معركة الفيروسات (2 ـ 2)
بقلم: خالص جلبي
هناك مسألة تقض مضجع الباحثين، فإذا كانت الفيروسات قابلة للعدوى والمرض والرشح والتعب، أفلا يعني هذا أنها كائنات حية؟ ويقول أوجين كونين (Eugene Koonin) من المعهد الصحي الوطني الأمريكي، إنها مسألة حركت الكثير من الإثارة بين جماعة الباحثين في علم الفيروسات، وبذلك فإن الحاجز المزعوم بين الفيروسات والعالم الخلوي الحي، قد تم اختراقه وتجاوزه..
كانت الفيروسات حتى اللحظة قطعا ميتة من مادة مبلورة من الحوامض النووية مثل الملح والسكر، ولكن فيها إمكانية التكاثر، ولذا قال الطبيب الفرنسي هل الفيروسات حية أم ميتة؟ دعونا لا نتنازع حول الكلمات، وبالنسبة إلي فأي نظام عنده قدرة التكاثر وتطوير نفسه ونسخ نفسه من جديد، فهو عندي كائنات حية.
ومن يقول هذا الكلام رجل ذو وزن في هذا العلم، وحين مقابلته تقوم السكرتيرة بتوزيع ملفه الشخصي بهدوء؛ فإنجازاته زادت عن ألف مقالة و180 فصلا في كتب علمية مرجعية و17 عملا تم نشره، ويحمل فخر اكتشافه جرثومة منحت اسمه (راوول تيلا Raoul tella).
أما الذي جعل اسمه يلمع في الأوساط العلمية فهو كشفه عن الفيروس ميمي (Mimi)، وحين تزوره في مكتبه تراه يندفع وهو ينكب على نكش صور الفيروس لضيوفه في المكتب: «آه هل تعلمون كيف يبدو الفيروس ميمي؟ شكل مدور بأضلاع مطوقة بتاج من الشوك، مثل الشعر البارز»، ثم ما يلبث أن يتقدم بصورة عنه من المجهر الإلكتروني. ويشرح الدكتور راوول: «إنها أشكال من الحياة لا تقدر حق قدرها». ويعتبر الفيروس ميمي دليله الأكبر في نظريته، لأنها تناقض كل ما يعرفه الأطباء عن الفيروسات؛ فهو أولا كبير جدا، يكاد يصل قطره إلى نصف ميكرون (400 نانو للقطر ويحمل1,2 مليون حمض نووي)، وهو أكبر بكثير مما يعرفه الباحثون عن بقية الفيروسات.
وهناك ميزة إضافية كسرت مفاهيم الأطباء حول الفيروسات، فالباحث (أندري لوف Andre Lwoff) الذي نال جائزة نوبل عام 1957 عن أبحاثه، أرسى تقليدا يقول إن الفيروسات تحمل مادة وراثية ناقلة من أحد نوعين، فإما كانت من النوع الأصلي (DNA)، أو من النوع الناقل (RNA)، أما ما كشف عنه طبيب مارسيليا فهو أن فيروس ميمي يحمل كلا النوعين، فوجب على الأطباء تصحيح مفاهيمهم حول الفيروسات. ونظرا لعظم مادته الوراثية، فإن الفيروس ميمي يلقي في ظله جينوم أكثر من 20 نوعا من البكتيريا.
ولد الدكتور راوول في السينغال سنة 1952، حيث كان والده طبيبا عسكريا هناك، ودرس هو الطب في مارسيليا ومونبوليي، وعمل في تاهيتي وولاية أطلنطا بأمريكا، وبعد أن طاف في العالم هجع في بلدته والآن العالم يأتيه، بفضل مخبره المرجعي، الذي يضم الكائنات الممرضة، فيتصلون به من كل أنحاء الأرض من آسيا وأوربا الشرقية وأمريكا وإفريقيا.
وفي عام 1992 ضربت الجائحة مدينة برادفورد في بريطانيا، وعجز الباحثون عن الإمساك بالجرثومة التي تسبب التهاب الرئة الصاعق، حتى اهتدوا إلى سرها، حينما بدؤوا يبحثون عن الفيروسات التي كانت خلف الجائحة، ثم كشفوا عن فيروس آخر أكبر أعطوه اسم ماما بدل ميمي، إلا أنهم رأوه يمرض هو بذاته وعن طريق الفيروس سبوتنيك.
ويعلق راوول: «أن يكون الفيروس ماما حيا أو ميتا ليس مهما، فالموضوع هنا يدور حول نظام بيئي في غاية التعقيد، لم يفهم أو يبحث بعد».
كلف راول من وزارة الصحة الفرنسية عام 2001، لدراسة إمكانية هجوم بيولوجي على فرنسا ومغبة ذلك وطرق مكافحته. وكانت النتيجة مخيبة للآمال، فقد اكتشف لدهشته مشاف تعبانة غير مهيأة، ولا يوجد ما يكفي من المخابر، واقترح على الحكومة الفرنسية إنشاء مخابر جديدة وإعداد مطارات خاصة، وبناء مشاف خاصة، ولكن شيئا من هذا القبيل لم يحصل. حتى جاءت جائحة كورونا (كوفيد- 19)، فقالوا هل إلى مرد من سبيل؟
يقول راوول الناس لا يستوعبون أن الفيروسات آلات قتل مخيفة، وعدد الناس الذين يموتون بأمراض الفيروسات أكثر من حوادث الطرق، وحوالي 3 في المائة من البشر هم مصابون بالتهاب الكبد «سي» الوبائي (Hepatitis C)، والعديد من السرطانات تحركها الفيروسات.
ويذهب فضول طبيب مارسيليا إلى زيارة القبور ليعرف ماذا فعلت الأمراض بالتاريخ، ويبحث في عظام المقابر عن جراثيم وفيروسات لم تكن معروفة من قبل، ليكتشف أن الذي دمر جيوش نابليون كان القمل وما حمل من أمراض، وأن طواعين العصور انتقلت عبر طريق الحرير من الصين كما انتقل الحرير، شاهدا على أثر الأمراض في التاريخ.
ونحن علمنا أن نهاية روما كانت على يد البعوض والملاريا، وفشل فرديناند دليسبس ـ بطل قناة مصرـ في شق قناة باناما؛ فقد قهره البعوض، حتى جاء الأمريكيون فبدؤوا في القضاء على البعوض، قبل شق الترعة. وفات هذا المغزى على المهندس الفرنسي فرديناند، فقاده إلى الإفلاس في مشروعه الجديد، بعد أن ملأ خديوي مصر من شحم عضديه، وجيوبه بالليرات الذهبية.
يقول طبيب مارسيليا ليست الجراثيم فقط هي الممرضة والمعدية، بل كذلك الروايات والأفكار.
وبعد أن أصبحت الفيروسات الثلاثة، سبوتنيك وميمي وماما، ما يشبه أفراد عائلته، يروي القصة عن والده الذي روى له وهو طفل صغير عن ميمي، التي هي أم الشجرة البشرية. قال ومن يومها انحفرت عندي في الذاكرة، فأطلقته على اسم الفيروس المكتشف؛ فإذا اجتمعت بأفراد عائلتي فذكرتها انفجروا في الضحك، وبدؤوا في ترداد الأغنية التي كنا نعشقها في الطفولة (Mimi l,amibe).