أعاد الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، مصطلح «مطاردة الساحرات» إلى الواجهة السياسية، قبل سنوات، حين استعمل هذه العبارة لوصف الحملة الشرسة التي قادها خصومه من أجل عزله ومساءلته و«تجرجيره فالمحاكم». الأمر جعل من الرفيق ترامب مادة خصبة لسخرية الصحافة، بل تمت، حينها، دعوة رئيس أعظم دولة في العالم إلى مراجعة دروس التاريخ. «قالو للرئيس سير تحفظ». اعتبرت «الميديا الأمريكية»، آنذاك، استعمال عبارة «مطاردة الساحرات» إهانة لذكرى آلاف الأبرياء من النساء والأطفال الذين فقدوا حياتهم بسبب تلك القوانين القروسطية الظالمة. غير أن الزعيم المثير للجدل لم يخطئ تماما في تشبيه التكالب الإعلامي على إدارته، بما وقع في بلدة «سالم» نهاية القرن السابع عشر. في الوقت الذي تمارس فيه «الشوافات»، اليوم، نشاطاتهن الماورائية بكل حرية، بل أصبحن نجمات لامعات في سماء «السوشل ميديا»، يخبرن الجماهير العريضة بموعد سقوط المطر، وانتهاء الحروب وعودة الحبيب.
كانت النساء الأمريكيات يتعرضن للتعذيب والموت حرقا إذا ثبت اتهامهن بممارسة السحر، بل إن حالة الهيستيريا الجماعية التي أصابت المجتمع الأمريكي، آنذاك، منحت الأزواج الحق في تقديم زوجاتهم إلى المحاكمة بتهمة السحر لمجرد الشك في سلوكاتهن.. بل تفاقم الوضع إلى اعتقال أي امرأة تفكر بشكل مستقل أو مخالف للقواعد التقليدية. «شحال من رجل ف 2023 ماكرهش يرجع هاد القانون يطّبق خصوصا فالمغرب». غير أن قانون مطاردة الساحرات عاد في حلة عصرية جديدة، لا ليطبق على الزوجات «برا والباس علينا»، ولكن ليتم تطبيقه على المشاهير من أهل السياسة والرياضة والغناء، والموضة ومشاهير المنصات الاجتماعية.
كانت مطاردة الساحرات، في الماضي، أداة قمعية في يد السلطة الذكورية، بغرض ترويض النساء ومنعهن من ممارسة مهنة الطب والصيدلة، مثلا. حيث يحتفظ التاريخ بشواهد عديدة تثبت تميز النساء في مجالات صناعة الأعشاب والتطبيب والتوليد. انتقل الخوف من تركيب «الساحرة» لجرعة عشبية مركزة لتسميم الزوج إلى محاكمات ومشانق وحشد شعبي ضد الأبرياء. تحولت ثقافة التجييش الأيديولوجي، اليوم، إلى ما يسمى cancel culture/ ثقافة الإلغاء. وهو مصطلح يتم الترويج له في «السوشال ميديا» من طرف «محاربي الكيبورد». إذ يعمل هؤلاء المحاربون الشجعان على تنظيم حملات تشويه ضخمة في حق المشاهير الذين ثبتت في حقهم تهمة ممارسة حرية الرأي والتعبير. إذ يؤمن جنود لوحة المفاتيح بأن التصريح بآراء مخالفة لقوانين وضوابط الصوابية السياسية كبيرة من الكبائر التي لا تنفع معها توبة ولا يجوز في حقها صفح أو غفران. شهدت النسخة «البرو- ماكس» من مطاردة الساحرات، في السنوات الأخيرة، انتعاشا ملحوظا. لقد رفعت الجماهير الغاضبة شعار «لي دوا يرعف» في وجه العديد من المشاهير، كان أبرزهم المخضرم «كيفن سبايسي»، الذي خسر تاريخه المهني الحافل بسبب اتهامات كاذبة بالاعتداء الجنسي. لم تعر هيئة المحكمة الكيبوردية أي أهمية لصك براءة سبايسي، لتصدر حكما بالإعدام الرمزي على رجل بريء.
عادت ثقافة الإلغاء إلى الواجهة بعد الأحداث المؤسفة التي يعيشها الشرق الأوسط، حيث نشهد احتقانا جماهيريا غير مسبوق تجاه المشاهير الذين يفضلون التزام الصمت إزاء ما يقع، أو يعلنون دعمهم لطرف ضد الآخر. حيث تناسلت صفحات فيسبوكية لمهاجمة اللاعب المصري محمد صلاح، متهمة إياه بالتخاذل في نصرة «القضية» الفلسطينية. إذ تحول نجم ليفربول إلى علامة تصويب، تتلقى سهام الأحكام البهلوانية الجاهزة، من صهيونية وتطبيع وبيع للأرض والعرض. وكأن محمد صلاح يملك لوحة التحكم في الصواريخ التي تسقط على غزة.
هجوم حاد يتعرض له مقدم البرامج السعودي أحمد الشقيري، هذا الرجل الذي أفنى حياته في نشر قيم العمل والمثابرة والتسامح. الشقيري، الذي اضطر إلى إلغاء خاصية التعليق على منشوراته الانستغرامية تفاديا لمواويل السب والشتم من طرف القطعان المغيبة فكريا. لم تشفع للرجل مواقفه وأخلاقه وسعيه الحثيث من أجل مجتمعات «عربية» أفضل. حيث إن المخيلة الجماعية للقطيع لا تعترف سوى بتقديس أيديولوجية معينة. «واخا تكون ملاك منزل، نهار تخالفنا الرأي نخليو دار بوك بكل روح رياضية».
ومن الجدير بالذكر نهاية قصة الحب والغرام التي جمعت الجمهور «العربي» بالمفكر الكندي جوردان بيترسون. هذا الأخير الذي كان، وإلى وقت قريب، بمثابة الأب الروحي لثورة الذكور في وجه الماترياركا، وقائدا لنضالات رجال العالم ضد الظلم.. «الظلم ديالاش؟ والله ماعرفنا..». أطلق بيترسون موجة تغريدات تدين عمليات القتل في حق المواطنين الإسرائيليين. مما جر عليه سيلا جارفا من الهجوم والسب والقذف والتهديد بالتصفية الجسدية من طرف مناصري حماس.
وجدت «جيجي حديد»، وهي عارضة أزياء أمريكية من أصل فلسطيني، نفسها تحت قصف أخلاقي بالمدفعية الثقيلة، بعد أن نشرت نصا تعبر فيه عن أسفها وحزنها ورفضها التام للجرائم المرتكبة في حق المواطنين الأبرياء من الطرفين. إن ثقافة الإلغاء وما يصاحبها من بكائيات ولطميات محاربي الكلافيي، ليس هدفها الانتصار للإنسانية أو الدفاع عن العدل. بل هدف هؤلاء هو تكميم الأفواه، وممارسة القمع الرمزي في حق الأصوات المعارضة للسرديات التقليدية.