلَ» عن الناس..
«الإخوان» يلبسون ثيابا جميلة.. بذلات وأقمصة أنيقة.. ومنهم من يضع ربطة العنق.. أخجل أحيانا من ملابسي التي لا تليق بهذا المقام.. شعرت بعدم الارتياح منذ بداية «الجلسات» الأولى.. فالجانب «الأخلاقي» ليس أولوية في الكاريان.. هناك العدو الأول للإنسان وهو الفقر.. والجهل.. والمرض.. كيف نريد من إنسان أن يكون «إسلاميا» وهو يعاني من كل هذه العوائق..
قلت للإخوان:
ـ لا بد من مساءلة «المخزن» عن الحياة البئيسة للناس.. وعن الشطط في استعمال «رجاله» لسلطتهم التي لا حدود لها.. ألا ترون بأم أعينكم «تسلط» القايد والمقدم «شقيفة»؟.. ألم يسجنوا والدي ظلما؟؟
حكيت للإخوان قصة «الوزير» الذي يسقي فلاحته بالماء الصالح للشرب.. في كل مرة يتدخل أحدهم للرد على تساؤلاتي التي لا تنتهي.. يتجنبون الحديث عن «المخزن».. يدعونني إلى قراءة السيرة.. وأصول الفقه..
قالوا لي:
ـ إن مهمتنا الأولى هي «الإصلاح».. وينطلق من الفرد.. ثم يشمل في ما بعد الجماعة.. وإن في الدين «أولويات».. وهناك «مقاصد».. وإن الإسلام هدفه جلب المصلحة للناس ودرء المفاسد عنهم.. ولا بد لي أن أتعلم الترجيح بين كل ذلك.. نصحوني بتعلم «فقه الأولويات»..
قلت لهم:
ـ هناك مفاسد أعظم في الكاريان؟؟..
نصحوني بالصبر والاحتساب.. وأن هناك يوما موعودا تتغير فيه كل الأمور إلى الأحسن.. وأنه علي أن أهتم بأمور «الأمة».. وأن أتطلع إلى ما هو أسمى..
ظن بعض الإخوان أني متأثر بالفكر اليساري.. خصوصا عندما أتكلم لهم عن الظلم الاجتماعي وعن الفوارق الطبقية.. وأن دين الله جاء ليحارب كل أنواع الظلم.. وكان «اليسار» آنذاك في أوج ازدهاره.. في بعض الأحيان كنت أجد في قلبي «هوى» يساريا.. كدت أعتقد في بعض اللحظات أنه هو الأنسب للقضاء على مشاكل الكاريان..
تساءلت أكثر من مرة لماذا لا يكون النظام العلماني هو الأفضل للمغرب؟؟
على كل حال لم أكن متفقا مع «الإخوان» على أن مشكل «الكاريان» هو مشكل «أخلاقي».. ضربت لهم مثلا بجارتنا «حليمة».. شابة جميلة.. تمتهن الدعارة لتعيل أسرة عاطلة عن العمل.. تمنيت لو أتيحت لي الفرصة لأتزوجها وأريحها من هذا العناء!! ثارت ثائرة البعض.. كاد بعضهم أن يتهمني في ديني.. لكن منهم من قال إني حديث عهد بالتدين.. وإني في حاجة إلى المزيد من الجلسات التربوية حتى يستقيم أمري..
نهرني أحدهم:
ـ اتق الله يا أخي.. كيف تقبل أن تتزوج عاهرة.. إنها مسؤولة عما هي فيه.. وكل من في الكاريان مسؤول عن الوضع الذي فيه.. أنت أيضا مسؤول عن الحالة التي أنت فيها…
لم أدع هذا «الأخ» البورجوازي أن يكمل حديثه:
ـ كيف يمكن لك أن تحس بهؤلاء المساكين وأنت لم تعش في حياتك ما عاشوا.. كيف للشبعان أن ينتبه إلى الجوعان؟؟ وكيف للسليم أن يشعر بما يشعر به المريض؟؟ أنت تعيش في أحضان دافئة، فكيف لك أن تشعر بمن يعاني وحيدا من شدة البرد؟؟
اضطرب حال الجلسة في هذا اليوم.. فتدخل «أبو أيمن» كعادته، فلطَّف الأجواء.. وتعانقت مع «الأخ» في نهاية اللقاء.. وعدنا مرة أخرى إلى «السفسطة» التي لا نهاية لها..
