معركة سهل أنقرة عام 1402
كان تيمورلنك كما وصفه المؤرخ البريطاني جون أرنولد توينبي يحب تخليد ذكراه في التاريخ بالرعب الذي لا حدود له، كما بشار البراميلي المعاصر، وبالفظاعات المروعة، وبالدماء والرؤوس المقطوعة كي يبنى منها المآذن، وبالطبع مقروناً باللعنات التي لا تنتهي إلى يوم الدين من المذبوحين والمصعوقين بالرعب المقيم.
قال توينبي عنه في كتابه القيم، دراسة التاريخ، وهو يبحث انتحارية النزعة الحربية وأنها السلاح الذي يقضي على صاحبه في النهاية: (وأفظع ما ارتكبه تيمور من أفعال التدمير كان ضد شخصه؛ فقد جعل اسمه خالدا بأفعال التدمير، التي محت من ذهن الناس كل ذكرى للأفعال التي كان يمكن أن يذكر بها ذكرى حسنة).
إن اسم تيمورلنك عند أكثرية الناس الساحقة، يعني شخصية عسكرية اقترفت قدراً من الفظائع طوال فترة الأربعة والعشرين عاماً من حكمه؛ مثلما اقترفه الملوك الآشوريون خلال مائة وعشرين سنة. أو المجرم السوري في خمس سنين أبو البراميل والكيماوي بما لم يدر في خلد تيمور الأعرج)؟
إننا لنتخيل المجرم الذي سوَّى مدينة أسفراين بالأرض عام 1381م، وكدس خمسة آلاف رأس بشرية في المآذن في زيري في نفس السنة، وطرح أسراه من لوريستان أحياء من أعلى المنحدرات عام 1386م، وذبح سبعين ألف شخص وجمع رؤوس القتلى في هيأة مآذن في أصفهان عام 1387م، وذبح مائة ألف أسير في دلهي عام 1398م، ودفن على قيد الحياة أربعة آلاف جندي مسيحي من حامية سواس عقب القبض عليهم عام 1400م، وابتنى عشرين برجاً من جماجم القتلى في سوريا عامي 1400 – 1401 م.
إن تيمور قد جعل ذكراه تختلط في أذهان أولئك الذين يعرفونه بمثل هذه الأفعال بذكرى غيلان السهب مثل جنكيزخان وأتيللا وأترابهما الذين أمضى تيمور النصف الأول من حياته وأحسنه، في شن حرب جهاد ضدهم. وإن جنون العظمة التي جعلت تيمور يصاب بجنون التدمير، قد تحكمت فيه فكرة واحدة مدارها الإيحاء إلى مخيلة الإنسانية بإدراك قوته الحربية، عن طريق الإساءة إلى البشر إساءة منكرة)، وهو ما سيحفظه العالم للمجرم السوري.
حتى الآن لم نفهم بعد المغزى التاريخي العميق لهذا الارتطام التاريخي، حتى ابن خلدون المرتعب من هذا (الغول) الذي دلوَّه بسلة من سور دمشق لمقابلته بعد أن ترك الملك المصري (الظاهر برقوق) دمشق إلى مصيرها تجاه تيمورلنك بعد أن سمع عن محاولة انقلاب ضده في مصر!!
لم ينتبه، وليس بإمكان أحد ولا ابن خلدون، إلى المغزى التاريخي الذي سوف يتجلى بعد قرون، فكل ما فعله ابن خلدون أنه كان حريصاً على سلامة جلده من هذا الذي اعتاد شرب الدماء، والتلذذ بقطع الرؤوس (ذلك الذي يمتلك كل واحد منها مائة مليار خلية عصبية!!) لذا قبَّل يده، وتظاهر له بأنه ينتظره منذ فترة بعيدة، لأن المنجمين كانوا يتوقعون قدومه!!
صاحب العقل السنني الصارم ولا غرابة حيال الغيلان، من أمثال اليهودي ابن زرزر منجم الملك الأسباني ألفونسو الثامن، كذلك أعطاه دابته الممتازة ـ سيارة المرسيدس لتلك الأيام ـ حينما رأى رغبة ملك (الططر كذا!) فيها، بالإضافة إلى علب الحلوى المصرية الفاخرة لإطعامه ـ بالطبع بعد أن يتذوقها ابن خلدون كيلا تكون مسمومة على عرف تلك الأيام!.
وفي النهاية يتحفنا ابن خلدون بمنظر كاريكاتور عاصره في حضرة تيمورلنك عن رأيه في منصب الخلافة!! الذي يستجديه أحد الذراري من بقايا خلفاء بني العباس الذين نجوا من الذبح من قلعة دمشق من جنود تيمور!! بدعوى أن (هذه الخلافة لنا ولسلفنا وإن الحديث صح بأن الأمر لبني العباس ما بقيت الدنيا؟!).
كان تيمورلنك أعقل من تلك المخلوقات الممسوخة؛ فجمع له القضاة للفتوى، ولم يكن أمام ابن خلدون ـ الفطن في مجالس الغيلان ـ إلا الموافقة على ما خرج به فقهاء تيمور بأن لا أحقية له في الخلافة، ولا غرابة لأن خطط تيمور لم تضم بعد إلى مشاريعها احتلال مصر، وكانت معركة أنقرة المرعبة في انتظار الأتراك، ولسبب أسخف بكثير من طلب الخليفة الدعي، وذلك عندما هرب والي مدينة طالباً اللجوء السياسي عند با يزيد خان، وأصر تيمور على إقامة الحق واسترداد الفار.
