مصير إسرائيل بعين مؤرخ يهودي (2 ـ 2)
بقلم: خالص جلبي
بعدما خرج الأمر عن التطويق جاءت تسوية أوسلو ومؤتمر مدريد عام 1991 م، حيث شعر الطرفان أنه لابد من ولادة حلول وسط بأشد من آلام المخاض. وكان أشدها إيلاما اعتراف الفلسطينيين بإسرائيل في حدود ما قبل 1967م، وكان هذا معناه ثلاثة أمور: الاكتفاء بأقل من ربع فلسطين التي سكن فيها أجدادهم، أيام الانتداب البريطاني، وحق إسرائيل في الوجود، وأن طريق العنف مسدود ولا بد من السير في طريق الحل السلمي. كما كان بالمقابل مؤلما لإسرائيل ثلاث مرات: في الاعتراف بقراري 242 و338، والتنازل عن الأراضي المحتلة مع حرب 1967، وبداية الاعتراف بالدولة الفلسطينية. يقول موسكوفيتش إن مقتل إسحاق رابين كان نكسة خطيرة في هذا المسلسل، ويمكن تشبيه ما قام به مع شمعون بيريز بعمل كونراد أديناور وشارل دوغول، عندما سارا بشعبيهما في طريق وعر من أجل توفير السلام للقارة الأوروبية، وقع الطرفان عام 1963 في قصر الإليزيه على الصلح التاريخي المشهور بين الشعبين الفرنسي والألماني. ولكن ما حصل بعد ذلك كان نكسة في الطريق، كما يفعل القطار وهو يمشي في الاتجاه المعاكس تماما، حيث تم تقطيع الضفة بممرات وشوارع للوصل بين المستوطنات، مما حولها إلى أعشاش أو سجادة مرقطة غير متماسكة من الأراضي، بحيث قطع الطريق عليها أن تتحول إلى دولة فلسطينية متماسكة في المستقبل، ولم تقترب إسرائيل من الحل إلا بعدا عنه. وفي هذا الصدد يروي نكتة قديمة عن مصير إسرائيل أنها تشبه قصة اليهوديين اللذين ركبا قطارا، وبمجرد وصول القطار إلى المحطة الأولى أصدر أحد الراكبين تنهدا عميقا. فلما وصل القطار إلى المحطة الثانية، تنهد الرجل على نحو أعلى صوتا، وظهر عدم الارتياح في محياه. فلما دخل القطار المحطة الثالثة، انتصب الرجل واقفا وقد علاه الرعب هذه المرة. سأله الرجل الآخر: «إن أمرك عجيب، فأنت تزداد تنهدا وقلقا وحيرة مع كل محطة نصل إليها؟»، أجابه الرجل: «لو عرفت خبري لعذرتني، فأنا أكتشف نفسي مع كل محطة أن القطار يمشي في الاتجاه المعاكس». تعجب الرجل الآخر أكثر وقال: «ويحك ولمَ لم تنزل من المحطة الأولى، وتستقل القطار في الاتجاه الآخر؟»، قال الرجل: «لقد قطعت تذكرتي ومقعدي مريح، وما يدريني متى يأتي القطار وهل سيأتي القطار؟». وهكذا فإن صاحبنا تابع رحلته في الاتجاه المعاكس. ويعلق موسكوفيتش على هذه النكتة بقوله: وهذا ما يحصل لنا الآن، إننا عاجزون عن الفهم وقررنا منذ فترة طويلة أن نمشي في الاتجاه الغلط. لهذا ليس غريبا أن ندفع الثمن باهظا، وما تنقصنا هي الشجاعة وسرعة اتخاذ القرار للنزول من هذا القطار الذي يمشي باتجاه الهاوية لنبدل اتجاهنا. ويستشهد (موسكوفيتش) بسؤال مؤلم ونابض كان يواجه مهندس الدولة الإسرائيلية الأول (بن غوريون) أن الحرب ضد العرب حسمت، ولكن الدول العربية لم تعترف بإسرائيل، وإسرائيل لم تخرج من دائرة الخطر، ولذا كان يردد سؤالا بدون ملل: «إلى أين ستمضي الأمور؟». يتابع موسكوفيتش تحليله بأن ما حصل بعد هذا لم يزد الأمن الإسرائيلي إلا ضعفا بتطوير نظام الصواريخ والقنابل الذرية والأسلحة البيولوجية. ويرى المثقفون الإسرائيليون سحبا قاتمة تظلل الأفق وتهدد مصير إسرائيل، من نمو الأصولية الإسلامية، وزيادة الإحباط العربي. ليقرر أن تفوق إسرائيل الهائل يقود في النهاية إلى عدم قدرتها على الحياة. وهو بهذا يذكر بمصير دولة آشور التي ماتت، كما وصفها المؤرخ البريطاني (توينبي)، مختنقة في درع سميك تعتلي ظهر آلة حربية متطورة، أو كما في قصة داوود الذي قضى على جالوت بحجر من مرقاع قذفه به داوود فهوى. يقول موسكوفيتش: لن يطول ذلك الوقت الذي تملك دول المنطقة الأسلحة الكمياوية، وإن فيروس عقلية طالبان لم ينته أمره في حرب أمريكا بأفغانستان، وإن الأنظمة العلمانية في الدول المجاورة ستقع في أيدي أولئك مثل التفاحة الناضجة. يقول موسكوفيتش إن الحذر جيد، ولكن الإغراق فيه ينقلب إلى وصفة مشؤومة، واليوم في الكنيست بدأ التفكير في تحويل دولة إسرائيل إلى دولة ثيوقراطية يهودية. والشجعان الذين استطاعوا أن يمشوا في طريق أوسلو لم يمتلكوا الشجاعة الكافية، لتحويل العدو إلى صديق حميم. ويختم موسكوفيتش مقالته بأن الانفجار رجع مجددا، وأن الحل خارج يد الفلسطينيين والإسرائيليين على حد سواء، كما أن أمريكا متحيزة. ليخلص بفكرة عجيبة بتصوره لطريق الخلاص، أن نموذج الوحدة الأوروبية هو باب النجاة، وأن قبول إسرائيل في السوق الأوروبية سيعدل مسار عملية السلام كله ويفرضه على المنطقة. ومع إشراقة شمس اليورو في مطلع عام 2002م، فإن هذا يفتح أعيننا على نموذج جديد من التآخي الإنساني، الذي يضم اليوم 15 دولة وتدرس عضوية خمس دول جديدة، وتتزاحم دول العالم الإسلامي على بابها مثل تركيا والمغرب تقول: «خذونا خذونا»، تضم 372 مليون إنسان على مساحة 3.19 ملايين كيلومتر مربع، بدخل سنوي يزيد على ستة تريليونات أورو، يعيشون في جنة أرضية من الأمن والسلام تجري من تحتهم الأنهار يحلون فيها من كل الثمرات. مما يشكل مشروعا لحل صراعات المنطقة لتأديب الفلاحين الصرب، وفرض سلام عادل على إسرائيل مع العرب. وأن يدخل العرب المشرذمون الذين يدينون بمذهب الغدر ومرض عدم الثقة وعبادة الآباء في مظلة الوحدة الأوروبية إخوانا. إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا، وفي يوم ما ساد السلام الروماني في كل حوض المتوسط، وكذلك السلام العربي أو العثماني. وتلك الأيام نداولها بين الناس.