السجن في العادة للمجرمين والقتلة، ولكنه اليوم أيضا لسجناء الرأي والمعارضين السياسيين. وتوجد في أقفاص الغابة العربية أكبر نسبة من معتقلي الضمير والفكر في العالم. ولم يبق من هذه الجيوب الستالينية التي تحبس الإنسان من أجل الكلمة، إلا بقايا من في بورما وكوبا وكوريا الشمالية وبعض الأنظمة العربية.
ويبدو أن تربة العرب قاحلة عنيدة لاستنبات بذرة الديموقراطية، ومن لم يغير نفسه غيره التاريخ. وفي يوم زعم تشاوسيسكو أنه استثناء عن القانون، فمات بعدها بأربعة أيام ملعونا بدون قبر. ومن عارض فكريا في عالم العربان فسجن، فليس مضمونا أن يخرج بعد إمضاء فترة حكمه، فلعله لم يعلن (التوبة النصوح) بشروطها الثلاثة بعد، وعليه مراجعة الفروع الأمنية بعد خروجه من المعتقل دوريا، للتأكد من خلو دماغه من الأفكار الخطيرة. ومن أجرم فقتل، خرج مع نقص مدة المحكومية بربع المدة، بموجب السنة القضائية التي تعد تسعة أشهر. وهناك من اعتقل بدون محاكمة لمدة خمس وعشرين سنة ولم يزره أهله، إلا بضغط من جمعيات حقوق الإنسان العالمية.
وإذا كان المسجون ينتظر الحرية، فالوطن العربي في معظمه مرتهن في سجن كبير حتى إشعار آخر. ومن خرج من السجن الصغير تحول إلى المعتقل الكبير، ولا فرق كبير بين السجن الصغير والكبير، فهنا قضبان الحديد وهناك قضبان الخوف.
وهكذا فالسجن في العالم العربي لم يعد مكانا للعتاة، بل واحة للأحرار. و(مدارس يوسفية)، بتعبير التركي «سعيد النورسي». ولم يعد السجن مكانا للقتلة، بل مكانا للرصيد السياسي والشهرة. واليوم تتناقل الأخبار عبر الفضائيات أي خبر، ولو كان لشخص مجهول، فتحيله من الإهمال إلى الشهرة. والنظام بهذا يعمل ضد نفسه بحماقة يشكر عليها، تعجل في أجله من حيث لا يشعر، ويحيل المواطنين البسطاء إلى مناضلين سياسيين، ويزيد عدد الخصوم، ومن زرع الرعب حصد الكراهية.
وكما يقول ويلز، المؤرخ البريطاني: «إن إمساك الناس بقبضة من حديد، تحولهم مع الزمن إلى فولاذ». وفي البيولوجيا تتعلم الجراثيم مقاومة الصاد الحيوي مع فرط الاستعمال. وقوانين الكون لا ترحم، وكل فعل له رد فعل يعادله في القوة ويخالفه في الاتجاه. والويل لمن لا يستفيدون من عظة التاريخ، ومن غفل عن سنن التاريخ لم تغفل سنن التاريخ عنه.
وكما كان لكل (عضو) و(مؤسسة) وظيفة، فالسجن له (وظيفة). فالكلية تنظف الجسم من الأدران فتطرح البول، وكذلك كان السجن فله وظيفة؟
و(السجن) هو العمود الفقري لنظام الطغيان لا يقوى على القيام إلا به، كالمشلول على العكازات.. ويجب التلويح به في كل وقت فوق رأس كل مواطن. ومن حين لآخر يجب دفع كبش فداء لهذه المحرقة، التي لا تكف عن ابتلاع الضحايا هل من مزيد. ولذا كان أول تهديد قام به فرعون لموسى أن هدده بالسجن، «لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين».
وفي (علم النفس) العقوبات نوعان: بالحرمان من المقدس أو التعذيب. والسجن يجمع النوعين، فهو مكان تعذيب مترع بالألم والذكريات المريرة، وهو حرمان من أشد الأشياء قدسية، الحرية.
وقصة السجن قديمة في تاريخ الإنسانية، وأوحى الله إلى نبيه سورة كاملة عن قصة «يوسف»، الذي لبث في السجن بضع سنين. و«جواهر لال نهرو» أرخ حياته بكتاب «من السجن إلى الرئاسة»، وغاندي لبث في أحد اعتقالاته سبع سنين. وأنا كتبت في الزنزانة الانفرادية التي نمت فيها يوما «كل من دخل السجن خرج، وليس كل من خرج سلم. رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق».
وليس المهم أن يسجن الإنسان، بل من أجل ماذا؟ هل من أجل تفجير وذبح (علج) أمريكي من الوريد إلى الوريد، مع التكبير، مثل ذبح الخروف يوم الأضحية، أم أنه سجن من أجل رأيه؟
ويجب أن يكون هذا واضحا أمامنا أن نسجن ليس لأننا قتلنا أو فجرنا أو قمنا بعمليات انتحارية لنسف الأبرياء، بل من أجل التعبير عن الرأي وتحمل تبعة هذا الإعلان، كما كان يفعل الأنبياء، والتهمة التي كانت موجهة إليهم انحصرت في أنهم قالوا «ربنا الله» وكفرنا بالطاغوت.
وفي القرآن سورة أخذت اسم «المؤمن»، وهي قصة معبرة عن ظروف مصادرة التعبير وإعلان الرأي في ظروف الخوف، وأهمية اتخاذ موقف حاسم في ساعات العسرة، ومع أن الرجل كان يكتم إيمانه، ولكنه أعلنه في لحظة يمكن أن تنهي حياته. فقال: «رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه»: إن موسى لا يستحق الموت، لأنه قال «ربي الله». وتختم القصة أن الله نجاه مما مكروا وحاق بآل فرعون أشد العذاب.
خالص جلبي