بقلم: خالص جلبي
يجب أن نعرف أن كمية السكر في الدم في حدود 5- 6 غرامات، وهذه لا تكفي أكثر من ربع ساعة لحاجة البدن؛ فمن أين سيأتي إمداد الدم بالسكر وبشكل منتظم؟ خاصة إذا علمنا أن غذاء الخلايا العصبية الأول والمفضل هو السكر بالدرجة الأولى؛ فإذا حصل نقص عن 50 ميليغراما في 100 سم3 من الدم فإن المرء يشعر باضطراب ذهني وانزعاج، وإذ هبط أكثر من ذلك عن 40 ميليغراما أصيب المرء بارتعاشات عضلية وإغفاء متزايد واختلاجات، وإذا حصل أكثر من هذا حدث ما يسمى بالسبات السكري، وهي حالة الغيبوبة الكاملة، بسبب نقص السكر الشديد!
إن الذي يؤمن كل هذا هو الكبد مركز التموين الأول؛ لأن السكر حينما يمر إلى الكبد ينظر الكبد نظرة البصير في وضعه؛ فإن وجد أن الحاجة قائمة قلَبَه من سكر عادي إلى مولد سكر (غليكوجين)، وإذا زاد عن حده الذي يريده حوّلَه إلى مراكز التموين الأخرى وهي العضلات، حيث يُختزن هناك أيضا بشكل مولد سكر يكون جاهزا تحت الطلب، وبعد هذا يكون ثمة انتظام بين مقدار السكر في الدم ووضعه في الكبد؛ فإذا استنفد البدن السكر قام الكبد بشكل آلي تلقائي بحل السكر المتكاثف عنده إلى سكر بسيط مستساغ إلى الدم، ومن الدم ينتقل إلى كل خلايا الجسم التي تحتاجه، وهنا نتساءل: يا ترى ما الذي يحدث للسكر عندما يعبر الدم إلى الكبد، هل يتحول كله إلى مولد سكر، أم ماذا؟ وذلك قبل أن نصل إلى خاتمة المطاف في الخلية. إن الطب يجيبنا فيقول إن أمام السكر ثلاث طرق؛ وهذه الطرق تنظم أيضا بحسب حاجة الجسم؛ فهو إما أن يجتاز الطريق السريع فورا فلا يتحول إلى شيء خلال الكبد، بل فورا إلى الأنسجة، حيث يحترق ويتحول إلى غاز فحم وماء، وهذه الطاقة كما ذكرنا تصرف تدريجيا، حسب حاجة الخلية، وإما أن يتحول إلى دسم وشحم، حسب حاجة البدن إلى ذلك وحسب الفائض، ولذا نرى أن الإكثار من النشويات يؤدي إلى سمنة، وإما أن يدخل العضلات ليتحول إلى مولد سكر كما ذكرنا، أو في الكبد، ولكن وضعه في العضلات يختلف عن وضعه في الكبد؛ لأن الكبد يقلب الغلوكوز عند زيادة الوارد من الغلوكوز (سكر العنب)، ويحصل العكس، أي حل الغليكوجين إلى غلوكوز، عند حاجة البدن، وهذا طبعا يمشي باستمرار ودون توقف لحظة واحدة من ليل أو نهار، وذلك لأن استهلاك الجسم للسكاكر دائم، من أجل تموين الجسم بالطاقة والحرارة اللازمة للحياة.
أما مولد السكر في العضلات فهو إما أن يتحول إلى حمض لبن أثناء استهلاكه، وهذا بدوره يتحول في الكبد من جديد إلى مولد سكر، أي إن الحلقة تكون مغلقة ولا يضيع شيء سوى هذه التحولات، وإما أن يحرق ويستفاد من القدرة المتشكلة. ثم لنتابع رحلة هذه الذرة التي مرت في هذا الطريق الوعر المنظم الشائك المتناسق، حيث نصل إلى البوابة السرية المتحركة في جدار الخلية، حيث يلقى القبض على ذرة السكر بواسطة خميرة، ويقوم هرمون الأنسولين بدور السائق الذي يوصل الذرة إلى الخلية، وبدور المسهل لدخول الذرة السكرية إلى الخلية، حيث تصل إلى مثواها الأخير «فمستقر فمستودع قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون»، (الأنعام الآية: 98). وهنا نتساءل مرتين: أولا من الذي يسيطر على كل هذه التفاعلات المعقدة والمنظمة؟ ثم كيف يستقر السكر في الدم بنسبة معينة ثابتة لا تزيد أو تنقص، وهي غرام واحد فقط في كل لتر من الدم، بحيث إن النقص أو الزيادة يؤدي إلى اضطرابات مخيفة، ليس أقلها السبات والداء السكري المشهور في الزيادة؟ وهنا يقف المتأمل خاشعا وهو يرى هذه الأسرار العجيبة وهي تخبره عن بعض التفاصيل الرائعة التي تحدث؛ فهناك من المنظمات الهرمونية ما يحير، وهناك المنظمات الهرمونية التي تقوم بفعل لجم لزيادة السكر، وهناك هرمونات مضادة تفعل بالعكس، وهي تعمل بانتظام فالأنسولين([1]) هو الذي يقوم بإنقاص السكر في البدن، وذلك بزيادة إدخاله إلى الخلايا لزيادة استخدامه، أو لجم انحلاله من الكبد، وزيادة قابليته للتحول إلى الدسم، وإنقاص التحولات الأخرى التي تصل إلى سكر، كما في تحولات الدسم والحموض الأمينية، وأما الهرمونات المضادة وهي تشترك جميعها بحل السكر فهي هرمون (الجلوكاكون) الذي يفرز من المعثكلة (البنكرياس) وهرمون النمو من الفص الأمامي للغدة النخامية وبعض هرمونات قشر الكظر والأدرينالين من لب الكظر([2]) وكذلك التيروكسين وهو هرمون الغدة الدرقية الذي يتعاون أيضا في الاستقلاب وحل السكر أيضا، وأما الثبات والتوازن ما بين هذه الهرمونات وتنظيم إفرازها بالتعاون مع الكبد وجعل السكر في ثبات واستقرار في الدم، فالأمر فعلا يدعو إلى الدهشة والعجب، ولكن لا عجب في إبداع خلق الله «صنع الله الذي أتقن كل شيء»، (النمل، الآية: 88).
نافذة:
ثمة انتظام بين مقدار السكر في الدم ووضعه في الكبد فإذا استنفد البدن السكر قام الكبد بشكل آلي تلقائي بحل السكر المتكاثف عنده إلى سكر بسيط
([1])- الأنسولين هرمون يفرز من المعثكلة من جزيرات خلوية تسمى جزيرات لانغرهانس وسنشرحها بالتفصيل عندما تمر معنا.
([2])- الكظر غدة تزن عدة غرامات فوق الكلية وهي قسمان قشر ولب وكل منهما له هرموناته الخاصة.