انتبه توينبي إلى طرف من المغزى التاريخي في حدين، الأول هو (ذلك أن نزعة تيمور الاستبدادية باكتساحها كل شيء وجدته في طريقها، في اندفاعها الأرعن نحو دمارها نفسها، قد أوجدت فراغاً جرَّ العثمانيين والصفويين في النهاية صوب ارتطام، كانت فيه الضربة القاضية على المجتمع الإيراني).
والثانية وهي الأهم (ولكن بعد ما اتخذت أفعال تيمور سبيلها على النسق التدميري بوقف تقدم الإسلام في أوراسيا إلى الأبد، بل تحول المغول والكالموك بعد ذلك بقرنين إلى المذهب اللامي من بوذية ماهايانا).
ويبدع مالك ابن نبي في تعليقه على ظاهرة (العمى التاريخي) هذه، ثم الارتطام الحضاري، ويقارن بين تحطيم قوة (طغطميش) التي كانت في طريقها لاحتلال روسيا، والتي يحللها توينبي على الشكل التالي في ظروف افتراضية (ففي ظل هذه الظروف الافتراضية ربما تجد روسيا نفسها اليوم؛ داخل نطاق إمبراطورية تضم نفس مساحة الاتحاد السوفيتي الحالية، ولكن مع اختلاف الأهمية؛ إمبراطورية إيرانية تحكم فيها سمرقند موسكو، عوضاً عن أن تحكم موسكو سمرقند)، وتحطيم قوة با يزيد الأول المستعدة للانقضاض على أوربا.
جاء في كتاب وجهة العالم الإسلامي لمؤلفه المفكر الجزائري مالك بن نبي ما يلي ص (200 – 203):
(لقد قام تيمورلنك في الواقع بعمل لم يكن يستطيع إدراكه حتى بعد انتهائه منه، لأن مغزاه التاريخي الحق لا يمكن أن يظهر إلا بعد عدة قرون. إن مسألة كهذه قد تتركنا مشدوهين بحجة أنها ذات طابع ميتافيزيقي، ولكن لكي نعطي للأحداث تفسيراً متكاملاً، يتفق مع مضمونها كله، يجب ألا نحبس تصورنا لها في ضوء العلاقات الناتجة عن الأسباب، بل ينبغي أن نتصور الأحداث في غايتها التي انتهت إليها في التاريخ، ومن هذا الجانب قد يلزمنا أن نقلب المنهج التاريخي: فنرى الظواهر في توقعها، بدلاً من أن نراها في ماضيها، ونعالجها في نتائجها لا في مباديها، فلكي نفهم ملحمة تيمورلنك ينبغي ـ مثلاً ـ أن نسأل أنفسنا: ماذا كان يمكن أن يحدث لو أتيح لطغطاميش أن يحتل موسكو، ومن بعدها وارسو؟ ولو قدر لبايزيد أن ينصب رايته على أطلال فيينا، ثم على أطلال برلين؟
لو حدث هذا لأذعنت أوربا حتماً لصولجان الإسلام الزمني المنتصر، ولكن ألا يدفعنا هذا إلى أن نرى توقعاً مختلفاً تمام الاختلاف عما حدث فعلاً، كان سيحدث في التاريخ؟
كانت النهضة الأوربية التي مازالت في ضمير المقادير ستنصهر في (النهضة التيمورية) ولكن هاتين النهضتين ـ على الرغم من عظمهما ـ كانتا مختلفتين، فلم يكن مغزاهما التاريخي واحداً، فلقد كانت الأولى فجراً يفيض على عبقريات جاليلو وديكارت وغيرهما، بينما كانت الأخرى شفقاً يغلف الحضارة الإسلامية لحظة أفولها.
كانت إحداهما بداية نظام جديد، وكانت الأخرى نهاية نظام دارس، وما كان شيء في الأرض يستطيع أن يدفع عن العالم الليل الذي أخذ يبسط سلطانه آنئذ على البلاد الإسلامية في هدوء، فلو أن تيمورلنك كان قد اتبع دوافعه الشخصية لما استطاع شيء أن يحول دون نهاية الحضارة الإنسانية. فهناك حسب تعبير إقبال (خطة للمجموع) هي التي تكشف عن اتجاه التاريخ.
لماذا حال تيمورلنك دون قيام با يزيد وطغطاميتش بنشر الإسلام في قلب أوربا؟
والجواب: لكي تتابع أوربا المسيحية جهدها الحضاري الذي لم يكن العالم الإسلامي بقادر عليه منذ القرن الرابع عشر، حيث كان في نهاية رمقه، فملحمة الإمبراطور التتري تجلو غاية التاريخ، إذ كانت نتيجتها متطابقة مع استمرار سير الحضارة ودوامها، كيما تتعاقب دوراتها، ويتم الكشف الخالد عن العبقريات التي تتناوب على طريق التقدم (فإن سيف تيمورلنك هو الذي شق الطريق أمام الحضارة الغربية الوليدة وسط أخطار الغروب، التي كانت تخيم على العالم الإسلامي، فهل يمكن في ظروف كهذه أن نتحدث عن نوع من (العمى)؟ وهل لا يمكن أن نرى في ذلك أمارة على نوع من التجلي العلوي وراء تصرفات تيمورلنك؟) اهـ.
وفي مكان غير بعيد عن سيف طغطميش جلس رجل يرقب السموات العلى (كوبرنيكوس) ليقول على خوف إن الأرض ليست مركز الكون، بل إن الأرض ليست أكثر من تابع يدور حول الشمس. وكانت هذه العاصفة العقلية الأولى التي غيرت المصير الأوربي برمته.