داخل الجلسة التربوية، كان حديثنا في هذا الموضوع سطحيا ومبتذلا أحيانا.. نركز على الظاهر وننسى الجوهر.. نهتم بلباس المرأة وحجابها ونغفل عن معاناتها النفسية والظلم الذي تتعرض له من قبل المجتمع.. الإخوان إذا نظروا إلى المرأة نظروا إلى جسدها وما يمكن أن تحدثه من فتنة للرجال.. ولم ينتبهوا في تلك الفترة إلى أن المرأة كائن حي.. له إحساس وكيان.. له حاجيات ومطالب..
عندما عشت في البادية لم أنتبه إلى أن شعر المرأة عورة.. ربما لأن أغلب النساء يسترن أجسادهن.. كبرت في البادية أجهل كل شيء عن دين الله.. ولم أسمع يوما بأمر الحجاب أو «النقاب» إلا عندما دخلت عالم «الجلسات» التربوية.. تحدث الإخوان كثيرا عن لباس المرأة في عهد الجاهلية وفي صدر الإسلام.. عليها أن تغطي رأسها وجسدها كله إلا الوجه واليدين.. قرأت ذلك أيضا في الكتب التي استعرتها من «أبو أيمن».. خرجت بقناعة واحدة هي أن جسد المرأة شر لا بد أن تستره.. ناقشنا المسألة داخل الجلسة مرات عديدة..
اقتنعت تماما أن أختي «زينب» لا بد أن ترتدي الحجاب في أقرب وقت.. ومن سوء حظها أني بحثت أمر حجابها مع الأخ «أبو إيمان» رئيس الجلسة.. مهندس دولة.. أنيق الملبس.. طيب المعشر.. وهو في الحقيقة «سلفي» الفكر أكثر من «إخوانه».. علمت في ما بعد أن «جماعتنا» تضم «إخوانا» في الظاهر، لكنهم «سلفيون» في الباطن.. مسألة «الحجاب» في بداية «تحركنا» كانت أولوية أيضا..
التقيت بـ«أبو إيمان» ذات يوم في مسجد «المدينة».. سألته على حين غرة:
ـ تعرف أخي «أبو إيمان» أن لي أختا غير محجبة.. وأعلم أني مسؤول عنها يوم القيامة، لذلك ارتأيت أن ألزمها بزي الإسلام الحنيف.. لكني أفقد الوسيلة الناجعة لتحقيق هذا الواجب..
ـ ما عليك إلا أن تأمرها بذلك.. فأنت لا تريد لها إلا الخير والنجاة من عذاب الله.. وسيعينك الله على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. لكن عليك ـ أخي ـ أن تروم في ذلك الحكمة والجدال بالتي هي أحسن.. والله الموفق..
انتابتني حماسة جياشة.. انطلقت كالثور الهائج.. تصورت الأمر كأنه معركة لا بد لي من حسمها بالضربة القاضية.. لم أكن أحسن حالا من «الدون كيشوت».. خضت معارك طاحنة اكتشفت بعدها أني كنت غبيا أكثر من «الديلامنشا».. شحنني «أبو إيمان» مثل البطارية.. فالذين عاشوا في «الكاريان» يعرفون حق المعرفة ماذا يعني «الباتري».. كنا نحتاج إلى شحنه مرة في الأسبوع، عندما اقتنت لنا «زينب» تلفازا مثل الصندوق الذي تضع فيه والدتي الملابس..
انتظرت أختي المسكينة في المساء بعد عودتها من العمل.. سألتها بكل صرامة:
ـ من اليوم ستغطين رأسك وصدرك (كانت تترك جيبا مكشوفا في اتجاه عنقها).. ولن يظهر من جسدك إلا هذا وهذا (أومأت إلى يديها ووجهها)..
تسمرت أختي واقفة في مكانها.. لم تفقه شيئا مما أقول.. وأجابتني أمي مكانها:
ـ اترك أختك وشأنها.. يكفيها أنها تخرج كل يوم إلى العمل لتأتيك بلقمة تأكلها.. أما أنت فيبدو أنك تحتاج إلى «فقيه» يكتب لك ما «يقيك» شر ما أنت فيه (كانت لا تزال تعتقد في بركة الفقهاء)..
نزل علي كلامها كالصاعقة.. صرخت في وجهها بكل بلادة:
ـ كلامك فيه شرك.. لا بد أن ترجعي إلى الله وتتوبي من هذا الاعتقاد الفاسد.. لن أسمح من اليوم لـ«زينب» أن تذهب إلى العمل دون لباس يغطي كامل جسدها..
ثارت الوالدة ـ رحمها الله ـ في وجهي:
ـ سمعت الجيران يقولون إنك أصبحت من «الإخوان».. أنت من أصحاب «الخميني» كما قال «القايد».. لقد عشنا في البادية ولم نسمع بهذا الدين الجديد.. لم يحدثنا عنه آباؤنا وأجدادنا.. أختك شريفة الأصل ولا تحتاج إلى مثل هذا الفولار حتى تكون عفيفة..
أجبت الوالدة بكل حمق:
ـ هذا الكلام نفسه كان يردده الكفار في الجاهلية.. كانوا يقولون للرسول (ص) نعبد فقط ما ألفينا عليه آباءنا.. تريدين أن تخرج «زينب» سافرة.. متبرجة.. ألا تفكرين في كلام الناس؟
ـ هل يهمك فقط كلام الناس.. نحن نخاف الله.. ولا نحتاج إلى «أصحاب اللحايا» ليعلموننا ديننا..
ـ هؤلاء الذين تتكلمين عنهم يعملون بالليل والنهار حتى يرجع الناس إلى الإسلام.. عوض أن نشكرهم تطلبين مني أن أبتعد عنهم.. لن أتراجع عن هذا الأمر حتى يطبق شرع الله في هذه البلاد..
بكلمة بسيطة جدا أخرجت أمي من ملة الإسلام وأدخلتها في زمرة «الكفار».. والسبب تافه جدا وهو «الحجاب».. أتشاجر مع الوالدة بسبب «فولار» تضعه أختي فوق رأسها.. ما المشكل إذا كانت «زينب» إنسانة شريفة ونبيلة.. تشتغل في معمل الخياطة من أجلي.. ما المشكل إذا لم تضع خرقة على رأسها؟؟ هل الإسلام كله أصبح ينحصر في ملابس معينة تلبسها المرأة؟؟ تحولتُ إلى قاض في رمشة عين..
انتهت معركة الحجاب بدون نتيجة.. خاصمت أختي شهورا عديدة.. أحسست بالفشل في عدم إقناع أسرتي بما سمعته في الجلسة.. وبما حفظته من الكتب.. سمعت وقرأت أن «الحجاب» فرض على المرأة.. لكن لم أفقه في ذلك الوقت المبكر من «التدين» أنه مسألة شكلية فقط.. كما أن اللحية لا تعدو أن تكون مجرد شعيرات تنبت في الوجه.. وأن الإيمان بالله والعمل الصالح هما جوهر الدين.. انتبهت في ما بعد أنه كان علي أولا أن أحرص على أن تكون علاقتي بأسرتي علاقة طيبة تسودها المحبة.. فقبل أن أدعو أختي إلى الحجاب «الشرعي» كان علي أن أدرك أن المسكينة غادرت فصول الدراسة في سن مبكرة.. وأنها اشتغلت في رعي البهائم وهي ما زالت فتاة بريئة.. وأرغمت على العيش في كاريان أضيق من رأس إبرة، بعدما كانت تعيش في بادية شاسعة لا تحدها أطراف ولا تنتهي إلى أفق.. تحولت المسكينة من مهنة الرعي إلى العمل في مصنع للملابس في مدينة بائسة..